آخر الأخبار

random
جاري التحميل ...

شرح الحكم العطائية لابن عباد :اخْرُجْ مِنْ أوْصافِ بَشَرِيَّتِكَ عَنْ كُلِّ وَصْفٍ مُناقِضٍ لِعُبوديَّتِكَ

شرح الحكم العطائية لابن عباد :اخْرُجْ مِنْ أوْصافِ بَشَرِيَّتِكَ عَنْ كُلِّ وَصْفٍ مُناقِضٍ لِعُبوديَّتِكَ

«اخْرُجْ مِنْ أوْصافِ بَشَرِيَّتِكَ عَنْ كُلِّ وَصْفٍ مُناقِضٍ لِعُبوديَّتِكَ لِتَكونَ لِنِداءِ الحَقِّ مُجيبًا، ومِنْ حَضْرَتِهِ قَريبًا»

قال ابن عباد :أوصاف البشرية المتعلقة بأمر الدين نوعان : أحدهما ما يتعلق بظاهر العبد وجوارحه وهي الأعمال. والثاني ما يتعلق بباطنه وقلبه، وهي العقود. فأما ما يتعلق بظاهره وجوارحه فينقسم قسمين : أحدهما ما وافق الأمر، ويسمى طاعة، والثاني ما خالفه، ويسمى معصية. وأما ما يتعلق بباطنه وقلبه فينقسم قسمين : أحدهما ما وافق الأمر، ويسمى طاعة، والثاني ما خالفه، ويسمى معصية.  وأما ما يتعلق بباطنه وقلبه فينقسم أيضا إلى قسمين : أحدهما : ما يوافق الحقيقة، ويسمى إيمانا وعلما. والثاني : ما خالفهما، ويسمى نفاقا وجهلا.
والنظر فيما يتعلق بظاهر العبد يسمى في الاصطلاح تفقها. والنظر فيما يتعلق بباطنه يسمى في الاصطلاح تصوفا.
فهذان الأمران هما كلية العبد. وظاهره تضبَعٌ لباطنه بالضرورة؛ لأن القلب هو الملك، والجوارح جنوده ورعيته، ومن شأن الرعية طاعة الملك فيما يأمر به، وينهى عنه، وقد نبه على هذا المعنى رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث قال : (إِنَّ في الجَسَدِ مُضْغَةً، إذا صَلَحَتْ، صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وإذا فَسَدَتْ، فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، ألا وهي القَلْبُ).

وصلاح القلب إنما يكون بطهارته عن الصفات المذمومة كلها : دقيقها وجليلها. وهذه هي الصفات المناقضة للعبودية من أوصاف البشرية التي أشار إليها المؤلف رحمه الله.وهي التي تسم صاحبها بسمة النفاق والفسوق، وهي كثيرة : مثل الكبر والعجب والرياء والسمعة والحقد والحسد وحب الجاه والمال، ويتفرع عن هذه الأصول فروع خبيثة من العداوة والبغضاء، والتذلل للأغنياء، واستحقار الفقراء، وترك الثقة بمجيء الرزق، وخوف سقوط المنزلة من قلوب الخلق، والشح... إلى غير ذلك من النعوت الذميمة، والأخلاق اللئيمة. وأصل فروعها وعنصر ينابيعها إنما هو رؤية النفس والرضا عنه، وتعظيم قدرها وترفيع أمرها.

قال الشيخ أبو طالب رضي الله عنه : ولا يكون المريد بدلا، حتى يبدل بمعاني صفات الربوبية صفات العبودية، وبأخلاق الشياطين أوصاف المؤمنين، وبطبائع البهائم أوصاف الروحانيين من الأذكار والعلوم، فعندها يكون بدلا مقربا. قال :والطريق إلى هذا بأن يملك نفسه، فبملكها تسخر لـه فيسلط عليها.

فإن أردت أن تملك نفسك فلا تملكها وضيق عليها، ولا توسع لها، فإن ملكتها ملكتك، وإن لم تضيق عليها اتسعت عليك، وإذا أردت الظفر بها فلا تعرضها لهواها، واحبسها عن معتاد ملائمها، فإن لم تمسكها انطلقت بك. وإن أردت أن تقوى عليها فأضعفها بقطع أسبابها، وحبس موادها، وإلا قويت عليك فصرعتك.

فإذا قام بذلك المريد على الوجه الذي رسموه له، والتزم الوظائف التي أمروه بها طهر قلبه، وتزكت نفسه، واتصفت بمحاسن الصفات التي تزينه بين العباد وينال بها من قرب ربه غاية المراد فيظهر حينئذ عليه آثار حميدة : من التواضع لله، والخشوع بين يديه، والتعظيم لأمره، والحفظ لحدوده والهيبة له، والخوف منه، والتذلل لربوبيته، والإخلاص في عبوديته، والرضا بقضائه، ورؤية المنة له عليه، في منعه وإعطائه، ويتصف فيما بين خلقه : بالرأفة والرحمة واللين والرفق وسعة الصدر، والحلم والاحتمال... إلى غير ذلك من أخلاق الإيمان التي ينال بها العبد غاية السعادة، والحسنى والزيادة.

قلت : وهذان المعنيان هما اللذان يعبر عنهما أئمة الصوفية رضي الله تعالى عنهم بالتحلي والتخلي. أي التخلي عن الصفات المذمومة، والتحلي بالصفات المحمودة. ويعبرون عنها أيضا بالتزكية والتحلية.

فإذا صح للمريد هذا السفر، وانقلب منه أفضل ستقر تحققت عبوديته لربه عز وجل فلم يملكه غيره، ولم يسترقه سواه، وارتقى في القرب من ربه إلى أشرف محل، فيكون هناك منزله ومثواه، فيكون حينئذ كما قال المؤلف رحمه الله تعالى :"لنداء الحق مجيبا" لأنه إذ ذاك يناديه باسم العبد، فيقول له : يا عبدي، فيجيب حينئذ مولاه باسم الرب، فيقول له : لبيك يا رب، فيكون صادقا في إجابته، متحققا في نسبته، ويكون أيضا من حضرته قريبا، لوجود بعده عن نفسه التي من شأنها النفور عنها، والفرار منه.

فإذا أقامه الحق تعالى مقام العبودية، وحاز مرتبة القرب من حضرة الربوبية، كان محفوظا من اقتحام الأوزار، ميسر عليه أعمال الأخيار، متحليا في الظاهر والباطن بأشرف الحلى.

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق