آخر الأخبار

random
جاري التحميل ...

معالم للحياة في الخطاب الصوفي

معالم للحياة في الخطاب الصوفي

المعرفة تغدية
معالم للحياة في الخطاب الصوفي
الدكتور حكيم الفضيل الإدريسي

    تعد عبارة {الشراب والشرب} الاستعارة الأكثر انتشارا في الخطاب الصوفي نثره وشعره، والدلالة الأقوى ظهورا في التعبير عن تجليات الصور والفهوم الموصلة للمعرفة الإهية، فالشراب في المفهوم الصوفي " هو النور الساطع عن جمال المحبوب "، و " الشرب هو ما يجدون من ثمرات التجلي، ونتائج الكشوف وبواده الواردات "، ولقد فسر الإمام جعفر الصادق قوله تعالى :{ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا }، بقوله : " سقاهم التوحيد في السر فتاهوا عن جميع ما سواه فلم يفيقوا إلا عند المعاينة ورفع الحجاب فيما بينهم وبينه...".

    إن الشراب بهذا المعنى هو حياة القلوب إنه الغداء الذي يحرّك في الإنسان حقيقته وجوهره، وهذا ما عبّر عنه القرآن بقوله تعالى :{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ }.

    فالحياة المقصودة هنا هي الحياة الروحية المعنوية المتمثلة في الإقرار بوحدانية الله، وذلك بإفراد العبودية له دون سواه.

    وفي حديث نبوي شريف يعد من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم نجد استعارة المشروب للعلم والهداية.

    قال صلى الله عليه وسلم :{ مَثَلَ مَا بَعَثَنِيَ اللَّهُ بِهِ مِنْ الْهُدَى وَالْعِلْمِ, كَمَثَلِ الغَيْثٍ الكثير أَصَابَ أَرْضًا, فكان منها نقيَّة قَبِلَتْ الْمَاءَ, فَأَنْبَتَتْ الْكَلَأَ, وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ, وَكَانَ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتْ الْمَاءَ, فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ, فسَقَوْا, وَشَرِبُوا وزَرعوا, وَأَصَابَت مِنْهَا طَائِفَةً أُخْرَى, إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لَا تُمْسِكُ مَاءً, وَلَا تُنْبِتُ كَلَأً, فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللَّهِ, وَنَفَعَهُ بِمَا بَعَثَنِيَ اللَّهُ بِهِ, فَعَلِمَ وَعَلَّمَ, وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا, وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ }. ولقد فسر ابن عباس قوله تعالى :{ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا }، قال: " يقول : أنزل جبريل بالقرآن، وبيّن فيه الحق والباطل، فاحتملت القلوب المنورة الحق بقدر سعتها ونورها...".

    وهكذا يصبح الماء إشارة للعلم وهو مشروب، والأودية رمز للقلوب وهي أوعية العلم.

    ويفهم هذا المعنى من قوله تعالى : { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ * اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ }.

    فقد ربط الله تعالى الحديث عن قساوة القلوب وخشوعها، بذكر إحياء الأرض، فكما أنها تجيء بالماء، فكذلك القلوب تحيى بماء الغيب وهو الإيمان.

    نعم إن محل تنزل العلوم اللدنية العلوية إنما هو القلب، قال الله تعالى : { نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ }.

    وقد فسّر صلى الله عليه وسلم المشروب في الرؤيا المنامية بالعلم، إذ قال عليه الصلاة والسلام : " بينما أنا نائم شربت - يعني اللبن - حتى أنظر إلى الري يجري في ظفري - أو أظفاري - ثم ناولت عمر، قالوا : فما أولته يا رسول الله ؟ قال:العلم".

    وكان مما قدم له صلى الله عليه وسلم المشروب في رحلة الإسراء والمعراج المشروب، " إذ أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به بإيلياء بقدحين من خمر ولبن، فنظر إليهما فأخد اللبن، قال جبريل :" الحمد لله الذي هداك للفطرة، لو أخدت الخمر غوت أمتك ".

    ولقد استعمل الصوفية هذا التعبير عن معراجهم الروحي، قال ابن عربي :" وأتيت بالخمر واللبن، فشربت تمام ميراث اللبن، وتركت الخمر حذرا أن أكشف السر بالسكر، فيضل من يقفو أثري ويعمى، ولو أتيت بالماء بدلها لشربت الماء، فإن خلاصة ميراث التمكين في قوله تعالى :{ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } ولو كان المشروب عسلا ما اتخد أحد الشريعة قبلا لسر خفي في النحل، فيه هلاك القلوب بالمحل ".

    بناءا على ما تقدم وأمام هذا الكم من هذه الشواهد أجمع الصوفية - وهم أهل الباطن أن تلقيهم للمعارف اللدنية والأسرار الربانية إنما هو مثل الشراب الذي يروي العروق، ويجدد الحياة ويفتح البصائر والأبصار، ومثل سريان الماء في جدور النباتات، لذلك جعل الله تعالى : من هذا الرمزأصل الحياة، قال الله تعالى : {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ }

**   **   **

التصوف وإشعاعه الخلقي والحضاري
عروض جمعها ونسقها د. منير القادري

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق