آخر الأخبار

random
جاري التحميل ...

كتاب : الحقيقة القلبية الصوفية / أحمد لسان الحق(13).

وقد أرشدنا الله تعالى إلى الطريق السويّ ، فقال :(الرَّحْمَٰنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا) (28) فلنسأل الخبير بالرحمان ، وليس المدّعي أو المشعود.. والخبير في الدلالة على الرحمان هو الوليّ أو العارف بالله ، المتمرّس على طريق السّلامة الموصّلة إليه ، وقال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ)(29) وتعني الوسيلة الشرعيّة على الكتاب والسنة ، والبشرية القائمة عن الإذن من الله والرسول.وهي وحدها التي تُؤمّن طريق الوصول إلى أسرار ذاته ومعرفته ، بدليل أن الضمير في الآية الأولى يعود إلى إسمه "الرحمان" وفي الثانية يعود إلى إسمه "الله" وكلاهما اسم الذات ، وليس ايّ منهما من أسماء الصّفات. والضمير من أعرف المعارف ، وبالأخص ضمير الذات العالية ، قبل غيرها ، وإنّ كلّ ضمير في اللّغة العربية يعود إلى إسم ظاهر ، إلاّ ضمير الذّات العالية ، كما في قوله تعالى :( وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ) (30) ومَن هو ؟ إنه تعالى أعرف من أن يُعرَّف.

وفي نفس الإرشاد إلى الطريق السويّ يقول جلّ جلاله :( فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) (31) وأهل الذكر هم المتخصّصون ، والعصر عصر التخصّصات.. والمتخصصون في طريق المعرفة إلى الله هم أصحاب الحقيقة الواصلون الموصّلون ، الذن خبَروا طريق الوصول ومسالكه وتعرّفوا على معادن النّفوس ، وطبائعها المختلفة ، فكان على من أراد أن يسأل عن الحقيقة الإلهية ، وأن يصفّي الحسابات مع نفسه الغافلة الأمّارة بالسّوء ، ويستبدلها بالنّفس المطمئنّة ، ثم الراضيّة المرضيّة ، ويتحوّل بها من ظلمة الغفلة إلى نور اليقظة ، كي يتعرّض للفيوضات الربانيّة ، أن يعمل - كما عملنا - بنصيحة ابن عاشر في المرشد المعين على علوم الدين ، إذ يقول :
يصحبُ شيخاً عارفَ المسـالكْ يَقـيـهِ فـي طـريـقـِهِ الـمـَـهَـالِـكْ
ويشترط على المريد أن يحترم شيخه في ميدان الحقيقة الإلهيّة ، كما يجب على التلميذ أن يحترم شيخه في الشريعة المحمديّة ، ومن تمام الإحترام ، والإعتراف بالجميل تقبيل اليد ، كما نقبّل يد شيوحنا في التربيّة والتعليم . وقد رأَيت من بين أصحاب المفتي عبد العزيز بن باز ، ونحن بمنزله بالرياض من قبّل رأسه ، وقال :"تبقى على خير ياشيخ" وقد نقل الإمام الشاطبيّ عن أبي عثمان الجبري أنّه قال : "الصحبة مع الله تعالى بحسن الأدب ودوام الهيبة والمراقبة ، والصحبة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم باتّباع سنّته ، ولزوم ظاهر العلم ، والصحبة مع الأولياء بالإحترام" .

والدليل على جواز تقبيل اليد أن الرسول صلى الله عليه وسلم قبّل يد الصّحابي معاذ بن جبل لمّا تقيّحت بالعمل :(هَذِهِ اليَدُ يُحِبُّها الله ورَسولَه) قبّلها محبّة وتشجيعا للعمل ، وفي رواية : (هَذه اليَدُ لا تَأْكُلُها النّار) وقد روى الإمام النّووي ما أخرجه أبو داوود عن ابن عمر ضمن قصّة ، إلى أن قال : "فدَنَوْنا منَ النبي صلى الله عليه وسلّم فقَبَّلنا يدَه " كما روى ما أخرجه الترمذي عن عائشة أنّ الرسول صلى الله عليه وسلّم عانق مولاه زيداً بن حارثة وقبَّله (33) محبّة له.فكان التقبيل القائم على المحبّة المعنويّة ، المجرّدة من أي اعتبار ماديّ ، أوخنوع بشريّ سنّة ، وقد قرأنا من علمائنا أنّه يكون أصلا للشيخ في التربيّة والعلم ، وللوالدين ، ولإمام المسلمين.

يقول عبد القادر عيسى في كتابه :"حقائق عن التصوّف"167 :"الذي يمحّص الحقائق ، ويرجع إلى الأحاديث الصحيحة ، وآثار الصّحابة الكرام ، وأقوال الأئمة المحقّقين ، يجد أن تقبيل يد العلماء والصالحين والأبوين جائز شرعا ، بل هو مظهر من مظاهر الآداب الإسلاميّة في احترام أهل الفضل والتّقى" وقد أيد رأيه بأحاديث صحيحة ، وأقوال الأئمّة الأربعة.سواء في تقبيل اليد ، أو القيام تقديراً واحتراماً لمن خصّهم الله بفضله ، استدلالا بما وقع للرسول صلى الله عليه وسلم ويجب التّنبيه إلى أنّ الشيخ الذي يستحقُّ التقدير والإحترام ، وتقبّل يده محبّة له هو الشيح الحقيقيّ ، الذي به يصلح الله القلوب والأخلاق ، وطهّر النفوس الملوّثة بالغفلة عن الله ، وأُعطيَ له العلم الذي قالوا في أهمّيته :"مَن لَمْ يَتَغلْغَلْ في علْمنا هَذاَ لَقيَ الله مُلَوَّثاً ، ولَو عبدَ عبادَةَ الُقليْن" والتلويث يعني تلويث القلب بالغفلة عن الله ، والغفلة أكبر ملوّث للشعور والوجدان ، وأغلظ حجاب يحول دون الحقيقة ، وضدّها يقظة القلب ، واليقظة القلبيّة هي الباب الوحيد المفتوح نحو الحقيقة ، إذ تعني ذهاب الغفلة ، وطهارة القلب وصفاء السّريرة.. وأما العبادة فهي عمل ، والعمل المقبول على أيّ حال جزاؤه الجنّة.. وعلم الحقيقة هو وحده الكفيل بإزالة الغفلة ، وفتح البصيرة وتمهيد الطريق - بواسطة حامل هذا العلم - نحو معرفة ربّ الجنة.

ومن لم يجد شيخا عارف المسالك يقيه في طريقه المهالك - وقد نعتوه بالكبريت الأحمر لصعوبة اكتشاف مقامه ، إلاّ عن طريق الصحبة والذكر واتصال الأرواح - فخير له أن يقتصر على الذّكر التّعبّديّ ، وصالح الأعمال ، وإن كان صالح الأعمال - إن قبل الله - يؤدي إلى الجنة ، والتصوّف الحقيقيّ ، القائم على الكتاب والسنة والذّكر التربويّ ، وصحبة شيح مربّ حقيقيّ : كامل الشريعة وكامل الحقيقة - وهو موجود لمن يبحث عنه - يؤديّ إلى معرفة ربّ الجنة.. والكلّ يطلب الجنة ، وقليل من يطلب ربّ الجنة.
والجنة - كما تقدم - مخلوقة ، والمخلوق لا يقصد لذاته ، ولايعمل من أجله ولو كان نبيّا أو مرسلا أو وليّا.. وإنما الذي يقصد لذاته ، ويعمل من أجله هو الخالق ، والعبد في الإعتبار الصوفيّ لا يتوجّه ولا يقصد غير مولاه وخالقه ، وإذا قصد المخلوق وصاحبه ، فمن أجل الخالق ، وقراءة حكمته ، والنظر إلى فضله ، على مخلوق طهّر قلبه وصفّى سريرته ، وألبسه حلّة هدايته وتوفيقه ، فاتّضح مرةً أخرى أنّ التوحيد القلبيّ الصافيّ غير المشوّش بإقامة البراهين العقليّة على وجود الله ، نجده عند أصحاب المعرفة الربانيّة.

والمعرفة الربانيّة منحة إلهيّة ، تنزل من السماء إلى الأرض ، هبةً وتكَرُّماً على عبد تحقّق فيه ما رواه الإمام الشاطبي في "الإعتصام" عن أبي يزيد البسطامي ، إذ يقول :"رأيت ربّي في المنام ، فقلت : كيف الوصول إليك ؟ فقال : اترُك نفسكَ وتَعَال" وتقع في عالم الأرواح : عالم الغرائب والعجائب ، وعالم ما فوق العقل والمنطق ، وإلى ذلك يشير أحد العارفين ، إذ يقول :
تَــالله لــو قُـــلْنَا لَــــهُمْ مَا عَــــــــــلمْنَا قَليلاً مَنْ صَدَّقْنَا إلاّ الخَواصّ أَهْلَ النّور
وهذا الجانب من الأسرار ، التي يكتمها أصحاب الحقيقة ، كي لا تُرهَق العقول بما لا تَهضمه بسرعة ، وتُكتشف أو يُشعر بوجودها عن طريق اتصال الأرواح ، وتُرى آثارها في تغيير أحوال المريدين من سيّئ إلى حسن ، ومن حسن إلى أحسن... كأقوى دليل ظاهريّ على أن الشيخ يعمل بإذن الله لا بنفسه ، وأنّ تربيته تربيّة إلهيّة روحيّة... بالإلهام والحال ، لا بالإرشاد والمقال.. وكما يقال : الفلاح لا يعرف في السوق ، وإنما يعرف داخل البستان حيث نتائج عمله تعرّف به. والمجتمع ما هو إلا بستان معنويّ ، والشيخ المربّي المأذون له في التربيّة الروحيّة فلاّح معنويّ يبذر الذكر في النفوس ، ويعمل على إنبات المعاني السامية في القلوب ، وسقيها بأسرار الحضرة الإلهيّة ومدد رسول الله صلى الله عليه وسلّم كسبب بشريّ ، وأما الفاعل لما يريد ، فهو الله.

**   **   **
28 - سورة الفرقان : 59
29 - سورة المائدة : 35
30 - سورة الانعام : 60
31 - سورة الانبياء : 7
32 - الاعتصام : 1/96
33 - رياض الصالحين ص 367 - 368 -ط1370ه 1956م


التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق