آخر الأخبار

random
جاري التحميل ...

إيقاظ الهمم في شرح الحكم -70


و لما كان من شأن النفس الأمارة التكاسل عن الطاعات قيدها الحق تعالى بأعيان الأوقات، كما أبان ذلك بقوله:

194- قَيَّدَ الطَّاعَاتِ بِأَعْيَانِ الأَوْقَاتِ لِئَلاَّ يَمْنَعَكْ عَنْهَا وُجُودُ التَّسْوِيفِ ، وَوَسَّعَ عَلَيْكَ الوَقْتَ لِتبْقى لَكَ حِصَّةُ الاخْتِيَارِ .


قلت: من شأن النفس تسويف العمل و تطويل الأمل، فلو تركت مع اختيارها ما توجهت قط إلى ربها، و لما علم الحق سبحانه أن من عباده من لا تنهضه المحبة و لا تسوقه إليه مجرد الرغبة، و إنما تسوقه إليه سلاسل الامتحان بتخويف النيران، أو شبكة الطمع بنعيم الجنان، أوعد من حاد عن طاعته بالعذاب الأليم، و وعد من أطاعه و تقرب إليه بالنعيم المقيم، ثم فرض عليهم ما تظهر فيه طاعته من الأحكام و الفرائض و عيَّن لها أوقاتا مخصوصة، إذ لو ترك ذلك لاختيار عباده ما أقبل عليه بها إلا القليل من أهل محبته و وداده، و من رحمته تعالى أن وسع عليهم في تلك الأوقات، فبقي لهم في ذلك ضرب من الاختيار. فوسع الظهر مثلا إلى العصر، و العصر إلى الاصفرار، و المغرب إلى العشاء، و العشاء إلى نصف الليل، و الصبح إلى قرب الطلوع، فقد قيد لك أيها العبد الطاعات التي أوجبها عليك بأعيان الأوقات، لئلا يمنعك التسويف من فعلها، فيؤدي ذلك بك إلى تركها، و وسع عليك الوقت ليبقى لك حصة: أي ضربا و نصيبا من الاختيار، إذ لو ضيق عليك الوقت لكان ذلك في غاية الحرج، و الاضطرار، فالحمد للّه على منته وسعة رحمته. و قد قيل: إن اللّه سبحانه يقول لعبده: «ألم أخرجك من العدم إلى الوجود؟ وأمدك بأمداد الفضل و الجود؟ جعلت لك نورا في بصرك لتدرك به أدلة قدرتي و عظيم آياتي؟وجعلت لك نورا في بصيرتك لتفهم به خطابي، و تتقي بالطاعة عقابي و ترجو ثوابي؟ فوعدتك الثواب على الطاعة، و أوعدتك العقاب على المخالفة، ثم كلفتك من العمل ما تطيق، و وسعت عليك في الأوقات كل ضيق، فلو أنك قضيت ما أوجبت عليك في أول عمرك في آخره لقبلته منك، فمن ذا الذي منعك من الامتثال و لم يكن بك عذر غير الغواية و الضلال؟» انتهى.

و قد قيل في المثل: من طلب جلب، و من هاب خاب، و انظر كيف قرن اللّه الهداية بالمجاهدة، و أوجب‌ سبحانه على نفسه ما لم يجب عليه، فقال سبحانه و هو أصدق القائلين: وَ الَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَ إِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ‌ [العنكبوت: 69]، و أنشدوا في هذا المعنى:

لو صحّ منك الهوى أرشدت للجبل**و الصدق سيف ينيل غاية الأمل‌
فكن أخا همّة تسمو بصاحبها**و لا تكن بالتواني محبط العمل‌

و كان الربيع بن خيثم يردد هذه الآية و يبكي و هي قوله تعالى: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ‌ [الجاثية: 21]، و كان يصيح: ليت شعري من أي الفريقين أنت يا نفسي؟ و هذه الآية تسمى مبكية العابدين.

و قال سهل رضي اللّه تعالى عنه في معنى هذه الآية: ليس أهل الموافقة كأهل المخالفة، أهل الموافقة: فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [القمر: 55]، و أهل المخالفة في عذاب السعير.

و لما ذكر حكمة توقيت الطاعة ذكر حكمة إيجابها على عباده فقال:

195- عَلِمَ قِلَّةَ نُهُوضِ العِبَادِ إِلَى مُعَامَلَتِهِ ، فَأَوْجَبَ عَلَيْهِمْ وُجُودَ طَاعَتِهِ ، فَسَاقَهُمْ إِلَيْهِ بِسَلاَسِلِ الإِيجَابِ (عَجِبَ رَبُّكَ مِنْ قَوْمٍ يُسَاقُونَ إِلَى الجَنَّةِ بِالسَّلاسِلِ).


196-  أَوْجَبَ عَلَيْكَ وُجُودَ طَاعَتِهِ ، وَمَا أَوْجَبَ عَلَيْكَ إِلاَّ دُخُولَ جَنَّتِهِ .


قلت: هذه حكمة التشريع، لكنه ما ذكر إلا حكمة أهل الظاهر. حاصلها: أن الحق سبحانه من حكمته لما علم من عباده قلة النهوض إلى معاملته لأنه قال: وَ قَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ [سبأ: 13]، و قال أيضا: وَ قَلِيلٌ ما هُمْ‌ [ص: 24]، فلما علم ذلك أوجب عليهم طاعته، و أوعدهم على تركها بالعقوبة، فساقهم إليه بسلاسل الإيجاب، ثم ذكر الشيخ حديثا ورد في شأن الأسارى إشارة إلى أن العبد لا اختيار له، فهو أسير في يد قدرة القدير، و الحديث مشهور و هو قوله عليه السلام : «عجب ربّك من قوم يساقون إلى الجنة بالسلاسل»، لأنه صلى اللّه عليه و آله و سلم كان يدعو إلى اللّه و إلى دخول حضرته فمن وافقه نجا، و من خالفه جعل له السلسلة في عنقه و ساقه إلى حضرة ربه، و لفظ الحديث: «عجب اللّه من قوم‌ يساقون إلى الجنة بالسلاسل‌». قال بعض العلماء: يجوز أن يكون معنى التعجب المنسوب إلى اللّه إظهار عجب هذا الأمر لخلقه لأنه بديع الشأن، و هو أن الجنة التي أخبر اللّه بما فيها من النعيم المقيم، و الخلود في العيش الرغد الدائم، و من حكم من سمع بها من ذوي العقل أن يسارع إليها، و يبذل جهده فيها، و يحتمل المكاره، و المشاقات لينالها، و هؤلاء يفرون منها و يرغبون عنها حتى يقادوا إليها بالسلاسل، كما يقاد إلى المكاره العظيمة التي تنفر منها الطباع. ثم إن الحق سبحانه غني عن الانتفاع بالمنافع، فما أمرك بهذا و نهاك عن هذا إلا لما لك فيه من جلب المنافع و دفع المضار، أوجب عليك وجود طاعته، و ما أوجب عليك إلا دخول جنته. قال بعض الحكماء: و اعلم أن في الطاعات تفاوتا و درجات، و في المخالفة كبائر و دركات، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلم: «إن أهل الجنة ليتراءون الغرف من فوقهم كما يرى أهل الأرض الكوكب الدّرّيّ في أفق السماء، قيل يا رسول اللّه تلك منازل الأنبياء؟ قال: و الذي نفسي بيده رجال آمنوا باللّه و صدّقوا المرسلين‌». و قال آخر: الناس ثلاثة: عبد أطاع اللّه عبودية و شكرا و امتثالا و قياما بحق الخدمة فزاده الوجوب شرفا و علو درجة. و عبد أطاع اللّه تعظيما للموجب، فالوجوب في حقه تنبيه و إظهار للحكمة. و عبد أطاع اللّه خوفا من عذابه و رجاء في ثوابه، و لولا ذلك ما عبده، فالوجوب في حقه لطف به، و في الكل خير، و شتان ما بينهما.

قلت: والتحقيق إنما هما قسمان: قسم أطاع الله خوفا من عذابه ورجاءً في ثوابه على التكليف، و هم أهل التكثيف، و قسم أطاع على التعظيم، و هم أهل التعريف والتعليم. أهل الحجاب أطاعوا خوفا و طمعا، و أهل العيان أطاعوا حبّا و شكرا، و هو مقام الأنبياء و خواص الأولياء، قال عليه السلام : «أفلا أكون عبدا شكورا»، فالحكمة عند أهل الباطن في وجوب الخدمة إنما هي إظهار لستر سر الربوبية التي هي فى مظاهر العبودية، فالربوبية بلا عبودية نقص يلزم عليه إبطال حكمته، و العبودية بلا ربوبية محال لا يتصور وجوده:

من لا وجود لذاته من ذاته‌**فوجوده لولاه عين محال‌

و لأجل هذا المعنى كان العارفون إذا تحققوا هذا السر، و هو أن العبودية لا وجود لها من ذاتها، و إنما حكمة وجودها صور سر الربوبية بإظهار أحكام العبودية، و عرفوا ذلك حالا و ذوقا، كانت عبادتهم شكرا، و كانوا محمولين غير حاملين عملهم باللّه للّه، فعبادة هؤلاء كثيرة عظيمة في المعنى، و إن كانت قليلة في الحس و لا تقل أبدا، إذ تصرفاتهم كلها عبادة، نومهم عبادة، و أكلهم عبادة، و مشيهم عبادة، و في مثل هؤلاء ورد الحديث: «نوم العالم عبادة». و قال أيضا: «رجال يدخلون الجنة على الفرش الممهّدة، قيل: من هم يا رسول اللّه؟ قال: الذاكرون اللّه كثيرا» أو كما قال صلى اللّه عليه و آله و سلم، ذكره المنذري. و قال أبو سليمان: قد يدرك العارف على فراشه ما لا يدركه في صلاته، و لا يستغرب العبد من نفسه بلوغ هذا المقام، فإن فضل اللّه لا ينال بسبب، و قدرة اللّه صالحة لدرك كل مطلب، كما أبان ذلك بقوله:

197-مَنِ اسْتَغْرَبَ أَنْ يُنْقِذَهُ اللهُ مِنْ شَهْوَتِهِ ، وَأَنْ يُخْرِجَهُ مِنْ وُجُودِ غَفْلَتِهِ فَقَدْ اسْتَعْجَزَ القُدْرَةَ الإِلَهِيَّةَ ( وَكان اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً ).




التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق