آخر الأخبار

جاري التحميل ...

التصوف وبناء الإنسان نحو إصلاح متوازن

حظي الإنسان في زمننا الحديث والمعاصر باهتمام بالغ إلى درجة أضحى معها مركز الـكون، وكائنا مطلقا يمكن اعتباره مصدرا للحقيقة ومنبعا للمعنى، مما أدى إلى معاناة كبرى وأزمات خانقة جعلت كثيرا من الفلاسفة والمفكرين يراجعون مثل هذه الطروحات، بعدما رصدوا "الخراب" الذي تعيشه الإنسانية في مختلف تجلياتها الروحية والنفسية والأخلاقية إن على مستوى الأفراد أو الجماعات.

إن ارتفاع إيقاع الحياة المعاصرة زاد من حدة التوترات والضغوط، وبدا إنسان اليوم وكأنه يستيقظ من حلم تحقيق الرفاه الكامل والسعادة الأبدية متيقنا من نسبيته في هذا الوجود، ومسؤوليته في الحاضر والمستقبل، مما جعله يواجه أسئلة حارقة تمس سلامة حياته في كوكب الأرض الذي يتعرض للاستنزاف المتزايد لثرواته، ولتآكل شديد لتماسكه الأسري والمجتمعي، ولاختلال خطير لتوازنه البيئي، واعتلال للعلاقات بين الأمم والشعوب، وضمور ثقافة السلم والمحبة والسلام، لتحل محلها معاول التخويف والترهيب والحروب، مما أدى إلى مزيد من القلق والحـيرة لدى إنسان اليوم، وخلق لديه عطشا كبيرا إلى الخلاص، وتعلقا شديدا بالأجوبة الكافية والشافية التي أصبح معها للأسف عرضة لتجريب وصفات متنوعة تمنيه بحياة أفضل، وتتخذ أشكالا مختلفة قد تكون أنواع الإدمان المدمرة، أو صنوف الروحانيات المصطنعة التي لا تزيده إلا يأسا وقنوطا.

هكذا أصبح الإنسان اليوم في حاجة إلى بناء يستعيد به توازنه المفقود، وينتشله من براثن التعاسة والشقاء، ويضعه من جديد على سكة العطاء الحضاري النافع في الحال والمآل، بخلاف ما تعرض له الإنسان من "تجريب" لمناهج ورؤى من صنع الإنسان نفسه، حيث سقط في الإيمان بها بشكل يقيني، ولـكن سرعان ما انقلبت عليه بأوخم العواقب و ، يعتبر تاريخنا المعاصر أكبر شاهد عليها.

ارتبط الإنسان بمرجعيات بعيدة عن هويته باعتباره كائنا في غاية التركيب والتعقيد لا تنفصل عناصره التي تجمع بين الروحي والنفسي والجسدي والاجتماعي، فالمنظورات المختلفة التي تفكر في الإنسان، وٺتدبر شأنه يغلب عليها التجزيء في تناول عمرانه الشامخ، ولا تستطيع الوفاء برؤية تكاملية تستوعب مفردات وجوده المرئي واللامرئي، الغائب والشاهد، الجثماني والروحاني.

فالإنسان مذ خلق، وهو يحاول التعرف على ماهيته وكينونته والغاية من وجوده، وخلف لنا هذا التساؤل تراثا كبيرا من الأجوبة مازال يعرف قراءات متتالية ومتجددة إلى اليوم، قراءات تسهر على مساءلة أنساقه وفحص مفاهيمه واختبار طرائق استدلاله. غير أن الخيط الناظم بين مختلف النماذج النظرية منها والعملية هو انطلاقها من خلفيات مرجعية تؤطر منظورها للإنسان.

لذلك ورغم الجهود الـكثيفة والصادقة للفلاسفة ودعاة الإصلاح في البحث عن نظام إنساني مثالي لا تشوبه أنواع العوائق والآفات وصنوف الأمراض والأزمات؛ فإن المجتمعات "المتقدمة" لم تستطع أن تصل اليوم إلى تحقيق التوازن والاستقرار والأمن والاطمئنان والسلم والسعادة.

ويعزى فشل كثير من النظريات التي أصبحت أوراق خريفها تتهاوى وتنسى، إلى تجاهلها لحقيقة الإنسان الجامعة بين الروح والمادة. إذ قامت هذه النظريات على النظرة المادية البحتة للإنسان الو بعد الـكبير عن النهج الرباني القويم.

في حين ٺتأسس الرؤية الكلية للإنسان في المنظور الإسلامي الشامل على الوحي القرآني الخاتم والهدي النبوي القائم، والتي تجعل من الإنسان موجودا يتحمل أمانة الاستخلاف في هذا العالم دون باقي الموجودات و. يتحمل مسؤولية التغيير لقوله عز وجل : ﴿ِإن اللّٰه لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْم حَتَّي يُغَيِّرُوا مَا بِأنفُسِهِمْ﴾، وهو بهذا الاعتبار قد زوده بارئه عز وجل بقدرات وكفاءات تؤهله للقيام بما أنيط به من مهام ومطالب عبر استفراغ جهده واجتهاده في سبيل تحقيق كمالات الإعمار المنشود والمأمول.

يقوم الإصلاح وتقويم الأخلاق في التشريعات الوضعية على الاجتهاد البشري والرأي الإنساني. مما يعرضه للتأثر بالنزعات المختلفة والأهواء المتعددة والظروف المتغيرة، بحيث يكون مفتقرا للمقاصد الكلية الثابتة التي بينها الشرع الإلهي، والتي يمكن اعتبارها إطارا ٺتنافس فيه العقول الاجتهادية من أجل حسن تنزيلها بما يوافق الحكمة التشريعية الإلهية، بخلاف ما يشوب الاجتهاد البشري المجرد من نقائص واختلالات معيارية ومعرفية تتعلق بالخـير والشر والصحيح والخطأ والجائز والمحظور . ...

بينما يقوم بناء معايير الخـير والشر والحلال والحرام في الإسلام على التشريع الرباني قرآنا وسنة واجتهاد . ذلك التشريع الذي بين الأصول الكلية، ووجه الفروع و ، عمل بذلك على تشكيل المنظومة القيمية والأخلاقية التي بها يهتدي الإنسان، فالحلال والحرام قيمتان بينتان ثابتتان ترسم الحدود لبناء مجتمعي متوازن لا يناقض الفطرة الإنسانية السليمة.

فما أحوج البشرية اليوم في علاجها لمشاكلها من استلهام روح التشريع الإسلامي، وفعالية وعمق المنهج الصوفي في سبر أغوار النفوس البشرية وتخليصها من ربقة أغلال عيوبها وأمراضها المزمنة، والسعي إلى علاجها بشكل شمولي ومتكامل، وهو ما دأب على بذل الجهد فيه رجال الإصلاح والتربية الصوفية الذين ورثوا حكمة تهذيب النفوس وترقيتها من فيض الهدي النبوي المحمدي، والذي يحث على إصلاح القلوب عملا بالحديث الصحيح : (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت، فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)، فليست مهمة الأنبياء والرسل ومن سار على هديهم إلا التذكير بوظائف الإنسان الأصلية، والتي تضيع معالمها مع توالي الزمان وتعاقب النسيان، مما جعل بعض مجتهدي الأمة من أهل التصوف وتزكية النفوس ينكبون على هذا الصنف من البناء الروحي لهوية الإنسان، من خلال إعادة ربط اتصاله بحبل النبوة والوحي المحمدي في تكامل مع مختلف البناءات التي يكتمل بها معمار الإنسان، والذي يصير به مفتاحا لكل تقدم حضاري آمن وسليم. فالإنسان في المنظور الصوفي كائن ميثاقي أخذ على نفسه العهد وهو مازال روحا في عالم الذرة والأزل بأنه عبد للّٰه تعالى، ولذلك فهو بحكم امتحانه بالقفص الطيني في عالم الابتلاء مدعو لاستعادة توازنه الصعب بين معطيات المادة ومتطلبات الروح..

إن البناء العلاجي الصوفي يعطي الاعتبار للأسباب المباشرة وغير المباشرة، القريبة والبعيدة، ويربطها بما هو أفقي مادي وضعي، وبما هو علوي رباني وعميق، فهو يغوص في أعماق النفس البشرية ودخائلها وتحولاتها وينظر في المشاكل الإنسانية من خلال الاستقصاء الشمولي لكل عللها. فالجمع بين الظاهر والباطن هو الـكفيل باستئصال جرثومة الآفات من جذورها لأن خطورتها تكمن في رسوخها العميق نتيجة غريزة مستحكمة، أو نزعة متسلطة، أو إدمان طويل ..

هكذا تتجلى سماحة الدين الإسلامي ويسره ومراعاته للطبيعة البشرية، وتدرجه في إصلاح النفوس وتقويم السلوك وبناء العقيدة السنية. مما يدعو الإنسانية اليوم إلى تأمل واقع الحضارة اليوم، والتفكير في مشاريع نهوض وبرامج إصلاح تستدمج الأبعاد الروحية والقيم الأخلاقية العليا في صياغة نموذج حضاري يعود بالنفع في العاجل والآجل.

مذكرة تقديمية للملتقى العالمي الثامن للتصوف

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق الصوفية