آخر الأخبار

random
جاري التحميل ...

مصطلحات الصوفية..

مصطلحات الصوفية خلاصة ثرية لحياة روحية شاملة واسعة المدى، وتعريفات عميقة لتجربة كبيرة تنطوي فيها أسرار القلوب الخاشعة، وهذه المصطلحات بعد تعمقها وإمعان الفكر فيها تناسب تجربتهم، وتلائم شخصياتهم بل تعد إلي حد ما ترجمة عامة لحياتهم الروحية، ورياضاتهم الدائمة للنفس خلاصا من أسر المادة.

وإذا عرفنا أن التصوف هو حياة باطنية في المقام الأول، فإن هذه المصطلحات ترسم ملامح الصوفي في مختلف أحواله، ومقاماته، وما يرين علي قلبه أثناء سلوكه الطريق. والصوفية لهم نفوس متشاكلة، ومشارب متقاربة، ومشاعر وأذواق متجانسة، فلا جرم أن تكونت عندهم لغة خاصة بهم، إذا نطق بها أحدهم فهمتها جماعته، واستغلق معناها علي غيرهم، ومن أسباب ابهام هذه اللغة أنهم لا يستندون في المعرفة إلي الحس أو العقل أو المنطق، وإنما وسيلتهم الحدس والتجليات والفيوضات، وغير ذلك مما يرد علي القلب. ولما كانت أحوالهم ومقاماتهم خاصة بهم، أو بأناس عاشوا تجارب وجدانية روحية عن طريق الحقيقة لم يجربها إلا أمثالهم، فإن قدرات الناس العاديين تقصر في تمثل مختلف الأحوال والمقامات التي مروا بها، ومن ثم يصعب عليهم فهم مصطلحهم. كما أن المتصوفة يتحدثون عن مقامات هازة للقلب، مغيبة للمرء، لها جلال ووقع في النفس مثل التجلي والمشاهدة والمكاشفة والغيبة وما إلي ذلك، وحديثهم يأتي مقتضبا مركزا، لا تبدو فيه تجاربهم ومعانيهم واضحة كل الوضوح، ومن هذا مصطلح «الجمع والفرق» الذي قال فيه أبوعلي الدقاق: «الفرق ما نسب إليك، والجمع ما سلب عنك» وشرحه القشيري بقوله: «إن ما يكون كسبا للعبد من إقامة العبودية، وما يليق بأحوال البشرية فهو فرق، وما يكون من قبل الحق من إبداء معان وإسداء لطف وإحسان فهو جمع». هكذا لف تعبيرهم أو مصطلحهم غموض يحار المرء في فهم كنهه، وتقريب مرماه، وهذا من أسباب صعوبات المصطلح الصوفي الذي يترجم عن احاسيس باطنية غامضة ومضطربة لا تفهم بالمنطق العادي.وعلى أية حال صارت مصطلحات الصوفية مثل «اللحن» ، واللحن هو أن يقول إنسان قولا مبهما لشخص من جماعته فيفطن إلي معناه، ويخفي علي غيره مغزاه، ولكل جماعة أو طائفة لحن يخفي حقيقة ما في أنفسهم، ولحن الصوفية هو مصطلحهم، فمن عرف لحنهم استبانت له مقاصدهم إلي حد ما، فألفاظهم عادية، لكن لا يفهمها لأول وهلة إلا أهل طريقتهم. وفي هذا يقول الإمام القشيري: «وهذه الطائفة (يعني الصوفية) يستعملون ألفاظا فيما بينهم قصدوا بها الكشف عن معانيهم لأنفسهم، والإجمال والستر علي من باينهم في طريقتهم لتكون معاني ألفاظهم مستبهمة علي الأجانب غَىْرة علي أسرارهم أن تشيع في غير أهلها. ويتردد في كتب الصوفية أن المتصوف «ابن عطاء» يقول نفس الشيء، فقد ذهب إلي أن الإغراب والغموض متعمدان غَيرة علي المذهب الصوفي حتي لا يتشربه غَيرهم، وكان علي «ابن عطاء» أن يتنزه عن هذا القول، فما دام التصوف علما مصلحا مهذبا للنفس، فلماذا لا يتشربه الناس؟ وتجليل هذه المصطلحات بقصد النفاذ إلي قرارها، وإدراك أسرارها، ليس سهلا، إذ مازالت هناك خلافات حول مفاهيم بعضها، ولأنها إشارات ورموز، وتحتاج إلي ايضاحات وشروح، فقد اجتهد قدامي ومحدثون في تيسيرها ليسهل فهمها، ومن الكتب التي عنيت بشرح هذه المصطلحات كتاب «التعرف لمذهب أهل التصوف» للكلاباذي و«قوت القلوب» لأبي طالب المكي و«الرسالة القشيرية» للقشيري و«مصطلحات الصوفية» للقاشاني وغيرها، وهذه الكتب يسرت بالشرح والأقوال والحكايات المصطلحات، وعملت علي تقريبها إلي الأذهان والأذواق، مما جعل القارئ يحيط بأبعاد في المصطلح الواحد. 

والمصطلحات تبدو وقد استقل كل مصطلح منها عن الآخر في الظاهر، فكل مصطلح له اسم، لكن في الحقيقة يؤدي بعضها إلي بعض، وتظهر الحالة الروحية لأهل الحقيقة، فلا معزل للشطح عن الوجد، إذ إن زيادة الوجد تؤدي إلي الشطح الصوفي، ولبعض المتصوفة مثل البسطامي والشبلي والحلاج شطحات، وقيل إن الحلاج قتل بسبب الشطح، ومن أحوالهم «المراقبة» وهي دوام النظر إلي الله، ودوام هيبته في القلب، ومن أحوالهم «المشاهدة» وهي التجلي وحضور في القلب، وليست رؤية بصرية، وهم يربطون بين المراقبة والمشاهدة، لأن المراقب الدائم يزداد يقينه، ويشاهد بأنوار اليقين مالا عين رأت، ولا استقلال للغيبة عن السكر، فالغيبة هي انشغال الحواس عما حولها بوارد يرد علي القلب، والسكر زيادة في الغيبة، وهناك علاقة بين السكر والمكاشفة، فعند السكر تتم المكاشفة بصفة الجمال، وعلي هذا تتداخل الأحوال الصوفية، وتحمل المصطلحات بملائم هذا التداخل. كذلك توضح المصطلحات مراتب مقامات الصوفية، وأطوارهم في الرياضات، فأولي المقامات هي «التوبة النصوح» ولا نهاية لتوبة العارف، لذلك فإن التوبة يتبعها الورع، والورع أول الزهد، والزهد يفضي إلي التوكل علي الله، وهكذا تظهر المقامات أو المصطلحات درجات الصوفي، وترقيه في الطريق الروحي، ومجموع المصطلحات يبين ماهية التصوف وأصوله الإسلامية المتستمدة أصولها من القرآن الكريم، والسنة، والنهج الصوفي في عمومه الذي تبينه هذه المصطلحات وسيلته الرياضات والمجاهدات لتزكية الروح وسموها، وغايته المعرفة. السُگْر ويجدر بنا في هذا المقام أن نعرِّف بأحد المصطلحات مثل السكر، وهو ظاهرة روحية قوية تشمل العبد بعد أن يأتيه وارد قوي، كأن يكاشف بنعت الجمال، فيذهب إحساسه، والسكر عند الصوفي أو عند أصحاب المواجيد اقوي من غيبة الوعي نتيجة رهبة أو خوف، وقيد ميز الصوفية بين السكر والغيبة والغشية، فحسب القشيري» السكر غيبة بوارد قوي، والسكر زيادة عن الغيبة من وجه، وذلك أن صاحب السكر قد يكون مبسوطا إذا لم يكن مستوفيا في حال سكره، والغيبة قد تكون للعباد بما يطلب علي قلوبهم من موجب الرغبة والرهبة، ومقتضيات الخوف والرجاء» أما السكر والغشية فحسب الطوسي: قد يدوم السكر عند وروده الحواس، ولا تدوم الغشية، لأن الحواس تتغير بورودها، كذلك هناك فارق بين السكر والتساكر، فوفقا للقاشاني: السكر دهش يلحق سر المحب في مشاهدة جمال المحبوب فجأة والمتساكر كما يقول القشيري هو الذي لم يستوفه الوارد فيكون للإحساس فيه مساغ. وللسكر صلة بالشطح، ويقول الإمام القشيري، ما خلاصته إن العبد عندما يسكر بمشاهدة الجمال المطلق، ويشهد النور الإلهي، وتتجلي له الحقيقة يشطح ويتفوه بأقوال لم يسمع بمثلها البشر، ولكن الكلاباذي يري أن« السكر هو أن يغيب عن تمييز الأشياء، ولا يغيب عن الأشياء»، وما دام لم يغب عن الأشياء فإنه ليس له بالضرورة أن يشطح، والله أعلم. _

أحمد حسين الطماوي

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق