آخر الأخبار

random
جاري التحميل ...

رسائل الشيخ محمد الحراق في التصوف

رسالة في السلوك


الحمد لله، اعلم - وفقني الله وإياك - أن الحق سبحانه وتعالى إذا أراد أن يتفضل على أحد من عبيده بالدخول إلى حضرة شهوده طهره بفضله من أدناس المخالفة والعصيان وأضاء زجاجة قلبه الكامنة في مشكاة الجسم بأنوار العرفان فجعله يرى بعين بصيرته كل ما برز من هذه الأكوان أو يبرز إنما هو من فيض عين القدرة والإرادة والعلم والحياة التي هي صفات الذات العلية وأنوارها القدسية المنزهة عن الانفصال عن ذاتها السَّنية المتعالية، كموصوفها عن المحلول والمماسة بالكلية.

ثم هذا الذي يراه هذا العبد بارزًا عن القدرة تارة يكون موافقًا لطبع البشر فينسب للجمال والإحسان، وتارة لا يكون موافقًا للطبع فينسب للجلال وهو القهر والغلبة، فإذا حصل العبد على هذا المقام جعلت مشاهدة الإحسان والجمال إن برزا له من القدرة يدفعانه بيد إزعاج المحبة الناشئة عن ذلك الإحسان لحضرة شهود ذلك من القدرة والغيبة عما سواها من الأسباب والوسائط بقدم أو أقدام كثيرة، فبينما هو كذلك يزداد إقدامًا في الغيبة في الصفات التي هي أنوار الذات إذ عصفت عليه رياح الجلال بما يخالف الطبع فردته القهقري وربما لا يقف في المحل الذي كان فيه قبل مشاهدة الجمال بل يزيد عليه إلى وراء، فيكون كما قيل : 

كم رمت قربك والحِرْمان يثنيني       واليأس يُبْعِدُنِي والشوق يُدنيني

فيبقى بين دافع إلى أمام وراد إلى وراء، الجمال يدنيه والجلال يبعده ويقصيه، فإذا أراد المولى جلّ جلاله أن يرحمه جعله ينظر في هذا الجلال الذي يقصيه بعين الجمال الذي يدنيه بأن يريه ذلك الجلال بارزًا من تحت سُجُف الحكمة من حيث إن مبرزه حكيم سبحانه لا يضع الأشياء إلا في محلها اللائق بها، فتسكن حينئذ نفسه عند شهود الجلال من جهة شهود حكمة الحق سبحانه فيه فينظره إذ ذاك بعين الجمال فيستحيل جلاله جمالًا ويكون كما قال في الحكم : "إِﻧﱠﻤﺎ اُﺳْﺘـَﻮْﺣَﺶَ اُﻟْﻌُﺒّﺎدُ وَاﻟﺰﱡﻫّﺎدُ ﻣِﻦْ ﻛُﻞﱢ ﺷَﻲْءٍ ﻟِﻐَﻴْﺒَﺘِﻬِﻢْ ﻋَﻦِ اﻟﻠّﻪ ﻓﻲ ﻛُﻞﱢ ﺷﻲء ، ﻓﻠﻮ ﺷَﻬِﺪُوﻩُ ﻓﻲ ﻛُﻞﱢ ﺷﻲءٍ ﻣﺎ اﺳﺘﻮﺣﺸﻮا ﻣﻦ ﺷﻲء". فيجعل إذ ذاك يذهب بالرِّبحين ويدفع لحضرة الغيبة في شهود أنوار الذات بكلتا اليدين، ثم لا يزال يرتقي في كونه لا يرى ما برز من الأكوان إلَّا ناشئاً عن صفات الذات حتى تحصل له الغيبة عن جميع الأسباب والآلات فتتلاشى عنده الأكوان لقطع النظر عنها وتعود عين البصيرة إلى أصل وجودها وفنائه فيه فيصير حينئذ يُشاهد السَّماع حاصِلًا عن القدرة الأزلية وإذا أبصر فكذلك، وإذا أبطش فكذلك، ومثل ذلك إذا مشى فيغطي الله سبحانه وصف هذا العبد بوصفه ونعته بنعته ويكون كما في الحديث : "فإذا أحبَبتُه كنتُ سمعَهُ الذي يَسْمَعُ بِهِ" إلخ.

ومعنى قوله : "فإذا أَحبَبْتُه" اي أحببته هديتُه، بأن جعلته يحبني لأنه لا يحب أحد الله إلاّ إذا أحبَّه الله، ولولا أن الله أحبه ما جعله يحبه، وبمقام المحبة يشرف المريد على المحو، فإذا أفرطت المحبة شهوده انمحى المريد فإذا حصل على هذا المقام جعل يفعل الأشياء بالله لله ومن الله إلى الله، ثم لا يزال يرتقي في شهود هذه الصفات التي هي أنوار الذات حتى يشاهد من عظمة الله وجلاله ما تحصل له به الحيرة والاصطلام على بساط الشوق المقلق عندما يتجلى له الجمال، أو على بساط الخوف المزعج إن تجلى له الجلال، فتجذب روحه تلك الأنوار جذبة قوية تكاد بها تنقلع من محلها بالكلية، ولذلك ترى روحه إذ ذاك تحرك الجسم حركة قوية مخالفة لعادتها إذ هي جبرية لكونها تريد أن تطير لعالمها فيحبسها الجسم فتريد الطيران بالجميع، فإذا أفرط تأثير نور المشاهدة في روح المشاهدة ولم يؤيده الله سبحانه بقوة بالكلية انقلعت روحه من محلها حسًّا ومعنى ومات، وإذا أعطاه الحق قوة ضعيفة لا تقاوم صدمة المشاهدة بقي مصطلما غريق الأنوار غائبًا في أنوار الذات التي هي صفاتها المقدسة، وانطمست عنده آثار تلك الصفات، وهي - أي الآثار - الأسباب والوسائط وكانت نظرته خاصة بغير الأكوان وهو غير كامل لانفراده بجهة واحدة. وإذا أعطاه الحق سبحانه قوة عظيمة تقاوم صدمة المشاهدة لم يغب إذ ذاك عن شهود الأكوان بتأييد الحق سبحانه له فكلما زاده غيبة وسكراً في أنوار الذات أعطاه بقدر ذلك من القوة والثبات. فهو كلما ازداد شربًا من تلك الأنوار وازداد سكرًا إلى سكره الأول زاده الله قوة وثباتًا فازداد قوة إلى قوته الأولى بمقدار ما ازداد فيه من السكر، فلا سكره في شهود الأنوار غيَّبَتهُ عن شهود تلك الأنوار، فهو برزخ بينهما لا يغيبان، فلا هذا يتعدى عن حده ولا هذا يزيد عن مقاومة ضده، فكلما زاد السكر ازدادت اليقظة والصحو بقدره. وهذا مقام الكمال.

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق