آخر الأخبار

random
جاري التحميل ...

الحضور الصوفي في زمن العولمة


يؤكد المؤلف في في تقديم الكتاب أن أبرز ما يميز هذا العصر وجود المتناقضات والمفارقات الشاسعة داخل كل مجال علي حد يصعب معه التمييز بين الإيجابي والسلبي منها، وبين الحقيقي والمزيف وبين البناء والهدام، نظرا للتشابك المعقد والتداخل الكبير بين كل المكونات والتفاعلات الظواهر، بالإضافة إلي اختلاف الرؤي ومنطلقات التفكير والتحليل.
و تساءل الباحث أين يجد الإنسان الموقع الآمن والملاذ الحصين ليضمن نجاته وسلامته أمام انحرافات العولمة وسلبياتها؟.
ومن هنا يمكن القول أن التصوف هو ذاك الحصن الآمن وباب تلك النجاة و السلامة من هذه الانحرافات للقيمة الصوفية من نفائس نورانية تجعله يتجاوز الطابع التراثي والفلكلوري، و الحضور الصوري والشكلي إلي حضور أساسي وجوهري ومتميز وكفيل بحل مشاكل المجمتع، وإعطائه نفسا جديدا من أجل التخليق والفعالية والمساهمة في التنمية وتحقيق التوازن سواء بالنسبة للفرد أم المجتمع. ومده بقواعد المعاملة بين الإنسان وربه، وبين الإنسان والإنسان، حتي يتشبع بالقيم الإسلامية والأخلاق الفاضلة وينجو من براثن الطغيان المادي والفراغ الروحي الذي تسبب في حدوث الخلل والاختلال، فأصبح الإنسان في هذا الباب في اضطراب نفسي وقلق مستمر وتعب لا منتهي، وفقد بذلك سعادته وكثرت عدوانيته، فصار إنسانا مستهلكا لا يراعي إلا المصلحة الشخصية علي حساب المنفعة العامة.إن الاهتمام بالجانب الروحي حسب في الكتاب هو الكفيل بالإجابة علي الكثير من الإشكاليات، وحل الكثير من المعوقات.

الثقافة العالمية و الكونية

و في مسألة عولمة الإعلام يري المؤلف بأنه ليس صحيحا أن العولمة الثقافية هي الانتقال من حقبة الثقافات الوطنية والقومية إلي ثقافة عليا جديدة هي الثقافة العالمية أو الكونية كما يدعي مروجو فكرة العولمة الثقافية، بل إنها فعل اغتصاب ثقافي، وعدوان رمزي علي سائر الثقافات والقيم المغايرة للثقافة والقيم الغربية، ومن هنا يجب التمييز بين التثاقف والذي يعني الإصغاء المتبادل من سائر الثقافات بعضها إلي بعض الآخر علاوة علي الاحترام والاعتراف المتبادل بينها، ومنه الاعتراف بحق الاختلاف وهو من أقدس حقوق الإنسان، وبين العنف الثقافي وينطوي علي الإنكار والإقصاء لثقافة الغير، وعلي الاستعلاء والمركزية الذاتية في رؤية ثقافته، ويرادف ذلك الإكراه والعدوان من هنا فالنظام الثقافي المسيطر في حقبة العولمة الإعلامية و الثقافية هو النظام السمعي البصري.

روحانية مفتوحة

إن الإعلام الغربي في هذا الجانب يزيف الحقائق ، ومن ثم فالإعلام المعولم يقوم عل إقصاء ثقافة الآخر، كما يقصي البعد الروحي ويحطم الجانب الخلقي في الإنسان.، والأمركة في هذا الباب اكبر خطر استراتيجي يهدد الهويات و الخصوصيات والتنوع الثقافي و الأخلاقي، إنها اكتساح شرس للإنسانية أجمع في ظل الإعلام المعولم، إن العولمة تمثل تحديا للشعوب المسلمة ولعموم الشعوب المستضعفة، ليس فقط لأنها مفروضة عليهم، بما هي نتاج لحضارة غير حضارتهم، ولكن لكونها تهدد في الصميم كيانهم المعنوي، بل ربما كيانهم الحقيقي كذلك.

و بالرغم من كل هذا فإن الهوية الحضارية العربية الإسلامية ستكون راسخة و أن القيم الدينية ستنجح في التغلغل في دائرة تسيطر عليها العولمة وعلي الدائرة الغربية، لأن في الإنسان نزعة للتطهر، وعليه تكون الدعوة الإسلامية من خلال الكتاب دعوة عالمية أساسها التوحيد موجهة للناس أجمعين، وتقوم علي حقيقة الكرامة والحرية والعدل والمساواة وغيرها من القيم، و الإسلام ينبني علي روحانية مفتوحة لكل الناس دون تفرقة بين الأجناس والألوان واللغات.

و حاول القادري من خلال مؤلفه الجديد أن يركز كذلك علي التربية الصوفية وهو محور نموذجي وحقيقي للتواصل ، وقدم في هذا الباب مجموعة من الإشكاليات تتعلق بمفهوم التواصل ومكوناته، معوقات التواصل،خاصة المعوقات الذاتية والثقافية والاجتماعية ، بالإضافة إلي أخلاقيات التواصل.

ضمان تربية واقية

كما استنتج الباحث خلاصة من قراءته الشخصية لبعض العلل القلبية التي يتصدي لها لمداواتها خبراء الطب المعنوي، حيث تشكل يقينا، وعوائق خطيرة تحرم المرء من لذة التواصل مع الخالق عز وجل، وأيضا مع المخلوقات، فما أشد الحاجة إلي العلاج القلبي النوراني لتجاوز القطيعة وربط الصلة بين العبد وربه.

و بخصوص العلاجات الصوفية للعوائق القلبية والنفسية وثمارها التواصلية، ينطلق الصوفية من الحقيقة التالية، وهي أن القلب هو محل نظر الله عز وجل في الإنسان، لذلك يركزون علي الجهود التربوية لفك أقفاله وتليين قسوته، وتوجيهه إلي بارئه وربط صلته بين جميع الأحوال، ومن الوسائل الفعالة في مكافحة الأمراض القلبية الذكر، والذكر عند أهل التصوف يكون مدعما بوسائل تربوية أساسية وفعالة مثل الاجتماع علي الله تعالي والتزاور وصحبة الصادقين واتباع الكتاب والسنة والتحلي بالأخلاق المحمدية ظاهرا وباطنا.

ويقترح الباحث علي القراء في باب "من الأمن الروحي إلي الأمن الحضاري" تحليل مجموعة من المعطيات هي الأزمات الإنسانية المعاصرة وإشكالية العلاج، المنطلق من الأمن الروحي إلي الحضاري، الأمن الروحي وعلاقته بالأخلاق والدين، ثم التربية الصوفية كوسيلة لتحقيق الأمن الروحي، هكذا فالتربية بهذه الخصائص والمرتكزات تكون قمينة بضمان تربية واقية من هذا النزيف الحضاري الذي تعاني منه الإنسانية، وقادرة علي تحقيق الأمن الروحي الذي يمكن من تبديد وتلاشي الصراع الحضاري المفتعل، وكفيلة بتصحيح الاختلافات وتحقيق التوازن النفسي والتكامل العقلي والقلبي والتوافق المادي والروحي، تلك إذن هي مرامي التربية الصوفية التي توافق متطلبات الأمن الحضاري وتحقق الأمن الروحي.
الخلق والمجتمعات، فالتصوف حب في الله لا ينقضي وتفان في عبادته وإخلاص وصدق في طاعته، وحب جميع

مشعل الهداية القلبية

أما بخصوص ما جاء في باب التواصل الخلقي والبعد الحضاري، فيؤكد الباحث أن التصوف الحق لم يكن أبدا دروشة ولا سلبية ولا خمولا أو انعزالا، ولكنه كمال خلقي وروحي ومعرفي وعبودي، انه ارتقاء في معارج التقدم المادي والمعنوي، لأن الارتواء بالمدد الروحي يخلق الطاقة الدافعة للتقدم والازدهار، والرغبة الصادقة في إصلاح النفوس والأفراد ابتغاء إسعادهم وإصلاحهم.فالعصر اليوم يضيف القادري عصر التواصل و عالم الانفجارات المعرفية والتكنولوجية والابتكار والتفوق لكن مع كامل التعلق بالله تعالي في كل لحظة وحين، والجمع بين استقامة الروح والباطن والظاهر، بين الديني والدنيوي، بين والفردي والاجتماعي، وفي توازن واعتدال وفي تكامل واطمئنان.و في هذا الإطار فإن الصوفية دائما في تواصل شهودي وعبودي لله تعالي مع الأنفاس، وهم في تواصل خلقي وتربوي واجتماعي وحضاري مع الناس، ذلك أن الصوفي ابن وقته أو عصره، لأن عماد التصوف هو تصفية القلوب من الأردان والتعلقات الوهمية.

مكارم الأخلاق

وبخصوص التصوف في علاقته بالتنمية المجتمعية، قال القادري أن التجربة الصوفية في المغرب تجاوزت إطار التنظير وتنظيم الشؤون الدينية لتحقق الاندماج الفعلي مع قضايا المجتمع، و مجرد قراءة التصوف المغربي يتضح أن الزوايا والرباطات لم تكن أداة إرساء للعقيدة الإسلامية فحسب، وإنما كانت أيضا أداة تأطير أخلاقي واجتماعي ومراكز إشعاع علمي وحضاري.و في هذا الإطار فان دعوة الناس إلي مكارم الأخلاق وحثهم علي الفضائل ما هو في الحقيقة إلا نمي هذه الأمة إلي دينها أصلها أي إسنادها ورفعا إليه، وكذلك نمي الأمة إلي نبيها ورسولها أي تحقيق النسبة الحقيقية والانتساب الحق له صلي الله عليه وسلم قولا وفعلا وحالا وسلوكا، والتصوف أخلاق و أذواق وأشواق ويدعو إلي تزكية النفوس وتطهيرها من الأغيار والأكدار وتحليتها بالأنوار والأسرار لتتحقق بالمحبة الإلهية التي تجعل صاحبها ينظر بعين الرحمة والرضا والعطف والمودة فيراعي أفعاله وحركاته ومشاعر الآخرين ومصالحهم وحقوقهم، كما تجعله يتحري الصدق والإخلاص في أعماله الظاهرة والباطنة، وبالتالي تكون أعماله لله، مما كان لله دام واتصل. وهذا هو السبيل لتحقيق الاستدامة والدوام" للتنمية" وجعلها بحق تنمية مستدامة مادية وروحية وظاهرة وباطنة.

تفقد التراث الروحي المشرق

وتساءل المؤلف من خلال إصداره هل نحن في حاجة إلي التصوف، ليجيب أن القوي المادية أفلست وشعرت بقصورها في تحقيق السعادة للناس، أفلست معها كل المذاهب والفلسفات في الغرب فكرا وتطبيقا روحيا وإنسانيا وعلاجا وحلا، و بالتالي تأتي حتمية التواصل مع الصوفية لأن الإسلام دين التوازن بين المادة والروح بين الدنيا والآخرة. و في زمن العولمة والاجتياح الروحي، فالأمة الإسلامية في حاجة ماسة إلي تفقد تراثها الروحي المشرق لتصل ماضيها بحاضرها، وتنتفع بما خلفه تاريخها المجيد وتستعين بذلك في بناء حضارتها ونهضتها المعاصرة علي أساس متين من الهدي واليقين و لتبقي الصوفية التربية النموذجية للوصول إلي القين الباطني والكمال الأخلاقي والمعراج الروحي والصفاء القلبي.

ظاهر العولمة فتان وجذاب

و في ختام الكتاب القيم طرح الأستاذ القادري العديد من الأسئلة في ظل سيادة وهيمنة الخطاب الإعلامي في زمن العولمة، أسئلة عميقة تنتظر إجابات شافية كافية، من أجل الحفاظ علي الهوية العربية الإسلامية بتراثها وثقافتها و مقوماتها الدينية والروحية، حيث يمكننا إن نتساءل مع الباحث أيضا:
ـ هل من المتوقع فعلا أن تمتطي كل الشعوب المسلمة ـ علي اختلافها وتمايزها ـ عربات قطار العولمة؟
ـ هل يمكن أن نعيش ـ نحن المسلمين وقلوبنا تنبض إيمانا وتوحيدا ـ تحت رحمة النمط الواحد في التفكير والتدبير والشعور كما يخطط لذلك رواد العولمة؟
ـ هل سننصاع لهاته الهيمنة الطاغوتية، وهذا الإفقار القيمي والثقافي الناتج عن هاته القولية النمطية الموحدة التي تستهدفها العلومة؟
ـ هل يمكن بسهولة القضاء علي التعددية والخصوصيات الثقافية والثوابت الدينية من قبل تقنيات ووسائل الاتصال والتواصل المعولم؟

ومن هنا فالعالم الإسلامي في ظل هذه الوضعية والظروف مطالب بالإعداد لعولمة ظاهرها فتان وجذاب يغري بقيم مزيفة، وباطنها يهدد خصوصياتها العربية الإسلامية في ظل عالم شديد التغير والتحول.، ويبقي الأمل في قفزة روحية لمستقبل إسلامي مشرق يعيد للإنسانية توازنها ، ويصون الهوية العربية بتراثها العريق وثقافتها المتجذرة وتقاليده وعاداتها الشريفة ، وقيمها السامية، قيم الخير والازدهار، والتعايش والتقدم، والحوار والتواصل الكوني.


الكتاب: الحضور الصوفي في زمن العولمة
المؤلف:د. منير القادري بودشيش

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق