إن أردت ورود المواهب عليك صحح الفقر والفاقة لديك. ( إنما الصدقات للفقراء والمساكين) .
أما من يفتقر إلى غير الله فيزداد فقرا. ومن يتذلل لغيره يزداد ذلا… وهذا هو القانون الذي يتحكم في العلاقة الشعورية التي تربط العبد بالأكوان.
إن الله سبحانه وتعالى أخفى مفتاح معرفته في الأضداد، وليس في المترادفات والأشباه، حيث لا يهتدي إليها العقل المكسوف الأنوار.
فمنطق العقل يدفع بالإنسان إلى البحث عن الغنى في الغنى، وعن القوة في القوة، وعن القدرة في القدرة، وعن الكبرياء في الكبرياء حيث لا يكتشف إلا وهم الغنى ووهم القوة ووهم القدرة ووهم الكبرياء… كالعطشان الذي يريد أن يطفئ عطشه بماء البحر، فلا يزيده الشرب إلا عطشا.
إن منازعة الربوبية هي مصدر شقاء النفس الأمارة بالسوء وحرمانها. وهذه المنازعة لا يمكن معالجتها بالتأمل الفلسفي أو بأية إرادة صادرة عن النفس. فما دامت النفس الأمارة هي مركز القرار في شخصية الإنسان، فإنها لا تصدر إلا القرارات التي تعزز هيمنتها ونفوذها.والقلب الهزيل الذي يعاني من "سوء تغذية" روحية لا يستطيع وحده مواجهة النفس الأمارة إلا في ثلاث حالات ذكرهم ابن عطاء الله في حكمه: الخوف والشوق وصحبة العارفين.إن مهمة الأنبياء والرسل كانت دائما هي دعم القلوب بالأنوار التي تعتبر قوتها اليومي للحفاظ على صحتها وتوازنها وتحصيل طهارتها. وهذه المهمة منوطة أيضا بورثتهم الروحيين من العارفين والأولياء .يقول ابن عطاء الله :
" النور جند القلب كما أن الظلمة جند النفس. فإذا أراد الله أن ينصر عبده أمده بجنود الأنوار، وقطع عنه مدد الظلم والأغيار" .
" الأنوار مطايا القلوب والأسرار".
إن ذكر الله تعالى يعتبر العلاج المناسب والفعال لمعالجة أمراض القلب وتحقيق شفائه منها. فهو يشكل "المضاد الحيوي" الروحي الذي يهاجم النواة الصلبة الداخلية لإرادة الشر في الإنسان التي هي جرثومة الخاطر السيء. ذلك أن الخاطر السيء إذا وجد أرضية خصبة للانتشار، أي قلبا غافلا عن الله، فإنه ينغرس فيها ثم يتجذر ليصبح هما ثم نية ثم إرادة ثم فعلا.وهذا الخاطر السيء يتم استئصاله بتسليط أنوار الذكر عليه التي تثمر الواردات الإلهية التي تقوض إرادة الشر في الإنسان . وباستئصاله يتم إجهاض الأعمال السيئة التي كان سيتحول إليها.
يقول ابن عطاء الله:- " متى وردت الواردات الإلهية عليك هدمت العوائد منك (إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة). الوارد يأتي من حضرة قهار، لأجل ذلك لا يصادمه شيء إلا دمغه (بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق)".
كما أن خاصية ذكر الله تعالى هي تحقيق التجرد "الشعوري" من الأشياء مع امتلاكها، لا التجرد المادي منها. ذلك أننا قد لا نملك شيئا ونتشوق إلى تحصيله فنكون مرتبطين به شعوريا وإن كنا لا نملكه ماديا. فمن يملك الشيء وهو زاهد فيه خير ممن لا يملكه وهو طامع فيه. وإن مؤشر الزهد الباطني في الأشياء عند الصوفية هي: اللامبالاة الشعورية. أي أن لا يتأثر شعورنا إذا فقدنا شيئا أو إذا حصلنا عليه. ونتعامل مع النعم باعتبارها صادرة عن المنعم بها تعالى لا باعتبارها تحقق متعة أو تفيد لذة. وهذا لا ينفي تلذذنا بها، بل تنضاف إلى اللذة الحسية لذة معنوية وروحية. يقول ابن عطاء الله:
" لا تفرح بالنعمة وافرح بالمنعم بها عليك ".
وإن الشقاء الذي يعانيه الإنسان يكمن في ارتباطه الشعوري بالأشياء وبالقيم المادية، فإذا فقدها أو لم يحصِّلها أثار ذلك لديه شعورا بالحرمان. فالحضارة المادية تؤدي إلى حدوث اختلالات نفسية لدى الإنسان لا بالنظر إلى ماديتها ولكن لأنها تنسج على قلبه الغافل خيوطا من الارتباطات الشعورية تؤدي إلى تفقيره روحيا، وبالتالي إلى إشقائه. فلو أن القلب ظل فارغا من التعلق بها، وتلك مهمته التي خلق من أجلها، لكان محط النظر الإلهي، ومحل التجليات والفيوضات النورانية التي تملؤه سعادة وحبورا. فالأنوار الإلهية لا تستقر إلا في القلوب الفارغة المهيأة لاستقبالها. وهكذا وبفضل هذه" القطيعة الشعورية" مع الأشياء لا تشكل الحضارة المادية بخيراتها المادية المتنوعة (المباحة) أي خطر يتهدد التوازن الروحي للإنسان ما دام أنه غير مرتبط بها شعوريا. إن التعلق الشعوري بالأشياء وبكل " ما سوى الله تعالى" هو نتيجة الطمع الذي يصرف القلب عن مولاه. وفي صرفه عن مولاه إذلال له وإهانة.
يقول ابن عطاء الله :" ما بسقت أغصان ذل إلا عن بذر طمع ".
وتحرير الشعور من التعلق "بما سوى الله" لا يتأتى إلا بحصول اليأس منها. يقول ابن عطاء الله: " أنت حر مما أنت منه آيس، وعبد لما أنت فيه طامع ". واليأس منها لا يتم إلا بالطمع في ربها".
إن المعادلة السلوكية للنفس الأمارة بالسوء هي: " منك إليك بك ". وهي معادلة لا تسري فيها أية نورانية لغياب الله منها غيابا تاما. فالنفس تعمل فقط على إشباع رغباتها واستقصاء لذتها الحسية والمعنوية. وأوصاف النفس الأمارة بالسوء هي: الحرص، البخل، الكبر، الغضب، الحسد، الكذب…