آخر الأخبار

random
جاري التحميل ...

صور التميز في القيم الإنسانية عند السادة الصوفية الحرية نموذجا

الحمد الله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم البيين وإمام المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين.

التصوف هو سيد العلوم ورئيسها، ولباب الشريعة وأساسها، وكيف لا وهو تفسير مقام الإحسان، فهو علم يعرف به كيفية السلوك إلى حضرة ملك الملوك، أو تصفية البواطن من الرذائل وتحليتها بأنواع الفضائل.
والتصوف في واقعه الفكري والعلمي منهج روحي للسلوك والتربية من أجل تمثل القيم والمثل التي تسعى النفس لبلوغها، استجابة لتحقيق مطالب تلك الشهادة والشهود الحضاري «وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا»، ولا أدل على سلامة منهج الصوفية من قول الإمام، حجة الاسلام، أبو حامد الغزالي: «إني علمت يقينا أن الصوفية هم السالكون لطريق الله تعالى، خاصة وأن سيرتهم أحسن السير، وطريقتهم أصوب الطرق، وأخلاقهم أزكى الأخلاق، بل لو جمع عقل العقلاء، وحكمة الحكماء، وعلم الواقفين على أسرار الشرع من العلماء، ليغيروا شيئا من سيرهم وأخلاقهم، ويبدلوه بما هو خير منه، لم يجدوا إليه سبيلا، فإن جميع حركاتهم وسكناتهم، في ظاهرهم وباطنهم، مقتبسة من نور مشكاة النبوة، وليس وراء نور النبوة على وجه الأرض نور يستضاء به، وبالجملة، فماذا يقول القائلون في طريقة، طهارتها - وهي أول شروطها - تطهير القلب بالكلية عما سوى الله تعالى، ومفتاحها الجاري منها مجرى التحريم من الصلاة، استغراق القلب بالكلية بذكر الله، وآخرها الفناء بالكلية في الله؟!».
والتصوف يستمد أسسه ومبادئه وأصول فكره من معين الدين الإسلامي، ويؤكد على هذا المعنى الإمام الشاطبي في المقدمة الخامسة: «كل مسألة لا ينبي عليها عمل فالخوض فيها خوض فيما لم يدل على استحسانه دليل شرعي، وأعني بالعمل: عمل القلب وعمل الجوارح، من حيث هو مطلوب شرعا، والدليل على ذلك استقراء الشريعة؛ فإنا رأينا الشارع يعرض عما لا يفيد عملا مكلفا به».
وقد نص العلامة المقعد المنظر زروق الفاسي، محتسب العلماء والأولياء، الدال في منهج القوم على طريق الصفاء على تميز الصوفي وتألقه في قواعده الثلاثة والثلاثين ما حكاه عن سيدنا الشبلي تحت قاعدة: «إنما يظهر الشيء بمثاله، ويقوي بدليله، أن رجلا سأل الشبلي: «كم في خمس من الإبل؟ قال: شاة في الواجب، فأما عندنا فكلها لله، قال له: فما أصلك في ذلك؟ قال: أبو بكر حين خرج عن ماله كله لله ورسوله، ثم قال: فمن خرج عن ماله كله لله فإمامه أبو بكر، ومن خرج عن بعضه فإمامه عمر، ومن أخذ لله وترك لله وأعطى لله ومنع لله فإمامه عثمان، ومن ترك الدنيا لأهلها فإمامه علي رضي الله عنهم، و كل علم لا يؤدي إلى ترك الدنيا فليس بعلم».
وتنطلق القيم عند الصوفي من منطلق ارتباطه بخالقه، وبجعله خليفة في أرضه يسعى لعمارتها بالقيم ماديا و معنويا، فهو يتعلق ويتخلق ويتحقق بأسماء الله تعالى التي تحمل قيما تقتضي الالتزام بها في واقعنا، كما قال سيدي أبو مدين الغوث: «أسماء الله تعالى بها تعلق وتخلق وتحقق، فالتعلق: الشعور بمعنى الاسم، والتخلق: أن يقوم بك معنى الاسم، والتحقق: أن تفنى في معنى الاسم». فالصوفي ينشد دائما الكمال في معاملاته مع ربه ونفسه ومجتمعه، ويسعى إلى إقامة مجتمع قائم على الأخلاق والقيم في أسمى معانيها، وهذا ما دعا إليه سيدي زروق بلزوم اتباع الأحسن في قواعده قائلا: «اتباع الأحسن أبدا، محبوب طبعا، مطلوب شرعا»، ﴿الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله، وأولئك هم أولوا الألباب﴾».
إن الله تعالى يحب معالي الأمور، ويكره سفاسفها، «إن الله جميل يحب الجمال».
ولذا بني التصوف على اتباع الأحسن».

ماذا نقصد بالقيم؟
القيم جمع قيمة وهي: «صفة في شيء تجعله موضع تقدير واحترام، أي: أن هذه الصفة تجعل ذلك الشيء مطلوبا ومرغوبا فيه، سواء كانت الرغبة عند شخص واحد أو عند مجموعة من الأشخاص، مثال ذلك: أن للنسب عند الأشراف قيمة عالية، وللحكمة عند العلماء قيمة عظيمة، والشجاعة عند الأمراء قيمة مرغوبة، ونحو ذلك» فالقيم صفات أو قواعد أو مثل تقام عليها الحياة.
أما القيمة عند السادة الصوفية فهي: «هيئة راسخة في النفس تنشأ عنها أمور بسهولة فحسنها حسن وقبيحها قبيح، فهي تجري في المضادات كالبخل والسخاء والتواضع والكبر والحرص والقناعة والحقد وسلامة الصدر والحسد والتسليم والطمع والتعزز والانتصار والسماح، والضد يظهر حسنه الضد وبضدها تتميز الأشياء.
ونجد السادة الصوفية اعتكفوا على قراءة كتب القيم ليتألقوا ويتحققوا بها، فهذا أبو الحسن الشاذلي يوصي أتباعه بقراءة «الإحياء» و«قوت القلوب» قائلا: «كتاب قوت القلوب يورثك النور، وكتاب إحياء علوم الدين يورثك العلم».
فالسادة الصوفية يحملون أنفسهم على قيم وأخلاق القرآن اقتداء بالنبي ﷺ الذي مدحه ربه: ﴿وإنك لعلى خلق عظيم﴾، ووصفته السيدة عائشة أم المومنين رضي الله عنها بقولها: «كان خلقه القرآن».
فالصوفي يتألق ويرقى بقوله تعالى: ﴿خذ العفو وامر بالعرف وأعرض عن الجاهلين﴾، ويتألق ويرقى بقوله: ﴿وعباد الرحمن الذين يمشون على الارض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما والذين يقولونا ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراما﴾، ونحو ذلك من الآيات.
والقرآن بتشريعه لعبادات جاء لتحقيق قيم الأخلاق، فالصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، والزكاة تطهير وتزكية للمسلم، والصيام طهرة للصائم وتربية على ضبط النفس ونحو ذالك.

نماذج من تميز الصوفية في تناول القيم الإنسانية:

بداية تنوع القيم كتنوع المسالك إلى الله، فتعدد الطرائق بعدد أنفاس الخلائق، فاختلاف المسالك راحة للسالك وإعانة له على ما أراد من بلوغ الأرب والتوصل للمراد، كل على حسب مقامه وحاله وعلمه، وسأقتصر على قيمة واحدة مبرزا فيها سمو الصوفي وترقيه، وهي قيمة الحرية.

الحرية:

والحرية تكلم عنها الحكماء والفقهاء، تناولوها من جهة كونها مطلبا اجتماعيا لاتستقيم الحياة إلا بوجودها وتجلى هذا في نظرياتهم السياسية والفكرية، وأما فقهاء الإسلام فقد أرسى لهم الدستور القرآني قانون الحرية، «لا إكراه في الدين» فما دونه أولى، وقد اعتبرها الشيخ العلامة الطاهر بن عاشور مقصدا من مقاصد الشريعة لأهميتها، كونها مراعاة في جميع الأديان.
وحرية الإنسان مقدسة كحياته، ليس لأحد أن يتعدى عليها «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا».
وعرفها بعض المعاصرين بأنها: قدرة الإنسان على فعل الشيء أو تركه بإرادته الذاتية، وهي ملكة خاصة يتمتع بها كل إنسان عاقل ويصدر بها أفعاله، بعيدا عن سيطرة الآخرين، لأنه ليس مملوكا لأحد لا في نفسه ولا في بلده ولا في قومه ولا في أمته.
هل الحرية تعني الإطلاق من كل قيد؟

لا يعني بطبيعة الحال، إقرار الإسلام للحرية، أنه أطلقها من كل قيد وضابط، لأن الحرية بهذا الشكل أقرب ما تكون إلى الفوضى، التي يثيرها الهوى والشهوة، ومن المعلوم أن الهوى يدمر الإنسان أكثر مما يبنيه، ولذلك منع من اتباعه، والإسلام ينظر إلى الإنسان على أنه مدني بطبعه، يعيش بين كثير من أبناء جنسه، فلم يقر لأحد بحرية دون آخر، ولكنه أعطى كل واحد منهم حريته كيفما كان، سواء أكان فردا أو جماعة، ولذلك وضع قيودا ضرورية، تضمن حرية الجميع، وتتثمل الضوابط التي وضعها الإسلام في الآتي:

أ . ألا تؤدي حرية الفرد أو الجماعة إلى تهديد سلامة النظام العام وتقويض أركانه.

ب . ألا تفوت حقوقا أعم منها، وذلك بالنظر إلى قيمتها في ذاتها ورتبتها ونتائجها.

ج . ألا تؤدي حريته إلى الإضرار بحرية الآخرين.

وبهذه القيود والضوابط تدرك أن الإسلام لم يقر الحرية لفرد على حساب الجماعة، كما لم يثبتها للجماعة على حساب الفرد، ولكنه وازن بينهما، فأعطى كلا منهما حقه.

وأما الحرية عند السادة الصوفية فهي على مرتبتين: حرية كسبية وأخرى وهبية، والكسبية سبب للوهبية.

وهذا ما بينه سيدي ابن عجيبة في معراج التشوف بقوله: «تصفية الباطن من حب غير الحق، حتى لا تبقى فيه بقية لغير الله، وهذه الحرية كسبية، وهي سبب الظفر بالحرية الوهبية، وهي غيبة العبد في مظاهر الرب، فتفنى ظلمة الحدوث في نور القدم، وتختفي قوالب العبودية في تجلي مظاهر الربوبية، فحينئذ يكتب للعبد عقد الحرية، فتكون عبادته وعبوديته شكرا لا قهرا، كما قال سيد العارفين ﷺ: «أفلا أكون عبدا شكورا».
فكمال الحرية عدم العبودية للشهوات، وإرادة الأسباب الدنيوية، فإنه إذا لم يتصف بحقيقة العبودية وكان له مطلب سوى الله، لم يكن كلامه صدقا، ولو طولب يوم القيامة بالصدق في قوله: «أنا عبد الله»، لعجز عن تحقيقه فإنه كان عبدا لنفسه أو عبدا لدنيا أو عبدا لشهواته، لم يكن صادقا في قوله.
فكل ما تقيد العبد به فهو عبد له، كما قال النبي ﷺ: «تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة إن أعطي رضي وإن لم يعط لم يرض»، فسمى كل من تقيد قلبه بشيء عبدا له، وإنما العبد الحق لله عز وجل، ومن أعتق أولا من غير الله تعالى فصار حرا مطلقا، فإذا تقدمت هذه الحرية صار القلب فارغا فحلت فيه العبودية لله فتشغله بالله وبمحبته وتقيد باطنه وظاهره بطاعته فلا يكون له مراد إلا الله تعالى، ثم تجاوز هذا إلى مقام آخر أسنى منه يسمى الحرية، وهو أن يعتق أيضا عن إرادته لله من حيث هو بل يقنع بما يريد الله له من تقريب أو إبعاد فتفنى إرادته في إرادة الله تعالى.
وهذا التألق للسادة الصوفية في فهم القيم يرجع لارتباطهم الوثيق وحبهم العميق لعين الرحمة ومنبع الحكمة سيد الخلق سيدنا محمد ﷺ.

من ذا الذي ما ساء قط ومن له الحسنى فقط
محمد الــهادي الـــــــذي عليه جبـــــريل هبط

-----------------------

الكاتب: الدكتور ويسي عبد الحميد

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق