(يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ* خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ).
البشارة من الله تعالى على قسمين : بشارة بواسطة المَلَكِ ، عند التوفي :{ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ المَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالجَنَّةِ } [ فصلت : 30 ] .
وبشارة بلا واسطة بقول المَلَك ، إذ يُبَشِّرهم ربُّهم برحمةٍ منه ، وذلك عند الحساب . يبشرهم بلا واسطة بِحُسْنِ التولِّي؛ فعاجِلُ بشارتهم بنعمة الله ، وآجِل بشارتهم برحمة الله ، وشتان ما هما!
ويقال البشارة بالنعمة والجنة لأصحاب الإحسان ، والبشارة بالرحمة لأرباب العصيان ، فأصحاب الإحسان صَلُحَ أمرهم للشهرة فأَظْهَرَ أَمَرَهُم للمَلَكِ حتى بَشَّروهم جَهْراً ، وأهلُ العصيان صلح حالهم لِلسَتْرِ فتولَّى بشارتهم - من غير واسطة سِرَّاً .
ويقال إِنْ كانت للمطيع بِشارةٌ بالاختصاص فإنَّ للعاصي بشارة بالخلاص . وإن كان للمطيع بشارة بالدرجات فإن للعاصي بشارة بالنجاة .
ويقال إنَّ القلوبَ مجبولةٌ على محبة من يُبَشِّر بالخير؛ فأراد الحقُّ - سبحانه - أن تكون محبةُ العبد له - سبحانه - على الخصوص؛ فتولَّى بشارته بعزيز خطابه من غير واسطة ، فقال : { يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ } [ التوبة : 21 ] وفي معناه أنشدوا :
لولا تَمتُّعُ مُقْلتي بلقائه ... لَوَهَبْتُها بُشْرَى بقرب إيابه
ويقال بَشَّرَ العاصِيَ بِالرحمة ، والمطيعَ بالرضوان ، ثم الكافةَ بالجنة؛ فَقَدَّمَ العاصِيَ في الذكر ، وقدَّم المطيع بالبرِّ ، فالذَّكر قوْلُه وهو قديم والبِرُّ طَوْلُه وهو عميم . وقولُه الذي لم يَزَلْ أعَزُّ مِنْ طوْله الذي حصَلَ . قدَّم العصاة على المطيعين لأنَّ ضَعْفَ الضعيف أَوْلى بالرِّفق من القوي .
ويقال قدَّم أمر العاصي بالرحمة حتى إذا كان يومُ العَرْضِ وحضورِ الجمعِ لا يفتضح العاصي .
ويقال : { يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ } يُعَرِّفُهم أنهم لم يصلوا إلى ما وصلوا إليه من تلك الدرجات بسعيهم وطاعتهم ، ولكن برحمته - سبحانه - وصلوا إلى نعمته ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ما منكم من أحدٍ يُنَجِّيه عمله . قالوا : ولا أنتَ يا رسول الله؟ قال : ولا أنا ، إِلا أن يتغمدني الله برحمته » .
قوله : { لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ } : قومٌ نعيمُهم عطاءُ ربِّهم على وصف التمام ، وقومٌ نعيمُهم لقاءُ ربهم على نعت الدوام؛ فالعابدون لهم تمام عطائه ، والعارفون لهم داوم لقائه .
ثم قال : { خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَدًا } والكناية في قوله « فيها » كما ترجع إلى الجنة تصلح أن ترجع إلى الحالة ، سيما وقد ذكر الأجر بعدها؛ فكما لا يَقْطَعُ عطاءَه عنهم في الجنة لا يمنع عنهم لقاءَه متى شاءوا في الجنة ، قال تعالى : { لاَّ مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَةٍ } [ الواقعة : 33 ] أي لا مقطوعةٌ عنهم نعمتُه ، ولا ممنوعةٌ منهم رؤيتُه .