آخر الأخبار

random
جاري التحميل ...

إيقاظ الهمم في شرح الحكم (23)

نقل عن ابن عباد رضي الله عنه : "إذا أراد الله تعالى أن يعز عبده ويرفعه إلى هذا المقام قطع عنه زمام الوهم والجزع وحرره من رق الطمع " فقاده إليه بملاطفة الإحسان أو بسلاسل الامتحان كما أشار إلى ذلك بقوله :

( من لم يقبل على الله بملاطفات الإحسان قيد إليه بسلاسل الامتحان )


قد قسم الله تعالى عباده ثلاثة أقسام : أهل الشمال وأهل اليمين والسابقون.

أما أهل الشمال : فلا كلام عليهم إذ لا إقبال لهم على الله أصلاً.
وأما أهل اليمين : فلهم إقبال بوجه ما لكن لا خصوصية لهم لأنهم قنعوا بظاهر الشريعة ولم يلتفتوا إلى سلوك طريقة ولا حقيقة ، وقفوا مع الدليل والبرهان ولم ينهضوا إلى مقام الشهود والعيان ، ولا كلام معهم أيضاً .

وأما السابقون : فقد أقبلوا على الله متوجهين إليه طالبين الوصول إلى معرفته وهم في ذلك على قسمين :

قسم أقبل على الله بملاطفة إحسانه وقياماً بشكر إنعامه وامتنانه وهم أهل مقام الشكر. 

وقسم أقبل على الله بسلاسل الامتحان وضروب البلايا والمحن وهم أهل مقام الصبر. أهل المقام الأول أقبلوا على الله طوعاً ، وأهل المقام الثاني أقبلوا على الله كرهاً ، قال تعالى : " وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا ".

قال أبو مدين رضي الله عنه : " سنة الله استدعاء العباد لطاعته بسعة الأرزاق ودوام المعافاة ليرجعوا إليه بنعمته فإن لم يفعلوا ابتلاهم بالسراء والضراء لعلهم يرجعون , لأن مراده عز وجل رجوع العباد إليه طوعاً وكرهاً ".

فقوم بسط الله عليهم النعم وصرف عنهم البلايا والنقم ، ورزقهم الصحة وأمدهم بالأموال والعافية ، فأدوا حقها وقاموا بشكرها وتشوقوا إلى معرفة المنعم بها فكانت مطية لهم على السير إليه ومعونة لهم على القدوم عليه ، أخرجوها من قلوبهم وجعلوها في أيديهم وقليل ما هم ، قال تعالى :( وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ‌) وفي مثل هؤلاء ورد الحديث : " نعمت الدنيا مطية المؤمن , عليها يبلغ الخير وبها ينجو من الشر" أو كما قال عليه السلام. 
قال بعض أصحابنا جعل عليه السلام الدنيا مطية للمؤمن حاملة له ولم يجعل المؤمن مطية لها حتى يتكلف حملها ، فهذا يدل على أنها في يده يستعين بها على السير إلى ربه لا إنها في قلبه حتى يرتكب المشقة في طلبها والله تعالى أعلم.

وقوم أمدهم الله بالنعم وبسط لهم في المال والعافية وصرف عنهم النقم فشغلهم ذلك عن النهوض إليه ، ومنعهم من المسير إلى حضرته فسلب ذلك عنهم وضربهم بالبلايا والمحن فأقبلوا على الله بسلاسل الامتحان:" عجب ربك من قوم يساقون إلى الجنة بالسلاسل "وقد مدح الله الغني الشاكر والفقير الصابر بمدح واحد فقال تعالى في حق سليمان عليه السلام :( وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ) وقال في حق أيوب عليه السلام :( إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا ۚ نِّعْمَ الْعَبْدُ ۖ إِنَّهُ أَوَّابٌ ) وقال بعضهم :" لإن أعطى فأشكر أحب إليّ من أن أبتلى فأصبر " وكان الشيخ أبو العباس المرسي يرجح الغني الشاكر على الفقير الصابر.

والتحقيق أن الفقير الصابر هو الغني الشاكر وبالعكس ، لأن الغني إنما هو بالله فإذا استغنى القلب بالله فصاحبه هو الغني الشاكر ، ولا عبرة بما في اليد ، فقد تكون اليد معمورة والقلب فقير ، وقد يكون القلب غنياً بالله واليد فقيرة ، وقد تكون اليد معمورة والقلب مع الله ، غنياً به عما سواه . فأحوال الأولياء لا تنضبط بفقر ولا غنى ، لأن الولاية أمر قلبي لا يعلمها إلا من خصهم بها وبالله التوفيق .

ومن أقبل على الله بملاطفة إحسانه وجب عليه شكر ما أسدي إليه من لطائف كرمه وامتنانه وإلا زالت عنه بسبب كفره وعصيانه وإلى ذلك أشار بقوله :

( من لم يشكر النعم فقد تعرض لزوالها ومن شكرها فقد قيدها بعقالها )

اتفقت مقالات الحكماء على هذا المعنى وأن الشكر قيد الموجود وصيد المفقود وقالوا أيضا :من أعطي ولم يشكر سلب منها ولم يشعر. فمن شكر النعمة فقد قيدها بعقالها ومن كفرها فقد تعرض لزوالها ، قال تعالى : "إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ " أي أن الله لا يغير ما بقوم من النعم حتي يغيروا ما بأنفسهم من الشكر ، وتغييرهم الشكر هو اشتغالهم بالمعاصي والكفر ، ولذلك قال الجنيد رضي الله عنه : "الشكر أن لا يعصى الله بنعمه" وقيل :" الشكر فرح القلب بالمنعم لأجل نعمته حتي يتعدي ذلك إلى الجوارح فتنبسط بالأوامر وتنكف عن الزواجر" .وقال فى لطائف المنن: الشكر على ثلاثة أقسام : شكر اللسان وشكر الأركان وشكر الجنان
فشكر اللسان : التحدث بنعم الله قال تعالى : " وأما بنعمة ربك فحدث ".
وشكر الأركان : العمل بالطاعة لله تعالى قال تعالى:" اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا "
وشكر الجنان : بالإعتراف بأن كل نعمة بك أو بأحد من العباد هي من الله تعالى ، قال الله تعالى " وما بكم من نعمة فمن الله "
.

ومن القسم الأول قول النبي صلى الله عليه وسلم :" التحدث بالنعم شكر" .

ومن الثاني " أنه صلى الله عليه وسلم قام حتى تورمت قدماه فقيل له أتتكلف كل ذلك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخرفقال أفلا أكون عبداً شكوراً ".

وسئل أبو حازم رضي الله عنه :( ما شكر العينين ؟ قال : إذا رأيت بهما خيراً أعلنته , وإذا رأيت بهما شراً سترته.قال: فما شكر الأذنين ؟ قال : إذا سمعت بهما خيراً وعيته وإذا سمعت بهما شراً دفنته .قال : فما شكر اليدين ؟ قال: لا تأخذ بهما ما ليس لك ولا تمنع حقاً هو لله فيهما .قال : فما شكر البطن ؟ قال : أن يكون أسفله صبراً وأعلاه علماً قال :فما شكر الفرج ؟ قال : كما قال الله تعالى :" والذين هم لفروجهم حافظون " إلى قوله :" غير ملومين "قال: فما شكر الرجلين ؟ قال :إن رأيت شيئاً غبطته أستعملتهما, وإن رأيت شيئاً مقته كففتهما ) .

واعلم أن الناس في الشكر على ثلاث درجات :عوام وخواص وخواص الخواص. 

فشكر العوام على النعم فقط وشكر الخواص على النعم والنقم وشكر خواص الخواص الغيبة في المنعم عن شهود النعم والنقم والنعم التي يقع الشكر عليها ثلاثة أقسام :

دنيوية كالصحة والعافية والمال الحلال ودينية كالعلم والعمل والتقوى والمعرفة وأخروية كالثواب على العمل القليل بالعطاء الجزيل وأجل النعم الدينية التي يتأكد الشكر عليها نعمة الإسلام سلام والإيمان والمعرفة وشكرها هو اعتقاد أنها منة من الله تعالى بلا واسطة ولا حول ولا قوة قال الله تعالى :" وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ "ثم قال " فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً ".

قال أبو طالب المكي رضي الله عنه بعد كلام : "فلو قلب قلوبنا في الشك والضلال كما يقلب نياتنا في الأعمال ، أي شيء كنا نصنع وعلى أي شيء نعول وبأي شيء كنا نطمئن ونرجو؟ فهذا من كبائر النعم ومعرفته هو شكر نعمة الإيمان والجهل بهذا غفلة عن نعمة الإيمان توجب العقوبة , وإدعاء الإيمان أنه عن كسب معقول أو استطاعة بقوة وحول هو كفر نعمة الإيمان وأخاف على من توهم ذلك أن يسلب الإيمان لأنه بدل شكر نعمة الإيمان كفرا " . فإن غفل العبد عن شكر هذه النعم ثم دامت صورتها عنده فلا يغتر فقد يكون ذلك استدراجاً ، كما أشار إلى ذلك بقوله : 

(خف من وجود إحسانه إليك ودوام إساءتك معه أن يكون ذلك استدراجاً - سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ)

الاستدراج : هو كمون المحنة في عين المنة وهو مأخوذ من درج الصبيأي أخذ في  المشي شيئاً بعد شيء ومنه الدرج الذي يرتقي عليه إلى العلو كذلك المستدرج هو الذي تؤخذ منه النعمة شيئاً بعد شيء وهو لا يشعر , قال الله تعالى : ( سنستدرجهم من حيث لا يعلمون ) أي : نأخذهم بالنعم حتى نجرهم إلى النقم وهم لا يشعرون" قاله الشيخ زروق رضي الله عنه ".

فخف أيها المريد من دوام إحسان الحق إليك بالصحة والفراغ وسعة الأرزاق ودوام الأمداد الحسية أو المعنوية مع دوام أساءتك معه بالغفلة والتقصيروعدم شكرك للملك الكبير أن يكون ذلك استدراجاً منه تعالى ، قال تعالى : ( سنستدرجهم من حيث لا يعلمون ).

قال سهل بن عبد الله رضي الله عنه :نمدهم بالنعم وننسيهم الشكر عليها , فإذا ركنوا إلى النعمة وحجبوا عن المنعم أخذوا.وقال ابن عطاء رضي الله عنه: كلما أحدثوا خطيئة جددنا لهم نعمة ونسيناهم الأستغفار من تلك الخطيئة ثم قال الحق تعالى : ( وأملي لهم )

أي نمدهم بالعوافي والنعم حتى نأخذهم بغتة قال تعالى : ( فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ  )

أي فلما غفلوا عما ذكروا به من العقوبة والعذاب فتحنا عليهم أبواب النعم وبسطنا عليهم الأرزاق الحسية حتى إذا فرحوا بما أوتوا من النعم وتمكنوا منها أخذناهم بالهلاك بغتة أي فجأة فإذا هم مبلسون آيسون من كل خير وهكذا عادة الله في خلقه أن يرسل إليهم من يذكرهم بالله ويدلهم على الله فإذا أعرضوا عنه وردوا عليه قوله بسط عليهم النعم الحسية حتى إذا اطمأنوا وفرحوا بها دمرهم الله وأخذهم بغتة ليكون ذلك أشد في العقوبة .قال تعالى :وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ) فالواجب على الإنسان إذا أحس بنعمة ظاهرة أو باطنة حسية أو معنوية أن يعرف حقها ويبادر إلى شكرها نطقاً وأعتقاداً وعملاً فالنطق : الحمد والشكر باللسان والإعتقاد : شهود المنعم في النعمة وأسنادها إليه والغيبة عن الواسطة بالقلب مع شكرها باللسان " من لم يشكر الناس لم يشكر الله " " أشكركم للناس أشكركم لله "فإذا قال له جزاك الله خيراً فقد أدى شكرها والشكر بالعمل صرفها في طاعة الله كما تقدم , فإن لم يقم بهذا الواجب خيف عليه السلب والإستدراج وهو أقبح والحاصل : أن الشكر هو الأدب مع المنعم ومن جاءت على يديه فإن أساء الأدب أدب وقد يؤدب في الباطن وهو لا يشعر كما أشار إلى ذلك بقوله :

( من جهل المريد أن يسييء الأدب فتؤخر العقوبة عنه فيقول : لو كان هذا سوء أدب لقطع الأمداد وأوجب البعاد , فقد يقطع المدد عنه من حيث لا يشعر ولو لم يكن إلا منع المزيد . وقد تقام مقام البعد وأنت لا تدري ولو لم يكن إلا أن يخليك وما تريد )


من الأمور المؤكدة على المريد الصادق أن يراعي الأدب مع الله في كل شيء ويلتزم التعظيم لكل شيء ويحفظ الحرمة في كل شيء فإن أخل بشيء من هذه الأمور وأساء الأدب مع ربه فليبادر بالتوبة والاعتذار مع الذلة والانكسار فإن أخر التوبة إلى وقت آخر انقطعت عنه الأمداد , واستوجب الطرد والبعاد , وقد لا يشعر بذلك في الحين فيحتج لنفسه ويقول لو كان هذا سوء أدب لا نقطع عني المدد وهذا منه جهل قبيح يفضي إلى العطب إن لم تدركه العناية من رب الأرباب وإنما كان هذا جهلاً من المريد لانتصاره لنفسه وقت سوء أدبه وعدم شعوره بنقصان قلبه إذ لو كان عالماً بمخادع النفس لاتهمها وما انتصر لها ولو كان عارفاً بربه لشعر بنقصان قلبه فقد جمع بين جهالة وجهل ، فالجهالة هي : سوء الأدب الذي صدر منه ، والجهل هو : مخاصمته عن نفسه , وإنكاره أن يكون ما صدر منه سوء أدب وما احتج به من كونه لم يحس بالعقوبة ولو كان ذلك سوء أدب لأحس بقطع الأمداد ولأوجب الطرد والبعاد لا ينهض فقد يقطع عنه المدد وهو لا يشعر ومثال ذلك الأشجار التي على الماء فإذا قطع عنها الماء لا يظهر أثر العطش عليها إلا بعد حين فإذا طال الأمر يبست شيئاً فشيئاً ، كذلك قلب المريد قد لا يحس بقطع المدد في القرب حتى يغرق في الوهم ويحترق بالحس فإن كانت له سابقة خير تاب وأصلح ما أفسد فيرجع إليه المدد وإن لم تكن له سابقة رجع إلى وطنه وأقام في بعده نسأل الله السلامة من سلب نعمته بعد عطائه ، ولو لم يكن من العقوبة إلا منع المزيد من السير أو الترقي لكان كافياً لإن من لم يكن في زيادة فهو في نقصان ومن كان يومه شراً من أمسه فهو في الخسران.

وقوله في الاحتجاج أيضاً لو كان هذا سوء أدب لأوجب البعاد فقد يقام مقام البعد وهو يظن أنه في محل القرب ، لأن مراتب القرب والبعد لا نهاية لها وما من مقام في القرب إلا وما بعده أعظم منه حتى يكون ذلك القرب بالنسبة إلى ما بعده بعداً, ولو لم يكن ذلك البعد إلا أن يتركك مع ما تريد لكان كافياً في الطرد والبعد , إذ ترك البعد مع هواه وشهواته من علامة الإهمال وإخراج العبد عن هواه وما تركن إليه نفسه من علامة الإعتناء والإقبال فإذا إعتنى الله تعالى بعبد وأراد أن يوصله إلى حضرته شوش عليه كل ما تركن إليه نفسه وأزعجه طوعاً أو كرهاً حتى يوئسه من هذا العالم ولم يبق له ركون إلى شيء منه فحينئذ يصطفيه لحضرته ويجتبيه لمحبته فليس له حينئذ عن نفسه أخبار ولا مع غير الله قرار وأصل ذلك قضية سيدنا موسى عليه السلام لما علم الله تعالى محبته لعصاه وركونه إليها قال له الحق تعالى :" وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى " أي حوائج أخرى ( قال ) له ( ألقها يا موسى فألقاها فإذا هي حية تسعى ) فلما فر عنها وقطع يأسه منها ( قال ) له ( خذها ولا تخف )لإنها لا تضرك حيث رجعت إليها بالله ويقال للفقير وما تلك بيمينك أيها الفقير ؟ فيقول هي دنياي أعتمد عليها وأقضي بها مآربي فيقال له ألقها من يدك . فإذا هي حية تسعى كانت تلدغه وهو لا يشعر فإذا أيس منها وأستأنس بالله وأطمأن به قيل له خذها ولا تخف لأنك تأخذها بالله لا بنفسك والله تعالى أعلم.
ومواطن الآداب التي يخل بها المريد فيعاقب عليها ثلاثة :
آداب مع الله ورسوله 
وآداب مع الشيخ 
وآداب مع الأخوان

فأما الآداب مع الله بإعتبار العوام , فبإمتثال أمره وأجتناب نهيه ومع رسوله بأتباع السنة ومجانبة أهل البدعة فإذا قصروا في الأمر أو خالفوا في النهي عوقبوا عاجلاً في الحس أو آجلاً في المعنى والحس وبإعتبار الخواص مع الله بالأكثار من ذكره ومراقبة حضوره وإيثار محبته زاد الشيخ زروق : "وحفظ الحدود , والوفاء بالعهود والتعلق بالملك الودود والرضى بالموجود وبذل الطاقة والمجهود".

ومع رسوله صلى الله عليه وسلم بإيثار محبته والإهتداء بهديه والتخلق بأخلاقه فإذا قصروا في ذكره أو جالت قلوبهم في غير حضرته أو مالت محبتهم إلى شيء سواه أو قصروا في شيء مما تقدم أو حلوا عقدة عقدوها مع الله عوقبوا في الحس بالضرب أو السجن أو الإذاية باللسان أو في المعني وهو أشد كقطع المدد وإيجاب الطرد والإقامة مقام البعد وبإعتبار خواص الخواص وهم الواصلون يكون مع الله بالتواضع معه في كل شيء والتعظيم لكل شيء ودوام معرفته في تجليات الجلال والجمال أو مع اختلاف الآثار وتنقلات الأطوار . 

ومع رسوله صلى الله عليه وسلم بالتحقق بحسبه وتعظيم أمته وشهود نوره كما قال أبو العباس المرسي :"لي ثلاثون سنة ما غاب عني رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفة عين ولو غاب عني ما أعددت نفسي من المسلمين".

فإذا قصر العارف فيما تقدم في حقه أو في حق غيره من الآداب عوقب في الحس أو في المعنى والغالب تيقظه في الحين فيستدرك ما فات ( إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ) فهذه جملة الآداب التي تكون مع الله من العوام والخواص وخواص الخواص أو تقول من الطالبين والسائرين والواصلين والله تعالى أعلم.
وأما الآداب التي تكون مع الشيخ فمرجعها إلى ثمانية أمور أربعة ظاهرة وأربعة باطنة.
فأما الظاهرة : فأولها: إمتثال أمره وإن ظهر له خلافه واجتناب نهيه وإن كان فيه حتفه فخطأ الشيخ أحسن من صواب المريد.
وثانيها :السكينة والوقار في الجلوس بين يديه فلا يضحك بين يديه ولا يرفع صوته عليه ولا يتكلم حتى يستدعيه للكلام أو يفهم عنه بقرائن الأحوال كحال المذاكرة بخفض صوت ورفق ولين ولا يأكل معه ولا بين يديه ولا ينام معه أو قريباً منه قال شيخ شيوخنا سيدي علي رضي الله عنه في كتابه : ومن آداب المريد مع الشيخ أن لا يأكل معه ولا ينام معه ولا يضحك  بين يديه ولا ينام في فراشه ولا يجلس في موضع جلوسه ولا يتكلم في مجلس الشيخ ولو كلمة واحدة والكلام فيه سوء الأدب أكثر من كل شيء , وكل ما يشبه هذه الأوصاف يؤدي لعدم التعظيم والإزدراء بجانب الشيخ وذلك هو الخسران المبين , والعياذ بالله من السلب بعد العطاء والطرد بعد الإقبال .
قالوا : اجعل عملك ملحاً وأدبك دقيقاً.
وثالثها : المبادرة إلى خدمته بقدر الإمكان بنفسه أو بماله أو بقوله فخدمة الرجال، سبب الوصال ، لمولي الموالي.
ورابعها : دوام حضور مجلسه فإن لم يكن فتكرير الوصول إليه إذ بقدر تكرير الوصال إليه يقرب الوصول فمدد الشيخ جار كالساقية أو القادوس فإذا غفل عن الساقية أو القادوس تحزم وأنقطع الماء إلى غيره وأيضاً تكرير الوصول يدل على شدة المحبة وبقدر المحبة تكون الشربة وفي هذا المعنى قال شيخ شيوخنا المجذوب رضي الله عنه :
لا محبة إلا بأصول ... ولا وصول إلا غالي
ولا شراب إلا مختوم ... ولا مقام إلا عالي
وقال شيخ شيوخنا سيدي علي الجمل رضي الله عنه في كتابه : اعلم أنه لا يقرب طالب الوصول إلى الله تعالى شيء مثل جلوسه مع عارف بالله إن وجده .ثم قال : الجلوس مع العارف بالله أفضل من العزلة والعزلة أفضل من الجلوس مع العوام الغافلين والجلوس مع العامي الغافل أفضل من الجلوس مع الفقير الجاهل كما أن العارف بالله يجمع بين المريد ومولاه بنظرة أو بكلمة كذلك الفقير الجاهل بالله ربما أتلف المريد عن مولاه بنظرة أو بكلمة فما فوقها.

