آخر الأخبار

random
جاري التحميل ...

نصائح و توجيهات قدّمها سيدي الحاج العباس قدس الله سره.

بسم الله الرحمان الرحيم. 

من السيد الضعيف , المفتقر إلى ربه , الحاج العباس القادري , إلى أبنائه وإخوانه في الله أبنائي و إخواني في الله.
تعلمون من طبيعتي الصَّمتُ , والإقلالُ من فضُول القول , لكن بعض التّساؤلات من قِبَـَلِكُم , قد تقتضي مزيداً من النصائح , وتستدعي زيادة التوضيح , لأشياءَ قد كنت وضحتها عن هذه الدعوة إلى الله , التي حَمَّـلتني القدرة الإلهية منذ سنوات أمرها.

أبنائي إخواني في الله .

لعلكم تذركون من خلال مذاكراتنا السابقة , أنَّ الطريقة الصوفية التي دأب عليها أسلافنا , منذ قرن و نصف , هي الطريقة القادرية , التي تعد بركة من بركات العارف بالله , المربي بسر الله , الحاصل على مدد رسوله، جدنا الأعلى ، مولاي عبد القادر الجيلالي ، نفعنا الله ببركته.
ولعلكم تعلمون كذلك ، أنني في الوقت الذي هيأت فيه يد القدرة الإلهية من بين أفراد العائلة من يقوم بتأدية الرسالة ، في متابعة طريقة الأجداد وجدت أنا نفسي منصرفا إلى القيام بمهام الحياة فانشغلت بالفلاحة.
ومن الحق أن مهام الحياة ، حالت دوني في شبابي ودون إشباع نهمي في العلم ، فاقتصرت على معرفة ما يلزم معرفته بالضرورة ، من أمور الشرع ، وقراءة القرآن ، وأحكام الحلال والحرام . ومن فضل الله علي أنني لم أٌحْرَم من إدراك مقاصد الآيات و الأحاديث و الاطلاع على ما تَيَسَّر من سيرة الرسول و أخلاقه وأحوال صحابته ، و على بعض ما أٌثِرَ على السلف الصالح من الأقوال و الأفعال.
وبذاك تذركون أنني لست بشخص يَدَّعي ، ولا بِعالمٍ ينصب نفسه للفتوى ، و لا بمحَدِّثٍ يتَصَدَّى لإرشاد الناس عن طريق شرح الكتاب والسنة . فتلك مهمة العلماء المختصين في دراسة النصوص ، و العُكُوف على فحصها ، و معرفة صحيحها من سقيمها.

وإنما علاقتي بكم علاقة روحية تربوية أخلاقية ، أساسها الصحبةُ في الله ، والمحبةُ من اجله ، و الاجتماعُ على ذكر الله ، و التعرضُ لنفحاته ، و الاشتياقُ إلى معرفة الله ، و الكَرَعُ من مَدَدِ رسوله ، بغية طهارة القلب ، وصفاء السَّريرة ، وتقوية الباطن ، وتنويره بنور الإيمان. ثم ما ينتج عن ذلك ، من إلهام بالدين وصلاح الأخلاق ، وكُلِّ الأعمال و التصرفات ، إذ بصلاح الباطن يكون صلاح الظاهر. فمن حديث النبي صلى الله عليه و سلم " ألا و أن في الجسد مضغة ، إذا صلحت ، صلح الجسد كله ، وإذا فسدت ، فسد الجسد كله ألا و هي القلب ".

ولهذه الغاية الشريفة وحدها ، ينبغي للعبد الصادق في طلبه ، أن يفوض الأمر، ويقوي العزم ويقصد ربه ، دون تشوف إلى ماذا سيختاره الله لعبده. و يَشْهَدُ اللهُ وملائكته ، أَنَّنِي يوم جِئْتُ شيخي ووالدي الروحي سيدي أبي مدين رحمه الله ، لَمْ يَجُلْ ِبخُلدِى، و لاَ مَرَّ بخاطري أن أكون يوماً أهلاً لأنْ أرثَ سِرَّه ، ولا أن أقوم بعده ، بدعوة أو إرشاد . بل جئته صادق الطلب ، وأسلمت له زمام نفسي ليساعدني على معرفة حقيقتها، ويعينني على إزالة الحجب التي تحول بين العبد و ربه . وأنَّى للحجب أن تزول ، بدون تربية روحية صالحة ، يلتقي فيها صِدقُ الدعوة مع صِدقِ الطلب.

إن نشأتي في أحضان الطريقة القادرية. طريقة الآباء و الأجداد ، وفي كفالة والدي رحمه الله على ما عرف به من الصلاح ، لم يعقني من تجديد العزم ، والرغبة في التماس المربي ، باعتباره السبيل المجدي إلى طريقة السلوك والتدرج في المقامات. و من قبل كانت لي أسوة حسنة ، و قدوة صالحة في جدي الثالث (الحاج المختار الثاني ) الذي سلك نفس السبيل . فقد وفقه الله ، واسلم زمام نفسه إلى مرب من ذوي المقامات الروحية العليا في عصره ، رغم نشأته في أحضان الطريقة والتصوف ، فأراه الله على يده من فضله وتيسيره ، ما جعله يصل إلى مقام الحصول على الإذن في اسم الله الأعظم ، فتجددت التربية في يده ، وعُدَّ بذلك من المربين. لكن قبيل وفاته نصح ابنه بالتخلي عن اسم الله الأعظم ، وعن التربية والعودة إلى التبرك. لأن ابنه لم يصل بعد إلى مقام التربية. و من ثم يبدو أن من علامات المربيين يستقل عن أساليب مَن قَبْلَهُ، بالتصرف في وسائل التربية الروحية ، وان يحصل على مقام الإذن في اسم الله الأعظم ، دون حصر ولا عدد. ومن قديم كان المربون ينصحون غير الواصلين من أصحابهم بالبحث عن هذا النوع بعد موتهم ، ليتابعوا سيرهم نحو السلوك والتدرج. ولذلك أنصحكم بالاتصال بمن جاء بعدي ، حتى لا تقف بكم النفس عن متابعة السير. ومن طَلَبَ رَّبَهُ بِصِدْقٍ وإخلاص طَلَبَهُ في كل مكان ، واستعان على معرفته بكل من اظهر فضله على يده.

نعم ، صاحبت سيدي أبي مدين رحمه الله بصدق وإخلاص ، وعاشرته معاشرة خالية من كل حظ أو تشوف ، أجد روحي وراحتي في مجالسته ، لأنني أحبه ، وأحبه حبي لوالدي أو أشد. و ما وعيت أنني خالفت مرة أمره ، أو أهملت إرشاداته التربوية، فهو أهل لكل اقتداء . فقد كان من أخلاقه رحمه الله التواضع و القناعة والزهد في الدنيا ، وكان من سيرته التمسك بالسنة ، وعُرف عند الجميع بالتشدد في أمور الشرع إلى أبعد الحدود ، يغضب لأدنى مخالفة شرعية ترتكب أمامه، كان قويا في ذات الله ، وكان لا يقبل من بين المريدين ، من تهاون في أمر من أمور الدين ، أو استهان بسيرة سيد المرسلين.

أبنائي إخواني في الله. 

هذه صورة صغيرة مقتضبة ، تحكي لكم قصة اتصالي بشيخي ووالدي الروحي سيدي أبي مدين رحمه الله ، و تروي لكم الأثر الطيب الذي تركته تربيته في نفسي ، وبواسطتها ستتعرفون على شيء من حياته و سيرته وأخلاقه التي لامناص لكم من التخلق بمثلها إذا رمتم الصلاح والكمال ، وعلى ضوئها تتشخصون كذلك العلاقة الروحية ، والمحبة القلبية التي تجمعني وإياه .

ولا أكتمكم أن أهم محاورة جرت بيني و بينه ، كانت فيما يتصل باستمرار رسالته التربوية بعد موته، فقد كان رحمه الله يربي الأرواح الطاهرة بعد مرحلة تصفية الباطن وتطهيره عن طريق ذكر الله الذي أرشد إليه الكتاب و السنة بواسطة اسم الله الأعظم ، لأنه من المأذونين لهم في التربية، والإذن في اسم الله الأعظم دون حدٍّ ولا عدد ، يعتبر منزلة جليلة ، قد لا ينالها إلا ذوي المقامات العليا من العارفين ، و خاصة الخاصة من عباد الله الصالحين .

وجدير بمن كانت هذه حالته، في التمسك بالسنة ، والسير على هدي الرسول صلى الله عليه وسلم ، وهدي صحابته ، ممن اجتباه الله لحضرته ، وأيده بتيسيره وتوفيقه ، أن يجرى فضله وأسباب هدايته على يديه ، وأن يصلح به الدين ويقيم به الاعوجاج ، ويحيي به السنة.

أما من قصرت همته وحاله عن مثل تلك المقامات ، ولم تسقه القدرة الإلهية القاهرة إلى التكليف بتربية عباده ، وإرشادهم ، فأولى به إن يعمل أولا على صلاح ذات نفسه ، ثم يبدأ بمن يعول . فجريان أسباب البداية على يد البشر، ورحمة الله الناس بعضهم ببعض ، من الحكم الإلهية التي لازالت العقول البشرية تحار في فهمها .

نعم ، إن أهم محاورة جرت بيني و بين سيدي أبي مدين رحمه الله ، أن ندبني آخر حياته للمسؤولية وحَمَّلَنِي الأمانة وكلفني بأمور التربية بعده فلم أقبل وامتنعت وألح علي فاعتذرت و أشرت لمن هو أولى بها وأحق . وأبى رحمه الله ثقة بي إلا أن أتحملها طوعا أو كرْها ، فسكت مراعاة للأدب.

وفعلا توفي سيدي أبي مدين رحمه الله سنة (1375ﻫ) ولم أجد إثر وفاته ، في طبيعتي التي تميل إلى الصمت ، ومزاولة الأعمال أيَّ استعدادٍ للقيام بالواجب، مع شديد تخوفي من تضييع المسؤولية والتهاون في أداء الأمانة. ويالها من مسؤولية جَسِيمَةٍ مع وَهَنِ العظم وضُعف الجسم وكِبَر السنِّ ولكن ما العمل؟ فقد بقيت على طبيعتي ساكتا نحو خمس سنوات ، بعد موت سيدي أبي مدين رحمه الله ، ولم أر لنفسي أية أهلية للإقدام على أمور التربية ، و لم أشعر في نفسي بنفس الثقة التي وضعها في، بل كنت أرى بنفسي اضعف تلاميذه ، وأحوجهم إلى التعرض للفضل والرحمة . ولكن لأمر أراده الله ، ولِيَعْلَم العبدُ أن إرادة الله فوق إرادته ، وأن قوة أخرى غير قوته تسيره ، كان من الدواعي والأسباب ، ما ألزمني القيام بالواجب .

ففي سنة ثمانين وثلاثمائة وألف (1380ﻫ) ، حضرت مجلسا من مجالس الذكر، فشاهدت أشياء تتصل بالتربية ما كان لها أن تقع ، لو بقي سيدي أبي مدين مربيا روحيا على قيد الحياة ، أو بقيت وسائل تربيته الروحية مستمرة بعد موته، ثم إنني شعرت أنني حملت مسؤولية لابد من تأديتها ، وأن الأشياء التي تقع أمامي في ميدان التربية الروحية ، سوف أُسأل عنها أمام الله ، إن أنا تغاضيت ولم أحاول علاجها فقبلت لذلك أن آذن في الذكر و في الاسم ، لمن عرف بوصية سيدي أبي مدين، وكان يراودني عن ذلك منذ وفاته. وبذلك ظهر هذا الأمر وعرف. وتوافد عليه الناس من كل صوب وحدب .

و من لطف الله بنا وبكم ، أننا لم نوص في هذا الأمر باتخاذ شكل من أشكال الاصطلاحية مما اعتاده أصحاب المعني عند الأقدمين ، يوم كانت العزائم قوية ، ويوم كان التخشن والعزلة والمجاهدة المضنية أساسا للتغلب على النفس وإزالة حجبها. وقد علم الله ضعفنا ، وكثرةَ مشاغلنا في هذا العصر فألهمنا بفضله أن جمَاعَ الأمر كله في الذكر وحسن العبادة ، وان خلوة المؤمن في قلبه ، وأن الإكثار من ذكر الله مع القيام بكل الواجبات الدينية ، والوقوف عند الحدود الشرعية ، كفيل بطهارة القلب والتغلب على طاغوت النفس وإزالة حجبها. ولاشك أن هذا التسيير المنبثق من روح السنة ، والمساير لمشاغل الناس في هذا العصر ، كان إحدى الأسباب التي مكنت الناس على اختلاف طبقاتهم من الاستفادة من هذا الأمر ويعتبر هذا الأسلوب في التربية من تمام إرشادات سيدي أبي مدين رحمه الله . فقد رآني مرة أشقى ، وأحاول ما فوق مقدرتي ، فنهاني ،فقال " دخلنا على التربية من باب الجلال فتعبنا ، ودخلت أنت من باب الفضل والجمال ، فالزم ولا تبرح " .
وكذلك كان الأمر، فقد طرحنا بعده سبيل الشدة والانعزال ، ولم نأخذ من الوسائل إلا الذكر والاجتماع لأجله ، فتيسرت الأمور بحمد الله ، ولم يمر على هذه الدعوة إلى الله ، إلا مدة يسيرة ، حتى استنار بسببها قلوب خلائق ممن حسنت نواياهم ، وشرفت مقاصدهم ، ولم يدنسوها بحظ نفسي أو غرض دنيوي. 

وذكر الله والاجتماع لأجله ، ليس بشيء جديد عن الإسلام، وإنما هو شيء ارشد إليه القرآن في كل المواقف ، وفي جميع الأحوال. ويكون إما بالقلب أو باللسان وعدم الغفلة قال الله جل جلاله " ومن يعش عن ذكر الرحمان نقيض له شيطانا فهو له قرين" وقال عز من قائل "ولاتطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا فاتبع هواه وكان أمره فرطا" وقال " إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويفتكرون في خلق السماوات والأرض" وقال "..رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة" وقال " لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الأخر وذكر الله كثيرا" وقال " فإذا قضيتم الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون" وقال " إن الله وملائكته يصلون على النبي يأيها الذين امنوا صلوا عليه وسلموا تسليما ". 

وكذلك السنة ، فقد أرشدت إلى ذكر الله فرادى وجماعات سرا وعلانية قال مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم : يقول الله :( أنا عند ظن عبدى بي ، وأنا معه إذا ذكرني ، فان ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، وان ذكرني في ملا ذكرته في ملا خير منه) وقال صلى الله عليه و سلم :" يا أيها الناس إن لله سرايا من الملائكة تحل وتقف على مجالس الذكر في الأرض ، فارتعوا في رياض الجنة ، قالوا وأين رياض الجنة ؟ قال مجالس الذكر ، فاغدوا وروحوا في ذكر الله . وقال صلى الله عليه و سلم :" ما من قوم يذكرون الله إلا حفتهم الملائكة ، وغشيتهم الرحمة ، ونزلت عليهم السكينة ، وذكرهم الله فيمن عنده " إلى غير ذلك من الآيات الكريمة ، والأحاديث النبوية الشريفة.

وهكذا كان الكتاب والسنة يرشدان إلى ذكر الله والدعوة إلى الاجتماع على الله والمحبة من اجله وإذا كان من سرٍّ خافٍ في الاستفادة من الدعوة إلى الله، في أي عصر من العصور، وثَم الانتفاع بها والاستفادة من هديها وإرشادها فهو يكمن في الصدق والإخلاص ، ومعاملة الخالق جل جلاله بما يعلمه في السرائر، وما تخفيه الصدور، لأنه تعالى لا ينظر إلى صور العباد ، وإلى أقوالهم ومظاهر أفعالهم ، ولكن ينظر إلى قلوبهم ونواياهم . وفي طريقه لا يكفي قول الخير أو ادعاء العمل به ولكن العبرة بثبوته في القلب واستقراره في النفس . قال تعالى : " إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا".

اعملوا أبنائي إخواني في الله لهذه المعاني وادعوا إلى الله على هذه الصفة واعلموا أن الصدق مع الله ، ومع عباده ، صفة واجبة في حق الرسل وفي حق الصادقين من أتباعهم بل هو أساس الدعوة إلى الله والإرشاد إلى دينه. ومن دلائل الصدق أن يكون الظاهر موافقا للباطن ، وان تكون الأقوال موافقة للأعمال . قال الله تعالى "يا أيها الذين امنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين " .
فالدعوة إلى الله قبل أن تنجح بالأقوال تنجح بالسلوك والأخلاق وحسن المعاملة ومن دعا إلى الله بصدق دعا بأعماله وأخلاقه قبل أن يدعو بأقواله وإرشاداته ، إذ لا إسلام بدون عمل صالح وأخلاق فاضلة ، وإذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : "رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر جهاد النفس" ، فما ذلك إلا أن جهاد النفس أصل لكل بناء وأساس كل عمل صالح وخلق حسن ، فيه تمسك الرسول صلى الله عليه و سلم وصحابته فسعدوا ، وعليه يتوقف جهاد المسلمين ليسعدوا كذلك : " انه لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها " .

نعم إن الصدق أمانة في عنق كل مسلم ، والدعوة بصدق إلى دين الله والرجوع إلى العمل بشريعته ، قائمة بقيام الأرض والسماء وبنص القران يتحمل مسؤوليتها كل من اتبع الرسول ، واهتدى بهدى القران ، وكان على بصيرة من أمره قال الله جل جلاله: " قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا و من اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين".

فكتاب الله هو المرجع ، وشريعة القرآن  هي أساس الدعوة إلى الله ، وروح كل عمل إسلامي وبذلك تعتبر كل تربية روحية لم يساندها القران ، ولم تستهدي بهدى الرسول عملا خاطئا .

على إن كتاب الله ، لا يعيش معه بقلبه ، ولا يستفيد منه لتربية روحه ، إلا من طهر قلبه واستنار وأخلص لله النية في تلاوته وتدبره ، وحملته نورانيته وهدايته على مفارقة من اتخذ آية سبيلا للوصول إلى الأغراض وقضاء الحوائج ، فغير صادق في قراءة القران من اهتدى بغير هديه ، وتهاون في تطبيق أوامره ونواهيه ، فالذي يتلو القرآن وقلبه في غفلة عن فيضه وهدايته ، والعمل بشريعته ضيع القصد من حفظه وتلاوته وصدق عليه قول النبي صلى الله عليه و سلم :" رب قارئ للقرآن والقرآن يلعنه " ، وهم الذين وصفهم الحديث بأن القرآن لا يتجاوز حناجرهم أي لا يصل إلى قلوبهم ، عصمنا الله وإياكم من الإلحاد والابتداع ، ومن كل زيغ وانحراف.

ثم إن للتربية الروحية أسسها ووسائلها أما أسسها فهي ــــ كما تعلمون ــــ تنحصر أولا وقبل كل شيء في العمل بالكتاب والسنة ، والقيام بالواجبات الدينية ، والوقوف عند الحدود الشرعية من حلال وحرام ، باعتبارها المقياس الذي يعرف به الصلاح من الفساد . وقديما قد قيل: " الاستقامة خير من ألف كرامة " وسئل بعض العارفين:" ما سبب انفصال بعض المريدين عن تربيتك؟ فأجاب: إن قلبي متعلق بالشريعة ، ومن خالف الشريعة انفصل عني"، وأحكام الشرع ولله الحمد سهلة يسيرة، وهي التي سطرت أصولها في الكتاب والسنة ، ودونت قوانينها في الكتب الفقهية ، ويظهر أثرها في أعمال الناس ، و في أقوالهم وأفعالهم وتصرفاتهم . فشريعة الله خير ما تمسك به المتمسكون ، وسنة رسول الله خير ما يهتدي به المهتدون . قال الله جل جلاله: " لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة " وقال عز من قائل: " وما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا " وقال النبي صلى الله عليه و سلم :" تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك ، كتاب الله وسنة رسول الله" .

وبمقتضى هذه النصوص تكون وصيتي إليكم ما أوصى به الإسلام ، ونصيحتي ما نصح به الرسول وليس أحد في الشرع بمسؤول عن أحد ، فيما يرتكب من مخالفة ، أو يجني من جريمة إلا بقدر ما يرشده وينقذه ويتمنى له الهداية و حسن المآب ، فمصير الخلق أجمع إلى خالقهم ومحاسبهم ، إن شاء بفضله عفا وإن شاء عاقب . وخير أحوال المؤمن هي التي لا يُزكي فيها عمله ، ولا يرى فيها لنفسه فضلا على غيره ، و يكون في قرارة نفسه أوثق بما عند الله منه بما في يده ، لأنه لا يَعْتَدُّ أمام فضل الله بعمله إلا القوم الضالون ، ولا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون . ففي الحديث :" قلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمان يقلبها كيف يشاء " ومن دعاء النبي صلى الله عليه و سلم :'اللهم يا مثبتَ القلوب ثبت قلبي على دينك" وقديما قد قيل :" لم يقطع أعناق العارفين إلا سوء الخاتمة" إذ لا درجة ولا علم ولا عمل ، ينفع فيما قدر في علم الله في الأزل . فأي درجة تبدو أمام درجة سيد المرسلين ، وخاتم النبيين ، و هو القائل لبنته و فلذة كبده: "لا اغني عنك من الله شيئا "، وقال عن نفسه تشريعا لأمته :"والله لا ادري ما يفعله الله بي ولا بكم إلا أن يتغمدني الله برحمته"، ولعل هذا المعنى هو الذي حمل سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه على القول المنسوب إليه: " ليت أم عمر لم تلد عمر ولم ير الدنيا ولم يكن من البشر".

أما وسائل التربية الروحية لمن حسنت نواياهم وشرفت مقاصدهم ، وصدقوا بجدوى الغاية التي رموا إليها . فهي تنحصر في الذكر والاجتماع من أجله. وقد نصحناكم بالإكثار من الذكر ، لما فيه من طهارة القلب ، وضمان حياته وعلاجه . فأي طبيب غير الذكر ينفع في قلب أظلمت جوانبه ، وتصدت مرآته . وأي دواء غير الذكر يستطيع أن يعيد للباطن صفاءه و استقراره. ففي الأثر: (لكل شيء جِلاء وجلاء القلوب ذكر الله) . والذكر النافع الذي يؤثر على النفس ، ويهز المشاعر والأحاسيس ، ويحيي المؤمن حياة طيبة ، ويخلقه خلقا معنويا جديدا ، هو الذكر القلبي ، المنزه من كل حظ نفسي أو غرض دنيوي ، البعيد عن الانحراف والخلط واستعمال الأسماء ، وغير ذلك مما لا يليق بمقام المخلصين الصادقين . قال الله جل جلاله: " أفمن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها ".

وحين يكون ذكر الله صادرا من قلب طاهر مستنير بنور الإيمان ، فإن الشيطان يفارق سبيله ، وكل ما ينشأ عن هذا النوع من الذكر من الأسرار أنوارا ربانية تمس قلب المؤمن فتتجلى أحيانا في أشكال جذبية مهمتها تشجيع السالك على متابعة السير نحو تحقيق الاستقامة والاشتياق إلى معرفة الله غير انه لا ينبغي أن يفتن بمثل هذه الأسرار من كان يعيش في الحس وكان ما يقع في عالم الروح فوق طاقته . ففي الأثر: "خاطبوا الناس بما يفهمون أتريدون أن يكذب الله ورسوله" .

وعلى العاقل أن يتأدب مع تلك الأسرار ، إن بدت بوادرها ، وان يصون تلك العلامات ،ولا يغتر بها وان يتحكم ــ جهد المستطاع ــ في تلك الأحوال ، حتى لا تخرجه عن حدود الأدب الشرعي ، خصوصا في المواقف الدينية . ومن تمام الصدق أن تكون الأحوال الظاهرة موافقة للأحوال الباطنة ، وان ينشأ كل شعور ظاهري عن شعور باطني . ومن ثم امتازت تربية سيدي أبي مدين رحمه الله بطرح كل تواجد ظاهري ، وأن 'العمارة' لا يعمل لأجلها ولا يسمح بها إلا لمن عظم عليه الأمر واشتد شوقه وحاله عند سماع الذكر وقراءة القرآن ، فتحركت عن غير اختيار منه جوارحه بتحرك باطنه فيترك ــ دون غيره ، وشأنه حتى يعود إليه استقراره الباطني . والأمر في ذلك واضح بينما يخلقه الله في العبد أثرا للذكر، وبين ما يصنعه العبد بيده .

ونصحناكم كذلك بالإكثار من الاجتماع ، إذ لا تربية بدون مجالسة ، ولا توادُدَ بدون اتصال . فبفضل المواظبة على الاجتماع ، حسب الإمكان ، والاتصال بالأرواح الطاهرة وتساقيها بعضها من بعض ، يتغلب المؤمن على المحسوسات ويقوي في نفسه الجانب المعنوي ، وبفضلها كذلك ، يتحول المنحرف عن أخلاق وطبائع تقوده إلى الشقاء إلى أخلاق وطبائع تقوده إلى الطهر والسعادة . وقد عرفتم من بينكم الكثير من الشباب الذي أظلمت الدنيا في وجهه ، ونزل جحيم الانحراف على قلبه ، فضاقت السبل في وجهه على اتساعها ، قد انفرجت الدنيا مرة أخرى أمام عينيه ، ونزل على قلبه رحيق السكينة والطمأنينة ، وذاق نعمة الإيمان وراحة النفس التي لا سعادة بدونها . إنها الحقيقة التي يكشفها الإنسان في باطنه ، ولأنها رحمة الله إذا مست القلوب شعرت بالسعادة ، ورأت هذا الكون على ما فيه من كدر ، كله صفاء وسعادةٍ ،وغضبه إذا نزل ، تحولت معه الحياة الدنيا جحيما لا يطاق.

غير أن مجالس الذكر التي تؤدى إلى هذه الغاية الحميدة ، هي المجالس التي لا يوجد فيها سوى الله ، وهي المجالس الطاهرة من كل رجس ومن كل حظ نفسي أو غرض دنيوي ،لأن نور الإيمان سر خفي ، لا يشعر به إلا المحقون ، ولا ينتقل إلا بين القلوب الطاهرة الصادقةِ ، وبذلك ستضعون كل عمل في مكانه ، وكل مقال في مقامه ، وتعلمون أن كل ما يشغل عن الله ، أو يحول القصد من مجالس الرحمة والتعرض للنفحات إلى مجالس الحظوظ ، وقضاء المئارب يعتبر عائقا يجدر الانتباه إليه . فالعبرة في المجالس الدينية ، وفي كل عمل إسلامي لا تكون إلا بالنية ، ولا يكون فيها للمرء إلا ما نوى . فالذي يقصد المجالس الدينية لغرض دنيوي أو حظ نفسي ، خسر من حيث الناس يربحون . ومن تجرد قلبيا عن كل غرض وأتى مولاه يستمطر رحماته ، ويتعرض لنفحاته ، كان له ما قصد ، وفاز من حيت الكثير من الناس يخسرون . قال النبي صلى الله عليه و سلم :" إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه ".

أبنائي إخواني في الله .

هذه نصيحتي إليكم ، وإذا نصحتكم بشيء فأنا أولى من يتمسك به ، فالله سائلي عن قول لا أشعر به أو نصيحة أعلم غيرها . وأكرر القول بأن من تجاوز عمره الثمانين ، وفقد الصحة والبصر لكبر سنه لا يكون في حاجة إلى جاه أو مال أو أي غرض دنيوي يحمله على قول غير الحقيقة . ولذلك ستعملون بمقتضى هذه النصائح .

وخير ما أنصحك به وأنا على عتبة القبر ، أن تعتمدوا على الله في كل أحوالكم ، وأن تعملوا قبل أن تقولوا ، وان تخلصوا لله النية في القول والعمل ، وأن ترشدوا عباد الله إلى دين الله بصدق وإخلاص وتجرد . فهو أعلم بمن قصده وبمن قصد غيره . ولتكن معاملاتكم وكل أعمالكم مبنية على التناصح والصفاء وإرادة الخير العميم لجميع المسلمين دون تمييز ولا تفرقة . قال النبي صلى الله عليه وسلم :" الدين النصيحة. قيل لمن يا رسول الله؟ قال :لله ولرسوله ، ولأئمة المسلمين وعامتهم" ، واحذروا في طريق الله أن يزحزحكم الشيطان عن سنن العاملين الصادقين . فالتجربة قائمة عند أهل الله ،على أن الدعوة الخالصة لوجهه ، تنفي الخبث ، كما ينفي الكير وسخ الحديد . وقد أبت القدرة الإلهية ، أن يستفيد من أسرارها ، ويتمكن من حقيقتها ،إلا من صحح العزم ، وحسن النية ، وقصدها أولا، لا لشيء إلا لإصلاح ذات نفسه ، ومحاولة معرفة حقيقتها .ثم لا ينبغي لأي كان أن يحول ذكر الله بينه وبين ما طلبه الشرع من القيام بالواجب ، وأداء الحقوق ولا أن يترك أحد الاكتساب والعمل ويتخذ الدعوة إلى الله وسيلة للمعاش . فيعمل كل فيما أقامه الله بصدق وإخلاص ، وليراقب الله في عمله قبل أن يراقب الخلائق، وليكن ذكر الله وقوته وتيسيره خير عون للعبد للتغلب على أمور دينه ودنياه. فإن الله يحب العبد المحترف، ويحب أكثر المؤمن النصوح المتقن لعمله. واملئوا أوقات فراغكم بذكر الله، واجتمعوا لأجله بعد الانتهاء بمشاغل الحياة  فذلك أجدر بالعمل بالنص القائل: ' اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا واعمل لأخرتك كأنك تموت غدا' .وتدبروا أبنائي إخواني في الله هذا الكلام واعملوا بمقتضاه، لتكونوا على بصيرة من أمركم . نسأله تعالى أن يلهمنا الصواب ،ويهدينا الصراط السوي، ويوفقنا و جميع المسلمين إلى ما فيه سعادة الدارين انه سميع مجيب. انتهى.

نصائح و توجيهات قدّمها سيدي الحاج العباس قدس الله سره لمريديه بتاريخ 26 رجب 1388 /19اكتوبر 1968

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق