قال عبد الله بن مسعود أتدرون من ميت القلب الذي قيل فيه :
ليس من مات فاستراح بميت إنما الميت ميت الأحياء
قالوا : ومن هو ؟ قال : الذي لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا . والرجل : هو الذي يخاف موت قلبه ، لا موت بدنه ، إذ أكثر هؤلاء الخلق يخافون موت أبدانهم ، ولا يبالون بموت قلوبهم ، ولا يعرفون من الحياة إلا الحياة الطبيعية ، وذلك من موت القلب والروح ، فإن هذه الحياة الطبيعية شبيهة بالظل الزائل ، والنبات السريع الجفاف ، والمنام الذي يخيل كأنه حقيقة ، فإذا استيقظ عرف أنه كان خيالا ، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : لو أن الحياة الدنيا من أولها إلى آخرها أوتيها رجل واحد ، ثم جاءه الموت : لكان بمنزلة من رأى في منامه ما يسره ثم استيقظ ، فإذا ليس في يده شيء . وقد قيل : إن الموت موتان : موت إرادي ، وموت طبيعي ، فمن أمات نفسه موتا إراديا كان موته الطبيعي حياة له ، ومعنى هذا أن الموت الإرادي : هو قمع الشهوات المردية ، وإخماد نيرانها المحرقة ، وتسكين هوائجها المتلفة ، فحينئذ يتفرغ القلب والروح للتفكر فيما فيه كمال العبد ، ومعرفته ، والاشتغال به . ويرى حينئذ أن إيثار الظل الزائل عن قريب على العيش اللذيذ الدائم أخسر الخسران ، فأما إذا كانت الشهوات وافدة ، واللذات مؤثرة ، والعوائد غالبة ، والطبيعة حاكمة ، فالقلب حينئذ إما أن يكون أسيرا ذليلا ، أو مهزوما مخرجا عن وطنه ومستقره الذي لا قرار له إلا فيه أو قتيلا ميتا ، وما لجرح به إيلام ، وأحسن أحواله : أن يكون في حرب ، يدال له فيها مرة ، ويدال عليه مرة ، فإذا مات العبد موته الطبيعي ، كانت بعده حياة روحه بتلك العلوم النافعة ، والأعمال الصالحة ، والأحوال الفاضلة التي حصلت له بإماتة نفسه ، فتكون حياته هاهنا على حسب موته الإرادي في هذه الدار .
وهذا موضع لا يفهمه إلا ألباء الناس وعقلاؤهم ، ولا يعمل بمقتضاه إلا أهل الهمم العلية ، والنفوس الزكية الأبية .
المرتبة السابعة من مراتب الحياة :
حياة الأخلاق ، والصفات المحمودة ، التي هي حياة راسخة للموصوف بها ، فهو لا يتكلف الترقي في درجات الكمال ، ولا يشق عليه ، لاقتضاء أخلاقه وصفاته لذلك ، بحيث لو فارقه ذلك لفارق ما هو من طبيعته وسجيته ، فحياة من قد طبع على الحياء والعفة والجود والسخاء ، والمروءة والصدق والوفاء ونحوها أتم من حياة من يقهر نفسه ، ويغالب طبعه ، حتى يكون كذلك ، فإن هذا بمنزلة من تعارضه أسباب الداء وهو يعالجها ويقهرها بأضدادها ، وذلك بمنزلة من قد عوفي من ذلك .
وكلما كانت هذه الأخلاق في صاحبها أكمل كانت حياته أقوى وأتم ، ولهذا كان خلق الحياء مشتقا من الحياة اسما وحقيقة ، فأكمل الناس حياة : أكملهم حياء ، ونقصان حياء المرء من نقصان حياته ، فإن الروح إذا ماتت لم تحس بما يؤلمها من القبائح ، فلا تستحي منها ، فإذا كانت صحيحة الحياة أحست بذلك ، فاستحيت منه ، وكذلك سائر الأخلاق الفاضلة ، والصفات الممدوحة تابعة لقوة الحياة ، وضدها من نقصان الحياة ، ولهذا كانت حياة الشجاع أكمل من حياة الجبان ، وحياة السخي أكمل من حياة البخيل ، وحياة الفطن الذكي أكمل من حياة الفدم البليد ، ولهذا لما كان الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أكمل الناس حياة حتى إن قوة حياتهم تمنع الأرض أن تبلي أجسامهم كانوا أكمل الناس في هذه الأخلاق ، ثم الأمثل فالأمثل من أتباعهم.
فانظر الآن إلى حياة حلاف مهين هماز مشاء بنميم ، مناع للخير معتد أثيم ، عتل بعد ذلك زنيم ، وحياة جواد شجاع ، بر عادل عفيف محسن تجد الأول ميتا بالنسبة إلى الثاني ، ولله در القائل :
وما للمرء خير في حياة إذا ما عد من سقط المتاع
المرتبة الثامنة من مراتب الحياة : حياة الفرح والسرور ، وقرة العين بالله ، وهذه الحياة إنما تكون بعد الظفر بالمطلوب ، الذي تقر به عين طالبه ، فلا حياة نافعة له بدونه ، وحول هذه الحياة يدندن الناس كلهم ، وكلهم قد أخطأ طريقها ، وسلك طرقا لا تفضي إليها ، بل تقطعه عنها ، إلا أقل القليل .
فدار طلب الكل حول هذه الحياة ، وحرمها أكثرهم .
وسبب حرمانهم إياها : ضعف العقل والتمييز والبصيرة ، وضعف الهمة والإرادة ، فإن مادتها بصيرة وقادة ، وهمة نقادة ، والبصيرة كالبصر تكون عمى وعورا وعمشا ورمدا ، وتامة النور والضياء ، وهذه الآفات قد تكون لها بالخلقة في الأصل ، وقد تحدث فيها بالعوارض الكسبية .
والمقصود : أن هذه المرتبة من مراتب الحياة هي أعلى مراتبها ، ولكن كيف يصل إليها من عقله مسبي في بلاد الشهوات ، وأمله موقوف على اجتناء اللذات ، وسيرته جارية على أسوأ العادات ، ودينه مستهلك بالمعاصي والمخالفات ، وهمته واقفة مع السفليات ، وعقيدته غير متلقاة من مشكاة النبوات ؟ !
فهو في الشهوات منغمس ، وفي الشبهات منتكس ، وعن الناصح معرض ، وعلى المرشد معترض ، وعن السراء نائم ، وقلبه في كل واد هائم ، فلو أنه تجرد من نفسه ، ورغب عن مشاركة أبناء جنسه ، وخرج من ضيق الجهل إلى فضاء العلم ، ومن سجن الهوى إلى ساحة الهدى ، ومن نجاسة النفس ، إلى طهارة القدس لرأى الإلف الذي نشأ بنشأته ، وزاد بزيادته ، وقوي بقوته ، وشرف عند نفسه وأبناء جنسه بحصوله ، وسد قذى في عين بصيرته ، وشجا في حلق إيمانه ، ومرضا متراميا إلى هلاكه ،
فإن قلت : قد أشرت إلى حياة غير معهودة بين أموات الأحياء ، فهل يمكنك وصف طريقها ، لأصل إلى شيء من أذواقها ، فقد بان لي أن ما نحن فيه من الحياة حياة بهيمية ، ربما زادت علينا فيه البهائم بخلوها عن المنكرات والمنغصات وسلامة العاقبة ؟
قلت : لعمر الله إن اشتياقك إلى هذه الحياة ، وطلب علمها ومعرفتها : لدليل على حياتك ، وأنك لست من جملة الأموات .
فأول طريقها : أن تعرف الله ، وتهتدي إليه طريقا يوصلك إليه ، ويحرق ظلمات الطبع بأشعة البصيرة ، فيقوم بقلبه شاهد من شواهد الآخرة ، فينجذب إليها بكليته ، ويزهد في التعلقات الفانية ، ويدأب في تصحيح التوبة ، والقيام بالمأمورات الظاهرة والباطنة ، وترك المنهيات الظاهرة والباطنة ، ثم يقوم حارسا على قلبه ، فلا يسامحه بخطرة يكرهها الله ، ولا بخطرة فضول لا تنفعه ، فيصفو بذلك قلبه عن حديث النفس ووسواسها ، فيفدى من أسرها ، ويصير طليقا ، فحينئذ يخلو قلبه بذكر ربه ، ومحبته والإنابة إليه ، ويخرج من بين بيوت طبعه ونفسه ، إلى فضاء الخلوة بربه وذكره ، كما قيل :
فدار طلب الكل حول هذه الحياة ، وحرمها أكثرهم .
وسبب حرمانهم إياها : ضعف العقل والتمييز والبصيرة ، وضعف الهمة والإرادة ، فإن مادتها بصيرة وقادة ، وهمة نقادة ، والبصيرة كالبصر تكون عمى وعورا وعمشا ورمدا ، وتامة النور والضياء ، وهذه الآفات قد تكون لها بالخلقة في الأصل ، وقد تحدث فيها بالعوارض الكسبية .
والمقصود : أن هذه المرتبة من مراتب الحياة هي أعلى مراتبها ، ولكن كيف يصل إليها من عقله مسبي في بلاد الشهوات ، وأمله موقوف على اجتناء اللذات ، وسيرته جارية على أسوأ العادات ، ودينه مستهلك بالمعاصي والمخالفات ، وهمته واقفة مع السفليات ، وعقيدته غير متلقاة من مشكاة النبوات ؟ !
فهو في الشهوات منغمس ، وفي الشبهات منتكس ، وعن الناصح معرض ، وعلى المرشد معترض ، وعن السراء نائم ، وقلبه في كل واد هائم ، فلو أنه تجرد من نفسه ، ورغب عن مشاركة أبناء جنسه ، وخرج من ضيق الجهل إلى فضاء العلم ، ومن سجن الهوى إلى ساحة الهدى ، ومن نجاسة النفس ، إلى طهارة القدس لرأى الإلف الذي نشأ بنشأته ، وزاد بزيادته ، وقوي بقوته ، وشرف عند نفسه وأبناء جنسه بحصوله ، وسد قذى في عين بصيرته ، وشجا في حلق إيمانه ، ومرضا متراميا إلى هلاكه ،
فإن قلت : قد أشرت إلى حياة غير معهودة بين أموات الأحياء ، فهل يمكنك وصف طريقها ، لأصل إلى شيء من أذواقها ، فقد بان لي أن ما نحن فيه من الحياة حياة بهيمية ، ربما زادت علينا فيه البهائم بخلوها عن المنكرات والمنغصات وسلامة العاقبة ؟
قلت : لعمر الله إن اشتياقك إلى هذه الحياة ، وطلب علمها ومعرفتها : لدليل على حياتك ، وأنك لست من جملة الأموات .
فأول طريقها : أن تعرف الله ، وتهتدي إليه طريقا يوصلك إليه ، ويحرق ظلمات الطبع بأشعة البصيرة ، فيقوم بقلبه شاهد من شواهد الآخرة ، فينجذب إليها بكليته ، ويزهد في التعلقات الفانية ، ويدأب في تصحيح التوبة ، والقيام بالمأمورات الظاهرة والباطنة ، وترك المنهيات الظاهرة والباطنة ، ثم يقوم حارسا على قلبه ، فلا يسامحه بخطرة يكرهها الله ، ولا بخطرة فضول لا تنفعه ، فيصفو بذلك قلبه عن حديث النفس ووسواسها ، فيفدى من أسرها ، ويصير طليقا ، فحينئذ يخلو قلبه بذكر ربه ، ومحبته والإنابة إليه ، ويخرج من بين بيوت طبعه ونفسه ، إلى فضاء الخلوة بربه وذكره ، كما قيل :
وأخرج من بين البيوت لعلني أحدث عنك النفس في السر خاليا
فحينئذ يجتمع قلبه وخواطره وحديث نفسه على إرادة ربه ، وطلبه والشوق إليه .
فإذا صدق في ذلك رزق محبة الرسول صلى الله عليه وسلم ، واستولت روحانيته على قلبه ، فجعله إمامه ومعلمه ، وأستاذه وشيخه وقدوته ، كما جعله الله نبيه ورسوله وهاديا إليه ، فيطالع سيرته ومبادئ أمره ، وكيفية نزول الوحي عليه ، ويعرف صفاته وأخلاقه ، وآدابه في حركاته وسكونه ويقظته ومنامه ، وعبادته ومعاشرته لأهله وأصحابه ، حتى يصير كأنه معه من بعض أصحابه .
فإذا رسخ قلبه في ذلك : فتح عليه بفهم الوحي المنزل عليه من ربه ، بحيث لو قرأ السورة شاهد قلبه ما أنزلت فيه ، وما أريد بها ، وحظه المختص به منها من الصفات والأخلاق والأفعال المذمومة ، فيجتهد في التخلص منها كما يجتهد في الشفاء من المرض المخوف ، وشاهد حظه من الصفات والأفعال الممدوحة ، فيجتهد في تكميلها وإتمامها .
فإذا تمكن من ذلك انفتح في قلبه عين أخرى ، يشاهد بها صفات الرب جل جلاله ، حتى تصير لقلبه بمنزلة المرئي لعينه ، فيشهد علو الرب سبحانه فوق خلقه ، واستواءه على عرشه ، ونزول الأمر من عنده بتدبير مملكته ، وتكليمه بالوحي ، وتكليمه لعبده جبريل به ، وإرساله إلى من يشاء بما يشاء ، وصعود الأمور إليه ، وعرضها عليه .
فيشاهد قلبه ربا قاهرا فوق عباده ، آمرا ناهيا ، باعثا لرسله ، منزلا لكتبه ، معبودا مطاعا ، لا شريك له ، ولا مثيل ، ولا عدل له ، ليس لأحد معه من الأمر شيء ، بل الأمر كله له ، فيشهد ربه سبحانه قائما بالملك والتدبير ، فلا حركة ولا سكون ، ولا نفع ولا ضر ، ولا عطاء ولا منع ، ولا قبض ولا بسط إلا بقدرته وتدبيره ، فيشهد قيام الكون كله به ، وقيامه سبحانه بنفسه ، فهو القائم بنفسه ، المقيم لكل ما سواه .
فإذا رسخ قلبه في ذلك شهد الصفة المصححة لجميع صفات الكمال ، وهي الحياة التي كمالها يستلزم كمال السمع والبصر والقدرة والإرادة والكلاموسائر صفات الكمال ، وصفة القيومية الصحيحة المصححة لجميع الأفعال ، فالحي القيوم : من له كل صفة كمال ، وهو الفعال لما يريد .
فإذا رسخ قلبه في ذلك : فتح له مشهد القرب والمعية فيشهده سبحانه معه ، غير غائب عنه ، قريبا غير بعيد ، مع كونه فوق سماواته على عرشه ، بائنا من خلقه ، قائما بالصنع والتدبير ، والخلق والأمر ، فيحصل له مع التعظيم والإجلال الأنس بهذه الصفة ، فيأنس به بعد أن كان مستوحشا ، ويقوى به بعد أن كان ضعيفا ، ويفرح به بعد أن كان حزينا ، ويجد بعد أن كان فاقدا ، فحينئذ يجد طعم قوله : " ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها ، ولئن سألني لأعطينه ، ولئن استعاذني لأعيذنه " .
فأطيب الحياة على الإطلاق حياة هذا العبد ، فإنه محب محبوب ، متقرب إلى ربه ، وربه قريب منه ، قد صار له حبيبه لفرط استيلائه على قلبه ولهجه بذكره وعكوف همته على مرضاته بمنزلة سمعه وبصره ويده ورجله ، وهذه آلات إدراكه وعمله وسعيه ، فإن سمع سمع بحبيبه ، وإن أبصر أبصر به ، وإن بطش بطش به ، وإن مشى مشى به .
فإن صعب عليك فهم هذا المعنى ، وكون المحب الكامل المحبة يسمع ويبصر ويبطش ويمشي بمحبوبه ، وذاته غائبة عنه ، فاضرب عنه صفحا ، وخل هذا الشأن لأهله .
فإذا صدق في ذلك رزق محبة الرسول صلى الله عليه وسلم ، واستولت روحانيته على قلبه ، فجعله إمامه ومعلمه ، وأستاذه وشيخه وقدوته ، كما جعله الله نبيه ورسوله وهاديا إليه ، فيطالع سيرته ومبادئ أمره ، وكيفية نزول الوحي عليه ، ويعرف صفاته وأخلاقه ، وآدابه في حركاته وسكونه ويقظته ومنامه ، وعبادته ومعاشرته لأهله وأصحابه ، حتى يصير كأنه معه من بعض أصحابه .
فإذا رسخ قلبه في ذلك : فتح عليه بفهم الوحي المنزل عليه من ربه ، بحيث لو قرأ السورة شاهد قلبه ما أنزلت فيه ، وما أريد بها ، وحظه المختص به منها من الصفات والأخلاق والأفعال المذمومة ، فيجتهد في التخلص منها كما يجتهد في الشفاء من المرض المخوف ، وشاهد حظه من الصفات والأفعال الممدوحة ، فيجتهد في تكميلها وإتمامها .
فإذا تمكن من ذلك انفتح في قلبه عين أخرى ، يشاهد بها صفات الرب جل جلاله ، حتى تصير لقلبه بمنزلة المرئي لعينه ، فيشهد علو الرب سبحانه فوق خلقه ، واستواءه على عرشه ، ونزول الأمر من عنده بتدبير مملكته ، وتكليمه بالوحي ، وتكليمه لعبده جبريل به ، وإرساله إلى من يشاء بما يشاء ، وصعود الأمور إليه ، وعرضها عليه .
فيشاهد قلبه ربا قاهرا فوق عباده ، آمرا ناهيا ، باعثا لرسله ، منزلا لكتبه ، معبودا مطاعا ، لا شريك له ، ولا مثيل ، ولا عدل له ، ليس لأحد معه من الأمر شيء ، بل الأمر كله له ، فيشهد ربه سبحانه قائما بالملك والتدبير ، فلا حركة ولا سكون ، ولا نفع ولا ضر ، ولا عطاء ولا منع ، ولا قبض ولا بسط إلا بقدرته وتدبيره ، فيشهد قيام الكون كله به ، وقيامه سبحانه بنفسه ، فهو القائم بنفسه ، المقيم لكل ما سواه .
فإذا رسخ قلبه في ذلك شهد الصفة المصححة لجميع صفات الكمال ، وهي الحياة التي كمالها يستلزم كمال السمع والبصر والقدرة والإرادة والكلاموسائر صفات الكمال ، وصفة القيومية الصحيحة المصححة لجميع الأفعال ، فالحي القيوم : من له كل صفة كمال ، وهو الفعال لما يريد .
فإذا رسخ قلبه في ذلك : فتح له مشهد القرب والمعية فيشهده سبحانه معه ، غير غائب عنه ، قريبا غير بعيد ، مع كونه فوق سماواته على عرشه ، بائنا من خلقه ، قائما بالصنع والتدبير ، والخلق والأمر ، فيحصل له مع التعظيم والإجلال الأنس بهذه الصفة ، فيأنس به بعد أن كان مستوحشا ، ويقوى به بعد أن كان ضعيفا ، ويفرح به بعد أن كان حزينا ، ويجد بعد أن كان فاقدا ، فحينئذ يجد طعم قوله : " ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها ، ولئن سألني لأعطينه ، ولئن استعاذني لأعيذنه " .
فأطيب الحياة على الإطلاق حياة هذا العبد ، فإنه محب محبوب ، متقرب إلى ربه ، وربه قريب منه ، قد صار له حبيبه لفرط استيلائه على قلبه ولهجه بذكره وعكوف همته على مرضاته بمنزلة سمعه وبصره ويده ورجله ، وهذه آلات إدراكه وعمله وسعيه ، فإن سمع سمع بحبيبه ، وإن أبصر أبصر به ، وإن بطش بطش به ، وإن مشى مشى به .
فإن صعب عليك فهم هذا المعنى ، وكون المحب الكامل المحبة يسمع ويبصر ويبطش ويمشي بمحبوبه ، وذاته غائبة عنه ، فاضرب عنه صفحا ، وخل هذا الشأن لأهله .
خل الهوى لأناس يعرفون به قد كابدوا الحب حتى لان أصعبه
فإن السالك إلى ربه لا تزال همته عاكفة على أمرين ؛ استفراغ القلب في صدق الحب ، وبذل الجهد في امتثال الأمر ، فلا يزال كذلك حتى يبدو على سره شواهد معرفته ، وآثار صفاته وأسمائه ، ولكن يتوارى عنه ذلك أحيانا ، ويبدو أحيانا ، يبدو من عين الجود ، ويتوارى بحكم الفترة ، والفترات أمر لازم للعبد ، فكل عامل له شرة ، ولكل شرة فترة ، فأعلاها فترة الوحي ؛ وهي للأنبياء ، وفترة الحال الخاص للعارفين ، وفترة الهمة للمريدين ، وفترة العمل للعابدين ، وفي هذه الفترات أنواع من الحكمة والرحمة ، والتعرفات الإلهية ، وتعريف قدر النعمة ، وتجديد الشوق إليها ، ومحض التواجد إليها وغير ذلك .
ولا تزال تلك الشواهد تتكرر وتتزايد ، حتى تستقر ، وينصبغ بها قلبه ، وتصير الفترة غير قاطعة له ، بل تكون نعمة عليه ، وراحة له ، وترويحا وتنفيسا عنه .
فهمة المحب إذا تعلقت روحه بحبيبه ، عاكفا على مزيد محبته ، وأسباب قوتها ، فهو يعمل على هذا ، ثم يترقى منه إلى طلب محبة حبيبه له ، فيعمل على حصول ذلك ، ولا يعدم الطلب الأول ، ولا يفارقه ألبتة ، بل يندرج في هذا الطلب الثاني ، فتتعلق همته بالأمرين جميعا ، فإنه إنما يحصل له منزلة " كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به " بهذا الأمر الثاني ، وهو كونه محبوبا لحبيبه ، كما قال في الحديث " فإذا أحببته كنت سمعه وبصره " إلخ ، فهو يتقرب إلى ربه حفظا لمحبته له ، واستدعاء لمحبة ربه له .
فحينئذ يشد مئزر الجد في طلب محبة حبيبه له بأنواع التقرب إليه ، فقلبه ؛ للمحبة والإنابة والتوكل والخوف والرجاء ، ولسانه ؛ للذكر وتلاوة كلام حبيبه ، وجوارحه : للطاعات ، فهو لا يفتر عن التقرب من حبيبه .
وهذا هو السير المفضي إلى هذه الغاية التي لا تنال إلا به ، ولا يتوصل إليها إلا من هذا الباب ، وهذه الطريق ، وحينئذ تجمع له في سيره جميع متفرقات السلوك من الحضور والهيبة والمراقبة ونفي الخواطر وتخلية الباطن .
فإن المحب يشرع أولا في التقربات بالأعمال الظاهرة ، وهي ظاهر التقرب ، ثم يترقى من ذلك إلى حال التقرب ، وهو الانجذاب إلى حبيبه بكليته بروحه وقلبه ، وعقله وبدنه ، ثم يترقى من ذلك إلى حال الإحسان ، فيعبد الله كأنه يراه ، فيتقرب إليه حينئذ من باطنه بأعمال القلوب ؛ من المحبة والإنابة والتعظيم والإجلال والخشية ، فينبعث حينئذ من باطنه الجود ببذل الروح والجود في محبة حبيبه بلا تكلف ، فيجود بروحه ونفسه ، وأنفاسه وإرادته ، وأعماله لحبيبه حالا لا تكلفا ، فإذا وجد المحب [ ص: 254 ] ذلك فقد ظفر بحال التقرب وسره وباطنه ، وإن لم يجده فهو يتقرب بلسانه وبدنه وظاهره فقط ، فليدم على ذلك ، وليتكلف التقرب بالأذكار والأعمال على الدوام ، فعساه أن يحظى بحال القرب .
ووراء هذا القرب الباطن أمر آخر أيضا ، وهو شيء لا يعبر عنه بأحسن من عبارة أقرب الخلق إلى الله صلى الله عليه وسلم عن هذا المعنى ، حيث يقول حاكيا عن ربه تبارك وتعالى : من تقرب مني شبرا تقربت منه ذراعا ، ومن تقرب مني ذراعا تقربت منه باعا ، ومن أتاني يمشي أتيته هرولةفيجد هذا المحب في باطنه ذوق معنى هذا الحديث ذوقا حقيقيا .
فذكر من مراتب القرب ثلاثة ، ونبه بها على ما دونها وما فوقها . فذكر تقرب العبد إليه بالبر ، وتقربه سبحانه إلى العبد ذراعا ، فإذا ذاق العبد حقيقة هذا التقرب انتقل منه إلى تقرب الذراع ، فيجد ذوق تقرب الرب إليه باعا .
فإذا ذاق حلاوة هذا القرب الثاني أسرع المشي حينئذ إلى ربه ، فيذوق حلاوة إتيانه إليه هرولة ، وهاهنا منتهى الحديث ، منبها على أنه إذا هرول عبده إليه كان قرب حبيبه منه فوق هرولة العبد إليه ، فإما أن يكون قد أمسك عن ذلك لعظيم شاهد الجزاء ، أو لأنه يدخل في الجزاء الذي لم تسمع به أذن ، ولم يخطر على قلب بشر ، أو إحالة له على المراتب المتقدمة ، فكأنه قيل له وقس على هذا ، فعلى قدر ما تبذل منك متقربا إلى ربك يتقرب إليك بأكثر منه ، وعلى هذا فلازم هذا التقرب المذكور في مراتبه ؛ أي من تقرب إلى حبيبه بروحه وجميع قواه ، وإرادته وأقواله وأعماله تقرب الرب منه سبحانه بنفسه في مقابلة تقرب عبده إليه .
وليس القرب في هذه المراتب كلها قرب مسافة حسية ولا مماسة ، بل هو قرب حقيقي ، والرب تعالى فوق سماواته على عرشه ، والعبد في الأرض .
وهذا الموضع هو سر السلوك ، وحقيقة العبودية ، وهو معنى الوصول الذي يدندن حوله القوم .
وملاك هذا الأمر هو قصد التقرب أولا ، ثم التقرب ثانيا ، ثم حال القرب ثالثا ، وهو الانبعاث بالكلية إلى الحبيب .
وحقيقة هذا الانبعاث : أن تفنى بمراده عن هواك ، وبما منه عن حظك ، بل يصير ذلك هو مجموع حظك ومرادك ، وقد عرفت أن من تقرب إلى حبيبه بشيء من الأشياء جوزي على ذلك بقرب هو أضعافه ، وعرفت أن أعلى أنواع التقرب تقرب العبد بجملته بظاهره وباطنه ، وبوجوده إلى حبيبه ، فمن فعل ذلك فقد تقرب بكله ، ولم تبق منه بقية لغير حبيبه ، كما قيل :
ولا تزال تلك الشواهد تتكرر وتتزايد ، حتى تستقر ، وينصبغ بها قلبه ، وتصير الفترة غير قاطعة له ، بل تكون نعمة عليه ، وراحة له ، وترويحا وتنفيسا عنه .
فهمة المحب إذا تعلقت روحه بحبيبه ، عاكفا على مزيد محبته ، وأسباب قوتها ، فهو يعمل على هذا ، ثم يترقى منه إلى طلب محبة حبيبه له ، فيعمل على حصول ذلك ، ولا يعدم الطلب الأول ، ولا يفارقه ألبتة ، بل يندرج في هذا الطلب الثاني ، فتتعلق همته بالأمرين جميعا ، فإنه إنما يحصل له منزلة " كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به " بهذا الأمر الثاني ، وهو كونه محبوبا لحبيبه ، كما قال في الحديث " فإذا أحببته كنت سمعه وبصره " إلخ ، فهو يتقرب إلى ربه حفظا لمحبته له ، واستدعاء لمحبة ربه له .
فحينئذ يشد مئزر الجد في طلب محبة حبيبه له بأنواع التقرب إليه ، فقلبه ؛ للمحبة والإنابة والتوكل والخوف والرجاء ، ولسانه ؛ للذكر وتلاوة كلام حبيبه ، وجوارحه : للطاعات ، فهو لا يفتر عن التقرب من حبيبه .
وهذا هو السير المفضي إلى هذه الغاية التي لا تنال إلا به ، ولا يتوصل إليها إلا من هذا الباب ، وهذه الطريق ، وحينئذ تجمع له في سيره جميع متفرقات السلوك من الحضور والهيبة والمراقبة ونفي الخواطر وتخلية الباطن .
فإن المحب يشرع أولا في التقربات بالأعمال الظاهرة ، وهي ظاهر التقرب ، ثم يترقى من ذلك إلى حال التقرب ، وهو الانجذاب إلى حبيبه بكليته بروحه وقلبه ، وعقله وبدنه ، ثم يترقى من ذلك إلى حال الإحسان ، فيعبد الله كأنه يراه ، فيتقرب إليه حينئذ من باطنه بأعمال القلوب ؛ من المحبة والإنابة والتعظيم والإجلال والخشية ، فينبعث حينئذ من باطنه الجود ببذل الروح والجود في محبة حبيبه بلا تكلف ، فيجود بروحه ونفسه ، وأنفاسه وإرادته ، وأعماله لحبيبه حالا لا تكلفا ، فإذا وجد المحب [ ص: 254 ] ذلك فقد ظفر بحال التقرب وسره وباطنه ، وإن لم يجده فهو يتقرب بلسانه وبدنه وظاهره فقط ، فليدم على ذلك ، وليتكلف التقرب بالأذكار والأعمال على الدوام ، فعساه أن يحظى بحال القرب .
ووراء هذا القرب الباطن أمر آخر أيضا ، وهو شيء لا يعبر عنه بأحسن من عبارة أقرب الخلق إلى الله صلى الله عليه وسلم عن هذا المعنى ، حيث يقول حاكيا عن ربه تبارك وتعالى : من تقرب مني شبرا تقربت منه ذراعا ، ومن تقرب مني ذراعا تقربت منه باعا ، ومن أتاني يمشي أتيته هرولةفيجد هذا المحب في باطنه ذوق معنى هذا الحديث ذوقا حقيقيا .
فذكر من مراتب القرب ثلاثة ، ونبه بها على ما دونها وما فوقها . فذكر تقرب العبد إليه بالبر ، وتقربه سبحانه إلى العبد ذراعا ، فإذا ذاق العبد حقيقة هذا التقرب انتقل منه إلى تقرب الذراع ، فيجد ذوق تقرب الرب إليه باعا .
فإذا ذاق حلاوة هذا القرب الثاني أسرع المشي حينئذ إلى ربه ، فيذوق حلاوة إتيانه إليه هرولة ، وهاهنا منتهى الحديث ، منبها على أنه إذا هرول عبده إليه كان قرب حبيبه منه فوق هرولة العبد إليه ، فإما أن يكون قد أمسك عن ذلك لعظيم شاهد الجزاء ، أو لأنه يدخل في الجزاء الذي لم تسمع به أذن ، ولم يخطر على قلب بشر ، أو إحالة له على المراتب المتقدمة ، فكأنه قيل له وقس على هذا ، فعلى قدر ما تبذل منك متقربا إلى ربك يتقرب إليك بأكثر منه ، وعلى هذا فلازم هذا التقرب المذكور في مراتبه ؛ أي من تقرب إلى حبيبه بروحه وجميع قواه ، وإرادته وأقواله وأعماله تقرب الرب منه سبحانه بنفسه في مقابلة تقرب عبده إليه .
وليس القرب في هذه المراتب كلها قرب مسافة حسية ولا مماسة ، بل هو قرب حقيقي ، والرب تعالى فوق سماواته على عرشه ، والعبد في الأرض .
وهذا الموضع هو سر السلوك ، وحقيقة العبودية ، وهو معنى الوصول الذي يدندن حوله القوم .
وملاك هذا الأمر هو قصد التقرب أولا ، ثم التقرب ثانيا ، ثم حال القرب ثالثا ، وهو الانبعاث بالكلية إلى الحبيب .
وحقيقة هذا الانبعاث : أن تفنى بمراده عن هواك ، وبما منه عن حظك ، بل يصير ذلك هو مجموع حظك ومرادك ، وقد عرفت أن من تقرب إلى حبيبه بشيء من الأشياء جوزي على ذلك بقرب هو أضعافه ، وعرفت أن أعلى أنواع التقرب تقرب العبد بجملته بظاهره وباطنه ، وبوجوده إلى حبيبه ، فمن فعل ذلك فقد تقرب بكله ، ولم تبق منه بقية لغير حبيبه ، كما قيل :
لا كان من لسواك فيه بقية يجد السبيل بها إليه العذل
وإذا كان المتقرب إليه بالأعمال يعطي أضعاف أضعاف ما تقرب به ، فما الظن بمن أعطي حال التقرب وذوقه ووجده ؟ فما الظن بمن تقرب إليه بروحه ، وجميع إرادته وهمته ، وأقواله وأعماله ؟
وعلى هذا فكما جاد لحبيبه بنفسه ، فإنه أهل أن يجاد عليه ، بأن يكون ربه سبحانه هو حظه ونصيبه ، عوضا عن كل شيء ، جزاء وفاقا ، فإن الجزاء من جنس العمل . وشواهد هذا كثيرة .
منها : قوله تعالى : ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه ففرق بين الجزاءين كما ترى ، وجعل جزاء المتوكل عليه كونه سبحانه حسبه وكافيه .
ومنها : أن الشهيد لما بذل حياته لله أعاضه الله سبحانه حياة أكمل منها عنده في محل قربه وكرامته .
ومنها : أن من بذل لله شيئا أعاضه الله خيرا منه .
ومنها : قوله تعالى فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون .
ومنها : قوله في الحديث القدسي من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه .
ومنها : قوله من تقرب مني شبرا تقربت منه ذراعا الحديث .
فالعبد لا يزال رابحا على ربه أفضل مما قدم له ، وهذا المتقرب بقلبه وروحه وعمله يفتح عليه ربه بحياة لا تشبه ما الناس فيه من أنواع الحياة ، بل حياة من ليس كذلك بالنسبة إلى حياته ، كحياة الجنين في بطن أمه بالنسبة إلى حياة أهل الدنيا ولذتهم فيها ، بل أعظم من ذلك .
فهذا نموذج من باين شرف هذه الحياة وفضلها ، وإن كان علم هذا يوجب لصاحبه حياة طيبة ، فكيف إن انصبغ القلب به ، وصار حالا ملازما لذاته ؟ فالله المستعان .
فهذه الحياة : هي حياة الدنيا ونعيمها في الحقيقة ، فمن فقدها ففقده لحياته الطبيعية أولى به .
وعلى هذا فكما جاد لحبيبه بنفسه ، فإنه أهل أن يجاد عليه ، بأن يكون ربه سبحانه هو حظه ونصيبه ، عوضا عن كل شيء ، جزاء وفاقا ، فإن الجزاء من جنس العمل . وشواهد هذا كثيرة .
منها : قوله تعالى : ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه ففرق بين الجزاءين كما ترى ، وجعل جزاء المتوكل عليه كونه سبحانه حسبه وكافيه .
ومنها : أن الشهيد لما بذل حياته لله أعاضه الله سبحانه حياة أكمل منها عنده في محل قربه وكرامته .
ومنها : أن من بذل لله شيئا أعاضه الله خيرا منه .
ومنها : قوله تعالى فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون .
ومنها : قوله في الحديث القدسي من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه .
ومنها : قوله من تقرب مني شبرا تقربت منه ذراعا الحديث .
فالعبد لا يزال رابحا على ربه أفضل مما قدم له ، وهذا المتقرب بقلبه وروحه وعمله يفتح عليه ربه بحياة لا تشبه ما الناس فيه من أنواع الحياة ، بل حياة من ليس كذلك بالنسبة إلى حياته ، كحياة الجنين في بطن أمه بالنسبة إلى حياة أهل الدنيا ولذتهم فيها ، بل أعظم من ذلك .
فهذا نموذج من باين شرف هذه الحياة وفضلها ، وإن كان علم هذا يوجب لصاحبه حياة طيبة ، فكيف إن انصبغ القلب به ، وصار حالا ملازما لذاته ؟ فالله المستعان .
فهذه الحياة : هي حياة الدنيا ونعيمها في الحقيقة ، فمن فقدها ففقده لحياته الطبيعية أولى به .
هذي حياة الفتى فإن فقدت ففقده للحياة أليق به
فلا عيش إلا عيش المحبين ، الذين قرت أعينهم بحبيبهم ، وسكنت نفوسهم إليه ، واطمأنت قلوبهم به ، واستأنسوا بقربه ، وتنعموا بحبه ، ففي القلب فاقة لا يسدها إلا محبة الله والإقبال عليه والإنابة إليه ، ولا يلم شعثه بغير ذلك ألبتة ، ومن لم يظفر بذلك : فحياته كلها هموم وغموم ، وآلام وحسرات ، فإنه إن كان ذا همة عالية تقطعت نفسه على الدنيا حسرات ، فإن همته لا ترضى فيها بالدون وإن كان مهينا خسيسا ، فعيشه كعيش أخس الحيوانات ، فلا تقر العيون إلا بمحبة الحبيب الأول .
نقل فؤادك حيث شئت من الهوى ما الحب إلا للحبيب الأول
كم منزل في الأرض يألفه الفتى وحنينه أبدا لأول منزل
كم منزل في الأرض يألفه الفتى وحنينه أبدا لأول منزل