آخر الأخبار

random
جاري التحميل ...

التصوف بين أعمال الجوارح وحركات القلب

قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت، صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب " .
فيه إشارة إلى: أن صلاح حركات العبد بجوارحه، واجتنابه للمحرمات واتقائه للشبهات بحسب صلاح حركة قلبه .
قال ابن القيم الجوزية: “وهذا العلم (أي التصوف) مبني على الإرادة، فهي أساسه ومجمع بنائه، وهو مشتمل على تفاصيل أحكام الإرادة، وهي حركة القلب، ولهذا سمي “علم الباطن” كما أن “علم الفقه” يشتمل على تفاصيل أحكام الجوارح ولهذا سموه “علم الظاهر”… والصوفي ينظر في تلك الحركات من جهة كونها موصلة له إلى مراده أو قاطعة عنه، ومُفسدة لقلبه أو مُصحِّحة له”.
فإذا كان الفقه إذاً لا ينظر إلا في الأحكام الشرعية التي تتعلق بأعمال البدن للمكلَّفين؛ فإن الذي يبحث فيه التصوف هو “حركة القلب” حين أداء هذه الأعمال.
فالصلاةُ مثلا، ليست انحناء للبدن في الركوع والسجود فقط، بل وراءَ هذه الصورةِ روحٌ ومعنى، انشراحٌ وانفساح، حلاوةٌ وذوق، اطمئنان وخشوع؛ لذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخاطب بلالا لإقامة الصلاة فيقول “أرحنا بها يا بلال”، ولِسانُ حالِ كثيرٍ مِنَ المسلمين اليوم هو: “أرحنا منها يا بلال”، قال تعالى: “وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ اِلاّ عَلَى الْخَاشِعِين” [البقرة 45]، أي “لثقيلة إلا على الخاشعين”.
وقُل مِثلَ ذلك في العبادات كلها التي ينبغي ألاّ تكونَ عبادات جافة، بل بمثابة محطاتٍ للاتصال بالله عز وجل انشراحاً وانفساحاً، حلاوةً وذوقاً، طمأنينةً وخشوعا… وهذا هو مدار التصوف.
فكما يتعلم المسلم أحكام الجوارح من صلاة وطهارة وغيرها، فعليه أن يتعلم أحكام القلوب أيضا لأهميتها في كل العبادات؛ لأن القلوب هي محل الابتلاء والتمحيص في جميع الأعمال؛ ولأن القلب كذلك أمير البدن، وبصلاحه تصلح بقية الجوارح؛ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الصحيحين:“ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب”.
قال صاحب اللمع: “وليس التفقُّه في أحكام هذه الأحوال ومعاني المقامات التي تقدّم ذِكرُها بأقلّ فائدة من التفقه في أحكام الطلاق والعتاق والظهار والقصاص والقسامة والحدود؛ لأن تلك أحكام ربما لا تقع في العمر حادثة تحتاج إلى عِلم ذلك، فإذا وقعت تلك الحادثة فمن سأل عنها قلَّدَ في ذلك، وأَخَذَ بقول بعض الفقهاء، فقد سقط عنهُ فرضُ ذلك إلى أن تقع به حادثة أخرى؛ وهذه الأحوال والمقامات والمجاهدات التي يتفقه فيها الصوفية ويتكلمون في حقائقها، فالمومنون مفتقرون إلى ذلك، ومعرفة ذلك واجبة عليهم، وليس لذلك وقت مخصوص دون وقت، وذلك مثل الصدق والإخلاص والذكر ومجانبة الغفلة وغير ذلك ليس له وقت معلوم، بل يجب على العبد في كل لحظة وخطرة أن يعلم إيش قصدُهُ وإرادته وخاطره؛ فإن كان حقا من الحقوق فواجبٌ عليه أن يلزمه، وإن كان حظّا من الحظوظ فواجب عليه مجانبته؛ قال الله تعالى لنبيه وصفيه محمد صلى الله عليه وسلم: “وَلاَ تُطِعْ مَنْ اَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا واتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطَا”[الكهف، 28]، فمن ترَك حالا من هذه الأحوال ما تركها إلا من غلبة الغفلة على قلبه. واعلم أن مستنبطات الصوفية في معاني هذه العلوم ومعرفة دقائقها وحقائقها ينبغي أن تكون أكثر من مستنبطات الفقهاء في معاني أحكام الظاهر…”.

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق