آخر الأخبار

جاري التحميل ...

صورة الكمال والجمال المحمدي كما وصفه الرواة


حار الرواة في تصوير الكمال المحمدي والجمال الذاتي الذي كان له صلى الله عليه وآله وسلم، وعجزوا عن وصفه إلا أن ذلك لم يمنعهم من تقريب صورته للأجيال المسلمة حتى تتمثل ذلك الجناب العظيم وتتشوف للتعلق به واستحضار شمائله، ولذلك اعترف الرواة بالعجز، وقالوا بلسان الحال قبل المقال: “فمجال هذا الباب في حقه ممتد، تنقطع دون نفاذه الأدلاء، وبحر علم خصائصه زاخر لا تكدره الدلاء”[1]. واكتفوا من ذلك “بقل من كل، وغيض من فيض”[2]. وقال قائلهم: “لم أر قبله، ولا بعده مثله صلى الله عليه وآله وسلم”[3]. وقال الحسن بن علي: “سألت خالي هند بن أبي هالة عن حلية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم -وكان وصافا- وأنا أرجو أن يصف لي منها شيئا أتعلق به، قال: “كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فخما مفخما، يتلألأ وجهه تلألأ القمر ليلة البدر، أطول من المربوع، وأقصر من المشذب، (البائن الطول في نحافة)، عظيم الهامة، رجل الشعر، (الذي كأنه مشط قليلا، ليس بسبط ولا جعد)، إن انفرقت عقيقته فرق (العقيقة شعر الرأس إن انفرقت من ذات نفسها فرقها وإلا تركها معقوصة)، وإلا فلا يجاوز شعره شحمة أذنه إذا هو وفره، أزهر اللون (نيره، وقيل حسن)، واسع الجبين، أزج الحواجب (المقوص الطويل الوافر الشعر)، سوابغ، من غير قرن (اتصال شعر الحاجبين)، بينهما عرق يدره الغضب، أقنى العينين (السائل الأنف، المرتفع وسطه)، له نور يعلوه، ويحسبه من لم يتأمله أشم (الطويل قصبة الأنف)، كث اللحية، أدعج (الشديد سواد الحدقة)، سهل الخدين، ضليع الفم (الواسع)، أشنب (الشنب رونق الأسنان وماؤها)، مفلج الأسنان (الفلج فرق بين الثنايا)، دقيق المسربة (خيط الشعر الذي بين الصدر والسرة)، كأن عنقه جيد دمية في صفاء الفضة، معتدل الخلق، بادنا (ذو لحم متماسك، معتدل الخلق، يمسك بعضه بعضا)، متماسكا، سواء البطن والصدر (مستويهما)، مشيح الصدر (أي بادي الصدر، وقيل مسيح بمعنى عريض)، بعيد ما بين المنكبين، ضخم الكراديس (رؤوس العظام)، أنور المتجرد، موصول ما بين اللبة والسرة بشعر يجري كالخيط، عاري الثديين، ما سوى ذلك أشعر الذراعين والمنكبين وأعالي الصدر، طويل الزندين (عظما الذراعين)، رحب الراحة (واسعها، وقيل كني به عن سعة العطاء والجود)، شثن الكفين والقدمين (لحيمهما)، سائل الأطراف (طويل الأصابع)-أو قال: سائن الأطراف، سبط العصب، خمصان الأخمصين (متجافي أخمص القدم، وهو الموضع الذي لا تناله الأرض من وسط القدم)، مسيح القدمين (أملسهما)، ينبو عنهما الماء، إذا زال زال تقلعا (التقلع هو رفع الرجل بقوة)، ويخطو تكفؤا (التكفؤ الميل إلى سنن الممشى وقصده)، ويمشي هونا (الهون الرفق والوقار)، ذريع المشية (الواسع الخطو، أي أن مشيه كان يرفع فيه رجليه بسرعة ويمد خطوه خلاف مشية المختال، كل ذلك برفق وتثبت دون عجلة)، إذا مشى كأنما ينحط من صبب، وإذا التفت التفت جميعا، خافض الطرف، نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء، جل نظره الملاحظة، يسوق أصحابه، ويبدأ من لقيه بالسلام”[4].

إن هذا الوصف لصورة شمس الإشراق المصطفوية يشوق القلوب لمحبي الذات الشريفة، لتتعلق به صلى الله عليه وآله وسلم، وتهيم في حبه، فتتشكل به الهوية الروحية للمسلم، وتعيش في عروج روحي، وتنشد الكمال الأخلاقي، إن محبته قوت قلوب المحبين ولله در العلامة الكرماني الذي قال: اعلم أن علم الحديث موضوعه هو ذات الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من حيث إنه رسول الله… وحده هو: علم يعرف به أقوال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأفعاله وأحواله[5]. ولا يخفى أن فن الشمائل يساهم في التعريف بأحواله صلى الله عليه وآله وسلم. إنه وصف يقرب ذلك الجمال الرباني، وكيف تتفاعل الموجودات معه، فالجسد الشريف إذا لامس شيئا حل عليه من بركاته ما يحس به الملموس، قال أنس: “ما شممت عنبرا قط، ولا مسكا، ولا شيئا أطيب من ريح رسول الله صلى الله عليه وسلم”[6]، وعن جابر بن سمرة أنه صلى الله عليه وسلم مسح خده، قال: “فوجدت ليده بردا وريحا، كأنما أخرجها من جونة عطار”[7]، وزاد الرواة الأمر وضوحا فقالوا سواء مسها بطيب أو لم يمسها، يصافح المصافح فيظل يومه يجد ريحها، ويضع يده على رأس الصبي فيعرف من بين الصبيان بريحها، ونام صلى الله عليه وآله وسلم في دار أنس فعرق، فجاءت أمه بقارورة تجمع فيها عرقه، فسألها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقالت: نجعله في طيبنا، وهو من أطيب الطيب“[8]، وعن أنس بن مالكا رضي الله عنه أن أهل المدينة فزعوا مرة،فركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فرسا لأبي طلحة كان يقطف، أو به قطاف، وقال: يبطأ، فلما رجع قال: وجدنا فرسك بحرا فكان بعد لا يجارى[9]، وعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها: أنها أخرجت جبة طيالسة، وقالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبسها فنحن نغسلها للمرضى يستشفى بها[10]، فالأكوان علويها وسفليها، سواء من الإنس أو الجن، أو الحيوان، أو الجماد تنفعل لبركته، وتنقلب أعيانها، وتستجيب لدعوته، وتشعر بنوره، فعند ولادته يشاهد من حوله مظاهر العناية الربانية بهذا النبي الكريم، من ارتجاج إيوان كسرى، وسقوط شرفاته، وغيض بحيرة طبرية، وخمود نار فارس، وكان لها ألف عام لم تخمد، وقد خرج معه نور عند ولادته، رافعا رأسه عندما وضعته أمه، شاخصا ببصره إلى السماء، قالت الشفاء أم عبد الرحمن بن عوف: لما سقط على يدي واستهل سمعت قائلا يقول: رحمك الله، وأضاء لي ما بين المشرق والمغرب حتى نظرت إلى قصور الروم. وعندما يضع فمه الشريف ليرضع من ثدي حليمة تدر لبنها ولبن غنمها، وأنه كان إذا أكل مع عمه أبي طالب وآله وهو صغير شبعوا ورووا، فإذا غاب فأكلوا في غيبته لم يشبعوا، وكان سائر ولد أبي طالب يصبحون شعثا، ويصبح صلى الله عليه وآله وسلم صقيلا دهينا كحيلا[11]، وعندما يلتمس أصحابه الوضوء ولا يجدوا الماء يلجؤون إليه، فيضع يده الشريفة في الإناء، ويأمر الناس بالوضوء وهم يشاهدون نبع الماء من بين أصابعه الشريفة، فيكفيهم جميعا[12]، وعندما يشكوا أصحابه العطش في بعض أسفاره يدعو صلى الله عليه وسلم فيستجاب له وينفجر الماء ويستقي الناس[13]، وأحاديث تكثير الطعام ببركة دعائه مشهورة، ومجاميعها مشهودة، فعن جابر أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يستطعمه، فأطعمه شطر وسق شعير، فما زال يأكل منه وامرأته وضيفه حتى كاله، فأتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره، فقال: لو لم تكله لأكلتم منه ولقام بكم[14]، وحين صنع للنبي المنبر ليخطب عليه يبكي الجذع حتى يسمع الناس بكاءه، قال جابر بن عبد الله: كان المسجد مسقوفا على جذوع نخل، فكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا خطب يقوم على جذع منها، فلما صنع له المنبر سمعنا لذلك الجذع صوتا كصوت العشار، وفي رواية أنس: حتى ارتج المسجد بخواره، وفي رواية سهل: وكثر بكاء الناس لما رأوا ما به، وفي رواية المطلب وأبي: حتى تصدع وانشق، حتى جاء النبي صلى الله عليه وسلم فوضع يده عليه فسكت، زاد غيره: فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إن هذا بكى لما فقد من الذكر[15]، وزاد غيره: إن بكاء الجذع تعبير عن التعلق والانفعال لما يجده من الحنين إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولما يشكو من لوعة الفراق وقد أحس ببركة وجوده صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا الانفعال والإحساس والشعور بنور النبوة صورته الكثير من الروايات، قال علي كرم الله وجهه: “كنا بمكة مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فخرج إلى بعض نواحيها فما استقبله شجرة ولا جبل إلا قال له: السلام عليك يا رسول الله”[16]، وعن أنس قال: “صعد النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وعمر وعثمان، أحدا، فرجف بهم فقال: أثبت أحد، فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان”[17]، وروى ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قرأ على المنبر: “وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ” [الاَنعام، 92]، ثم قال: يمجد الجبار نفسه، أنا الجبار أنا الجبار، أنا الكبير المتعال، فرجف المنبر حتى قلنا: ليخرن عنه[18]، وقد امتد هذا الانفعال بنور النبوة إلى ضروب الحيوانات، حيث نجد الكثير من الروايات التي تصور تعلق الحيوانات برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكلامها بين يديه، وإقرارها بالنبوة له، وشكواها إليه، وأدبها في مجلسه، وحزنها على فراقه، من ذلك قصة كلام الذئب المشهورة، فعن أبي سعيد الخدري قال: “بينما راع يرعى غنما له عرض الذئب لشاة منها، فأخذها الراعي منه فأقعى الذئب، وقال للراعي: ألا تتقي الله حلت بيني وبين رزقي. قال الراعي: العجب من ذئب يتكلم بكلام الإنس، فقال الذئب: ألا أخبرك بأعجب من ذلك؟ رسول الله بين الحرتين يحدث الناس بأنباء ما قد سبق، فأتى الراعي النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: قم فحدثهم، ثم قال: صدق[19]، وعن أم سلمة: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم في صحراء، فنادته ظبية، يا رسول الله. قال: ما حاجتك؟ قالت: صادني هذا الأعرابي ولي خشفان في ذلك الجبل، فأطلقني حتى أذهب فأرضعهما وأرجع. قال: وتفعلين؟ قالت: نعم. فأطلقها فذهبت ورجعت، فأوثقها، فانتبه الأعرابي وقال: يا رسول الله ألك حاجة؟ قال: تطلق هذه الظبية. فأطلقها فخرجت تعدو في الصحراء، وتقول: أشهد ألا إله إلا الله، وأنك رسول الله[20]، وأهدت يهودية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بخيبر شاة مصلية سمتها، فأكل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منها، وأكل القوم، فقال: ارفعوا أيديكم، فإنما أخبرتني أنها مسمومة، فمات بشر بن البراء، وقال لليهودية: ما حملك على ما صنعت؟ قالت: إن كنت نبيا لم يضرك الذي صنعتك، وإن كنت ملكا أرحت الناس منك[21].


عبد الله معصر
نشر في ميثاق الرابطة يوم 17 - 02 - 2012

—————————————————–
1. الشفا للقاضي عياض، ج1، ص: 102.
2. الشفا للقاضي عياض، ج1، ص: 102.
3. الشفا للقاضي عياض، ج1، ص: 52.
4. راجع الشفا للقاضي عياض، ج1، ص: 104. الزهور الندية في خصائص وأخلاق خير البرية، تهذيب المقصد من الثالث من كتاب المواهب اللدنية للقسطلاني، نقحه وضبطه وعلق عليه أحمد بن محمد طاحون، ص: 17، مكتبة التراث الإسلامي، الطبعة الأولى 1415هـ/ 1995م. زهر الخمائل على الشمائل للسيوطي، تحقيق مصطفى عاشور، مكتبة القرآن، دون تاريخ.
5. زهر الخمائل، ص: 11.
6. أخرجه مسلم في صحيحه، حديث رقم 2330.
7. أخرجه مسلم في صحيحه، حديث رقم 2329.
8. أخرجه البخاري في صحيحه، حديث رقم 6281. انظر المزيد في الشفا، ج 1، ص: 53.
9. أخرجه البخاري في صحيحه، حديث رقم 2867. ومسلم في صحيحه، حديث رقم 2307.
10. أخرجه مسلم في صحيحه، حديث رقم 2069.
11. الشفا، ج 1، ص: 236.
12. روى حديث نبع الماء من أصابعه صلى الله عليه وآله وسلم جماعة من الصحابة، وأخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما، انظر صحيح البخاري حديث رقم: 200، وحديث رقم: 3572، وحديث رقم: 4152. ومسلم في صحيحه، حديث رقم: 2279، وحديث رقم: 3013.
13. راجع الحديث رقم 706، في صحيح مسلم.
14. صحيح مسلم حديث رقم: 2281.
15. أخرجه أحمد ج 3، ص: 300، وابن أبي شيبة ج6، ص: 319.
16. أخرجه الحاكم والدارمي.
17. أخرجه البخاري، حديث رقم: 3675.
18. أخرجه أحمد ج 2، ص: 72، والنسائي في السنن الكبرى ج 4 ، ص: 402.
19. أخرجه أحمد ج 3، ص: 88، وابن سعد في الطبقات ج 1، ص: 173، والأصبهاني في دلائل النبوة ج 1، ص: 131.
20. دلائل النبوة للبيهقي ج 6، ص: 35.
21. أخرجه البخاري في صحيحه، حديث رقم 2617، ومسلم في صحيحه، حديث رقم 2190.

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق الصوفية