■
من خلال كتابه «الحضور الصوفي في زمن العولمة».. منير القادرى يسلط الضوء على تحديات التصوف.. ونحتاج وثبة روحية لتحقيق التوازن بين الجسد والروح.
يظل التواجد الصوفي على الساحة الدينية والعالمية، لغزًا كبيرًا، خاصة بعدما استطاعت معظم الدول العربية والإسلامية إنهاء سيطرة الجماعات المتطرفة وتهيئة الأجواء أمام القبول بتلك الروحانيات والصفاء والاعتدال الذي تمتع به التصوف عبر تاريخه. أحد المفكرين الصوفيين المغاربة، الدكتور منير القادري البودشيشي، مدير مركز الأورو متوسطي بفرنسا، نجل شيخ الطريقة القادرية البودشيشية بالمغرب، حاول من خلال مؤلفه الذي يحمل عنوان "الحضور الصوفي في زمن العولمة"، تسليط الضوء علي التصوف في ظل وجود التحديات الخاصة بعصر العولمة.
وشدد على أن التصوف هو ذاك الحصن الآمن وباب تلك النجاة والسلامة من هذه الانحرافات للقيمة الصوفية من نفائس نورانية تجعله يتجاوز الطابع التراثي والفلكلوري، والحضور الصوري والشكلي إلى حضور أساسي وجوهري ومتميز وكفيل بحل مشاكل المجتمع، وإعطائه نفسًا جديدًا من أجل التخليق والفعالية والمساهمة في التنمية وتحقيق التوازن سواء بالنسبة للفرد أم المجتمع.
تطرق القادري إلى الحديث عن العلاجات الصوفية للعوائق القلبية والنفسية وثمارها التواصلية، قائلًا: "إن التصوف ينطلق من حقيقة هي أن القلب هو محل نظر الله في الإنسان لذلك يركزون كل الجهود التربوية، لفك أقفاله وتبديد ظلمانية غفلاته وتليين قسوته، وتوجيهه إلى بارئه، وربط صلته به في جميع الأحوال".
■
الذكر ومواجهة أمراض القلب
ويمضي المؤلف معددً الوسائل الفعالة لمكافحة الأمراض القلبية وفي مقدمتها الذكر، حيث يقول تعالي «ألا بذكر الله تطمئن القلوب»، لافتًا إلى أن الذكر لدى الصوفية مدعوم بوسائل تربوية أساسية، منها الاجتماع على الله والتزاور وصحبة الصادقين واتباع الكتاب والسنة، والتحلي بالأخلاق المحمدية ظاهرا وباطنا، وأن الصلاح القلبي تنعكس آثاره علي الأخلاق، فيصبح المحسن طيبًا في أحواله وأعماله وأقواله، صادقًا في معاملاته وفيًا في عهوده، منتجًا في مجتمعه، نشيطًا في عبادته، إلى غير ذلك من الصفات الطيبة.
وحول أزمات الإنسان المعاصر وإشكالية العلاج يقول المؤلف: "إن الإنسان المعاصر بلغ ذروة كبري في التقدم العلمي والتكنولوجي، مكنه من سبر أغوار هذا العالم واستكشاف خباياه وفتح آفاق كانت مجهولة ومستعصية عليه بالأمس القريب، وساعده علي تيسير جوانب عديده من حياته المادية والمعيشية، ليتساءل هل كان ذلك سبباً كافياً لبلوغ السعادة والاطمئنان الكامل؟".
يُجيب المؤلف أن كافة الدراسات والأبحاث والخطابات المتعلق بالموضوع أكدت أن تحقيق الأمرين مازال بعيد المنال، لوجود معوقات تتمثل في الأزمات الحادة والمتنوعة، والتي من مظاهرها ما يعيشه الانسان المعاصر من قلق وحيرة وشذوذ ومخدرات وانتحار واجرام وحروب، وغيرها من ويلات متعددة ناجمة عن فراغ روحي كبير وظمأ قلبي شديد، ليؤكد أن لجوء لإنسان إلي العقل تسبب في غرقه في التشكيك وعدم اليقين، فتم اقصاء الروح وتهميشها وطغت العقلانية المحدودة والقاصرة ما أوقع به في مآزق ومواقف تكاد تعصف بالمعالم والمعاني والعطاءات الحضارية، وهيمنت الحياة المادية علي كل ما هو معنوي وروحي فانعدم الأمن الروحي وحدث خلل حضاري وانفراط لعقد الوئام بين مقومات الوجود الانساني ليختل التوزان بين مطالب الروح والجسد.
■
الصفاء الصوفي
وتحت عنوان المنطلق من الأمن الروحي إلي الأمن الحضاري، يشير إلي أن فشل العلماء في رأب الصدع بين الجسد والروح، جعل هناك حاجة ماسة إلي وثبة روحية تعيد ذلك التوازن، ليتجاوز بذلك حدود المعرفة العقلية والأساليب المنطقية، لافتاً إلي أن الحضارة البشرية لا تقوم إلا بالتوافق بين الجسم والروح، العقل والقلب، حتي تكتمل صفة الإنسان بالجمع بين المعرفة العقلية والعرفان القلبي، ويضمن الأخذ بجميع مناحي الحياة ومطالب الدين والدنيا.
ويكمل: الوثبة الروحية القائمة علي اطار تربوي أخلاقي تضمن الحصانة والوقاية من كل زيغ وانحراف، وتشكل بنية تحتية أخلاقية تصلح كأساس للبناء الاجتماعي المتماسك، بيد أن الأمن الروحي والدين عند المؤلف يقوم علي أن العمل بالأخلاق ركن ثابت ومتجذر في الديانات السماوية، حيث لا أخلاق بغير دين، ما يظهر حتمية تجاوز المقاربة الثقافية الغربية للأخلاق التي تحصرها في قوانين وضعية تفرض بتوجيهات فوقية وتعتمد علي حملات إعلامية وندوات ومحاضرات لجلب منفعة لأفراد وجماعات من خلال فوائد ظاهرة ونتائج مغرية تنحصر في سلوك ظاهري لا يباشر القلوب ما يجعل هناك حاجة إلي أمن روحي لا يتأتى إلا من خلال مقاربة الصوفية للأخلاق ليجمع بين الظاهر والباطن، لأن الأخلاق الصوفية تمتاز بكونها مشدودة إلي معانٍ روحية ربانية وموصولة بمصدري علوي يؤمنها الانحراف ويحفظها من الغطرسة.
ويخلص المؤلف إلي معادلة مفادها أنه لا أمن حضاري بغير تربية صوفية، حيث لا أمن حضاري دون روحي، ولا يتحقق الأمن روحي دون الأخلاق، والتي بدورها تتطلب الدين، والدين يتطلب بدوره التكامل الروحي والمادي، وهذا التكامل لا يتوافر إلا بتربية صوفية ممنهجة، تقوم علي نموذج متكامل وقدوة حية وخوض للتجربة والممارسة العملية وتفتح الآفاق أمام القلب للرقي والتزكية، ليصبح الانسان صالحاً لنفسه ولغيره فاعلاً في المجتمع والعصر، آمناً مطمئناً وأميناً ومسالماً، قادراً علي تحقيق الأمنين الحضاري والروحي.
■
خطر العولمة
علاج أمراض العصر، يجد المؤلف نفسه أمام تطورات العصر باحثاً عن تشخيص وعلاج لها، حيث يقول" إن البشرية تشهد تطورات مذهلة تطال جميع المجالات وتمتطي عربة التغير الهائل والسريع، مما لم تعهده من قبل، ومن الثورات الضخمة التي لا زالت تتصاعد.. هناك الثورة التكنولوجية، التواصلية المعرفية هي محركات هذا الشبح العملاق والمرعب، والذي يسمي بالكونية أو العولمة، والذي يتهدد الإنسانية جمعاء باكتساحه الجارف والمحطم للحدود المكانية، الثقافية، والدينية، ساعياً لصياغة الجميع صياغة واحدة وتنميط موحد، في وصف اعتبره المؤلف نسف لأخص خصائص الوجود المتعلقة بهوية الانسان وتنوعه واختلافه وقدرته علي الابتكار والابداع والايمان بالله وعبادته وتوحيده.
ويضيف إذا لم تتأسس العولمة علي أخلاقيات أصيلة تضبطها وترتكز علي معايير خالدة توجهها ستصبح وبالاً علي الإنسانية جمعاء، مؤكداً أن المسلمين لا خيار لهم سوي الحضور القوي بكل الفعاليات والطاقات والعناصر والقيم الإسلامية الخالدة المجردة من كل توظيف ايدلوجيا، ما يستلزم تجنيد الطاقات الروحية والقلبية التي تحرر الإنسان من أدق القيود والأغلال كونها قيود ابتلي بها الخالق مخلوقاته للاختبار، وهذه القيود الباطنية هي عوائق خطيرة وشديدة الخفاء تتجه إليها التربية الصوفية مباشرة بالتشخيص والمداواة والعلاج.
■
خبراء الطب القلبي
يؤكد القادري أن الطب الصوفي غني بأدق تحاليل صور النفس البشرية ودسائسها وحيلها وأقنعتها، كما يتجه شيوخه إلى أصل العلل والعوائق في الإنسان والعضو المسؤول عن كل تصرفاته، فيعمدون لإصلاحه، واصفا إياهم بخبراء الطب القلبي المعنوي، حيث يقومون باستئصال الآفات والعوائق القلبية والنفسية باعتبارها اساس الداء وسبب القطيعة بين الانسان وخالقه، مقسما عوائق القلوب إلي غافلة، منافقة، مريضة، وميتة، بينما النفس فمنها الأمارة بالسوء، والمفتونة، والمخدوعة، مشدداً تلك العوائق تجعل الإنسان محروم من لذة المناجاة والتواصل القلبي الدائم مع الله، لذا فهو أشد احتياجا إلي العلاج القلبي النوراني.
انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.