وأما الآداب الباطنية : فأولها اعتقاد كما له وأنه أهل للشيخوخة والتربية لجمعه بين شريعة وحقيقة وبين جذب وسلوك وأنه على قدم النبي صلى الله عليه وسلم.

وثانيها : تعظيمه وحفظ حرمته غائباً وحاضراً وتربية محبته في قلبه وهو دليل صدقه وبقدر التصديق يكون فمن لا صدق له لا سير له ولو بقي مع الشيخ ألف سنة.

وثالثها :إنعزاله عن عقله ورياسته وعمله وعمله إلا ما يرد عليه من قبل شيخه كما فعل شيخ طريقتنا الشاذلي رضي الله عنه عند ملاقاته بشيخه فهي سنة في طريقه فكل من أتى شيخه في هذه الطريقة الشاذلية فلا بد أن يغتسل من عمله وعمله قبل أن يصل إلى شيخه لينال الشراب الصافي من بحر مدده الوافي.

ورابعها :عدم الانتقال عنه إلى غيره وهذا عندهم من أقبح كل قبيح وأشنع كل شنيع وهو سبب تسويس بذرة الإرادة , فتفسد شجرة الإرادة لفساد أصلها وهذا كله مع شيوخ التربية كما تقدم وأما شيوخ أهل الظاهر فلا بأس أن ينتقل عنهم إلى أهل الباطن إن وجدهم ولا يحتاج إلى إذن والله تعالى أعلم.

وأما الآداب مع الأخوان فأربعة:

 أولها :حفظ حرمتهم غائبين أو حاضرين فلا يغتاب أحداً ولا ينقص أحداً فلا يقول أصحاب سيدي فلان كمال وأصحاب سيدي فلان نقص أو فلان عارف أو فلان ليس بعارف أو فلان ضعيف وفلان قوي أو غير ذلك فهذه عين الغيبة وهي حرام بالإجماع لا سيما في حق الأولياء ، فإن لحومهم سموم قاتلة كلحوم العلماء والصالحين ، فليحذر المريد جهده من هذه الخصلة الذميمة وليفر ممن هذا طبعه فراره من الأسد ، فمن أولع بهذا فلا يفلح أبداً ، فالأولياء كالأنبياء فمن فرق بينهم حرم خيرهم وكفر نعمتهم ، وقد قال بعض الصوفية :"من كسره الفقراء لا يجبره الشيخ ومن كسره الشيخ فقد يجبره الفقراء "وهو صحيح مجرب لأن إذاية ولي واحد ليس كإذاية أولياء كثيرة ، ومن كسره الشيخ يشفع فيه الإخوان فيجبر قلب الشيخ بخلاف قلوب الفقراء إذا تغيرت قل أن تتفق على الجبر والله تعالى أعلم .

وثانيها :نصيحتهم بتعليم جاهلهم وإرشاد ضالهم وتقوية ضعيفهم ولو بالسفر إليه ، فإن فيهم أهل بدايات ونهايات ، والقوي والضعيف ، فكل واحد يذكره بما يليق بمقامه ، خاطبوا الناس بقدر ما يفهمون كما في الحديث.

وثالثها : التواضع لهم والإستنصاف من نفسك معهم وخدمتهم بقدر الإمكان ، فخديم القوم سيدهم ، فمن عرض له شغل لا ينفك عنه فالواجب إعانته ليتفرغ منه إلى ذكر الله أن كان خفيفاً قال تعالى :" وتعاونوا على البر والتقوى " فكل ما يشغل قلب الفقير فدفعه جهاد وبر.

ورابعها : شهود الصفا فيهم واعتقاد كمالهم فلا ينقص أحداً ولو رأى منه ما يوجب النقص في الظاهر فالمؤمن يلتمس المعاذر ، فليلتمس له سبعين عذراً ، فإن لم يزل عنه موجب نقصه فليشهده في نفسه ، ، فالمؤمن مرآة أخيه ما كان في الناظر يظهر فيه ، فأهل الصفا لا يشهدون إلا الصفا ، وأهل التخليط لا يشهدون إلا التخليط ، أهل الكمال لا يشهدون إلا الكمال ، وأهل النقص لا يشهدون إلا النقص ، وتقدم في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم :"خصلتان ليس فوقهما شيء من الخير حسن الظن بالله وحسن الظن بعباد الله وخصلتان ليس فوقهما شيء من الشر سوء الظن بالله وسوء الظن بعباد الله " وبالله التوفيق.

فهذه من جملة الآداب التي يجب على الفقير مراعاتها والتحفظ عليها ، سواء كان طالباً أو سائراً أو واصلاً ، وقد تقدمت في أول الباب الأول ثمانية آداب بعضها في حق العارف وبعضها في حق السائر فليراجعها وليعمل بمقتضاها فإن الطريق كلها آداب حتى قال بعضهم :" اجعل عملك ملحاً وأدبك دقيقاً "وقال أبو حفص رضي الله عنه :" التصوف كله آداب لكل وقت آداب ولكل حال آداب ولكل مقام آداب فمن لزم الأدب بلغ مبلغ الرجال ، ومن حرم الأدب فهو بعيد من حيث يظن القرب ، مردود من حيث يظن القبول ، وقال بعضهم :" الزم الأدب ظاهراً وباطناً ، فما أساء أحد الأدب ظاهراً إلا عوقب في الظاهر، وما أساء أحد الأدب باطناً إلا عوقب في الباطن " وقال في المباحث الأصلية :" من حرم الأدب فهو بعيد من حيث يظن القرب مردود من حيث يظن القبول".
وقال أبو حفص السراج رحمه الله :" والناس في الآداب على ثلاث طبقات ، أهل الدنيا وأهل الدين وأهل الخصوصية من أهل الدين ، فأما أهل الدنيا فأكثر آدابهم في البلاغة وأخبار الملوك وأشعار العرب، وأما أهل الدين فأكثر آدابهم حفظ العلوم ورياضة النفوس وتأديب الجوارح وتهذيب الطباع وحفظ الحدود وترك الشهوات وأجتناب الشبهات والمسارعة إلى الخيرات ، وأما أهل الخصوصية من أهل الدين فآدابهم حفظ القلوب ومراعاة الأسرار وإستواء السر والعلانية ، فالمريدون يتفاضلون بالعلم ، والمتوسطون بالآداب ، والعارفون بالهمم " ثم ما ذكره الشيخ من لزوم الجهل للمريد مقيد بما ذكره من إحتجاجه لنفسه ومدافعته عنها لأنه في هذه الحالة صاحب جدل لتركيبه المقدمة والنتيجة وعليه يفهم قولهم ما ألهم قوم الجدل إلا حرموا العمل وأما لو إعترف بإساءته وأنصف من نفسه لم يكن ذلك في حقه جهلاً ولا جهالة وقد قالوا عدم الأدب أن كان يجر إلى الأدب فهو أدب والله تعالى أعلم.



التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق