آخر الأخبار

random
جاري التحميل ...

الشيخ العارف بالله سيدي حمزة بن العباس نموذج كامل للأخلاق المحمدية في هذا العصر

ازداد الشيخ سيدي حمزة بن العباس بن المختار القادري بودشيش سنة 1341 هـ - 1922م بقرية مداغ بإقليم بركان شرق المغرب الأقصى حيث زاوية سلفه الشرفاء القادريين البودشيشين، بعد أن كانوا قد انتقلوا إليها من زاويتين سابقتين في القرشية بتاغجيرت ثم في بويحيا، والكل في جبل بني يزناسن.
مند الطفولة وجه سيدي حمزة من طرف أبيه وجهة التعليم و التفقه واستيعاب أمور الشرع علما وعملا. وهكذا تدرج الإبن البار بإرشاد والده الفاضل في مسالك التعليم الشرعي العربي الإسلامي، كما هو سائد في المعاهد والمراكز العلمية الأصيلة.
كانت أول خطوة مند سن التمييز هي العكوف على حفظ القرآن الكريم وإتقان تلاوته قراءة وكتابة ورسما. وهكذا تتلمذ الصبي المبارك منذ يفاعته في هذا الأمر الجليل على عدة مقرئين حفاظ لكتاب الله تعالى، بدأ بالفقيه المقرأ الراتب الذي كانت الزاوية لا تخلو منه دائما. ولكن عمدته في الحفظ والاستظهار والاستذكار للقرآن المجيد كان عمه المقرأ المتقن المتعبد المتهجد سيدي محي الدين بن المختار القادري البودشيشي.
وتنبغي الإشارة في هذا المقام إلى الجو العام الذي كانت يسود الزاوية ويستفيد منه كل رجالات هذه العائلة القادرية. فكل أبناء الشيخ المختار القادري البودشيشي كانوا من حفظة كتاب الله تعالى، وعلى قسط مشرف من العلوم الشرعية، شأنهم في ذالك شأن رجالات كل الزوايا التي كانت قائمة بالمغرب وفي كثير من بلاد الإسلام العاملين من أجل نشر واستمرارية الثقافة العربية الإسلامية وبالأخص منها تعهد القرآن الكريم.على أن الذي بلغ مبلغا مرموقا من العلوم الإسلامية من أبناء الشيخ المختار كان هو ابنه الأكبر سيدي المكي رحمه الله.
ومند 1936 كان سيدي حمزة الذي لم يتجاوز عمره يومئد أربع عشرة سنة قد أتم هذا السلك الأول من التكوين العلمي، معدودا من الحفاظ المتقنين لكتاب الله المجيد.
وتزداد العناية الربانية إفضالا على التلميذ النجيب فيأخد في تلقي العلوم الشرعية بزاوية سلفه دائما، وفي صحبة أهل بيته وخاصة منهم عمه الشيخ المكي المذكور الذي كان لشدة اهتمامه بتكميل المعرفة الشرعية يصطفي الفقهاء المدرسين المقيمين باستمرار في الزاوية ينشرون العلم الشرعي بين أبنائها خاصة وأبناء كل المنطقة عامة.
وهكذا تلقى سيدي حمزة خلال أربع سنوات علوم الفقه واللغة والنحو على يد الفقيه العلامة سيدي أبي الشتاء الجامعي، والفقيه العلامة سيدي محمد بن عبد الصمد التجكاني.
وبعد وفاة عمه سيدي المكي استمرت بالزاوية هذه السنة الحسنة المتمثلة في احتضانها للفقهاء الأعلام يستفيد منهم الخاص والعام فتتلمذ سيدي حمزة على الفقيه العلامة الحاج حميد الدرعي، مركزا معه على علوم الحديث رواية ودراية بالاعتماد على تصنيف المختصر الشهير لابن أبي جمرة، وعلى يدي الفقيه العلامة سيدي علي العروسي اليزناسني متابعا معه مصنفات أخرى في الفقه والنحو.
ثم شد الطالب الحاذق الرحلة إلى مدينة وجدة من أجل استكمال التكوين، فانتظم في المعهد الإسلامي التابع يومئد لنظام جامعة القرويين، وكانت الفرصة مواتية للتزود من علم الأساتذة الأجلاء أعضاء هيئة التدريس بالمعهد.
وهكذا أخد علم البلاغة والعروض ودرس المعلقات السبع في الآداب العربية على الأستاذ الأديب أبي بكر بتركي ناظر أحباس مدينة وجدة في ذالك الوقت.
وفي حلقة الأستاذ العلامة عبد السلام المكناسي تابع دراسة النحو العربي بين متن الأجرومية وكتاب قطر الندى ومنظومة الألفية بالاعتماد على شر ح المكودي لها ثم شرح ابن عقيل ثم شرح الموضح. وتبحر في العلمين الشريفين التفسير والحديث وفي السيرة النبوية على الفقيه العلامة سيدي محمد الفيلالي . وفي فقه الأحكام الشرعية العملية استكمل التكوين على يد فقهاء أجلاء كسيدي محمد بن إبراهيم اليزناسني و السيد لحبيب سيناصر، موليا مزيدا من العناية بالفقه المالكي ، فتدرج في المدارسة من الرسالة لابن زيد القيرواني ومنظومة المرشد المعين لابن عاشر إلى التحفة لابن عاصم ومختصر الشيخ خليل بن إسحاق،خاصة قسم العبادات منه.
وفي سنة 1940 عاد سيدي حمزة إلى زاوية أسلافه ثانية ليزيد من مدارسة العلماء واستكمال التخصص في دقائق العلوم العربية الإسلامية تحقيقا ومناظرة، وتدريسا ومذاكرة. وتم ذالك لديه حسب حس جامعي، حيث تابع المطالعات والتحقيقات تحت إشراف وتوجيه العلامة المحقق سيدي محمد الكبداني.
وبإزاء هذا التمرس العلمي النظري شب سيدي حمزة على الطريقة الحميدة المتمثلة في الجمع بين العلم والعمل، والحرص المتواصل على تكميل النظر بالتطبيق، مجتهدا في إتباع تعاليم الشرع الحنيف، تاليا لكتاب الله، قانتا لله، مستفيدا من عبق الجو الديني وعطر التربية الصوفية التقليدية المتجدرة في أفراد بيته الشرفاء، القائمين بنشر التربية الصوفية وتلقين الطريقة القادرية مند ما يزيد على ثلاثمائة سنة.
وتشاء الأقدار أن يحصل لدى الشاب الناشئ في عبادة الله ولدى الوالد المجتهد في طاعة الله في وقت متقارب، حوالي سنة 1944، رغبة ملحة في تجديد العهد بمعنى السير إلى الله بكل حزم وعزم، ويحصل لهما وعي قوي بضرورة التلاقح مع الفحول من أهل المعرفة بالله، وعدم الاستكانة والقناعة بما تقدم وتآكل من طقوس الرياضة التبركية الرتيبة.
ثم يجد الرجلان وليهما المرشد، ويعثران على ضالتهما في ابن عمهما وسليل بيتهما، والولي الكبير العارف الكامل المتحقق بالأحدية والمحمدية، المتناهي في إتباع الشريعة والهيام بالحقيقة، الوارث الجامع، المربي النافع، الشيخ سيدي أبي مدين بن المنور القادري البودشيشي.
كان الشيخ أبو مدين القادري شديد الاهتمام بأمور الدين. رغم أنه لم يعرف عنه أنه التحق بمدرسة علمية متقدمة إلا أنه كان إضافة إل حفظه لكتاب الله العزيز متمكنا من معرفة الفروع الفقهية، دؤوبا على مطالعة الكتب.
كان الشيخ أبو مدين رحمه الله قد وقع له الوعي الروحي مبكرا، وكابد العطش الصوفي مند زمان، وخبر الموروث التبركي لسلفه وشمر عن ساعد الجد من أجل لقاء الرجال والاستزادة من تجارب المكابدة والمجاهد في كثير من طرق الوصال.
وقد استفاد من مشارب متعددة، ونهل من شعب صوفية متنوعة بين قادرية وشادلية ودرقاوية وتيجانية وغيرها. واشتهر عنه الاعتراف بالفضل لبعض الصلحاء منهم المغمور الذي لا يعرف، ومنهم المعروف كولي الله سيدي المهدي بلعريان، وولي الله سيدي محمد لحلو الفاسي. إلا أنه عندما اكتمل نضجه الروحي وحصل الإذن عاد إلى تجديد طريقة أسلافه الذين يتصل نسبهم الطيني وسندهم الديني بالشيخ الشهير مولاي عبد القادر الجيلاني رحمه الله. وقد اهتم الشيخ أبو مدين بأبناء عمومته سيدي العباس وابنه سيدي حمزة اهتماما خاصا، وتفرس في الشاب المتوقد أفقا روحيا عاليا. وأخده بالعزائم من الأحكام، وبالأحوط من الأمور، والأدق من الآداب وبالأكمل من القربات والطاعات.
وهكذا تم تأهيل سيدي حمزة ليكون نعم الخلف لخير السلف في الدلالة على طريق الله. وكان الشيخ أبو مدين في حياته يوصي والد سيدي حمزة به خيرا ويصرح بتقديم سيدي العباس وابنه في درجات المعرفة وحقائق اليقين.
ثم شاء الله أن يتصدر مهمة الإرشاد في هذه الطريقة الصوفية القادرية سيدي العباس بن المختار بعد انتقال سيدي بومدين إلى الرفيق الأعلى. وبعد جهاده واجتهاده في سبل الله خلال سنوات اتسعت دائرة الطريقة فيها كثيرا، وافته المنية سنة 1972. ولم يفته أن يأخد العهد في ميدان التربية والإرشاد، والسير على سنن الصوفية الأمجاد لابنه سيدي حمزة من كبراء الطريقة وأعيان دائرته، ووثق ذالك بالكتابة والإشهاد، ملتزما أنه لم يعد أن وضع الأمور في مواضعها وسمى الأشياء بمسمياتها، فتحققت بذالك فراسة الشيخ أبي مدين في مريده الشاب المخلص وأبيه سيدي العباس.
وهكذا تقلد الشيخ سيدي حمزة مند سنة 1972 مهمة الإرشاد في الطريقة القادرية البودشيشية، كما جددها ونقحها أبوه سيدي العباس وشيخه أبو مدين ثم زاد هو في إحيائها وتنشيطها والدعوة إلى منهاجها، فتوسعت دائرتها أكثر، وكثر معتنقوها في العديد من الأمكنة المغربية، وزادت بأن أشعت خارج القطر المغربي، ويلاحظ أنها أصبحت في وقته مقصودة من صنف الشباب خاصة المتعطشين إلى المعرفة، وأنها أضحت تستقبل ثلة من المثقفين والمتخصصين في شتى مناحي العلوم الإسلامية والإنسانية والتجريبية الدقيقة، ومن أناس متوزعين على ثقافات مختلفة كالثقافة العربية الإسلامية والثقافة الغربية فعلى خلاف الطرق الصوفية التقليدية أضحت الطريقة غاصة بالشباب في مقتبل العمر المملوءين حيوية ونشاطا.
تمتاز شخصية الرجل بثقافة إسلامية شرعية متينة، وبآداب رفيعة في المناقشات والمذكرات، وباستعداد كبير للحوار وتبادل الرأي. وهو في هذا المجال راجح التفكير جميل التعبير، لطيف التشبيه، يساعده في ذالك ما وهبه الله من سرعة البديهة وقوة الذاكرة وحداثة النظر، ودماثة الأخلاق. وهو أيضا ذو اهتمام بشؤون المسلمين عامة ذو حسي وطني متميز، تأخذه الغيرة على وطنه، كثير الاهتمام بكل مافيه تحقيق الصالح العام للمغرب والمغاربة.
وقد رزقه الله القبول لدى الخاصة والعامة، ولا يمل كل من التقى به مجالسته، بل يزداد رغبة في معاودة ذالك وتمديده. وأخلاقه في المحادثة والصبر على الإصغاء من الكبير والصغير مما يلفت الانتباه إضافة إلى فضيلة الإكرام والإطعام. وهو اليوم قد قارب الثمنين وشاب في الإسلام، لازال على اجتهاده في العبادة والذكر والتهجد، له أوقات مخصوصة لأداء الأوراد، لايسعه فيها إلا المولى عز وجل. وحاله أن لا يفتر عن ذكر الله لحظة.
أما علوم الصوفية وأذواقهم ومواجيدهم، وإلهاماتهم، والحديث في منازل السلوك والرقائق والدقائق، فهو في كل ذالك فرس الرهان وعلم الميدان، بشهادة كل من خاض التجربة الصوفية بصحبته،وبشهادة العديد من أرباب هذا الشأن الذين لهم خبرة في هذا الفن. حاز قصب السبق في هذا المضمار وأثمرت همته ونظرته ومقامه في مريديه نتائج رائعة من أقواله ووصياه لمريديه في الحض على الاستمساك بالشرع و التهمم بالإخلاص في الأعمال قوله:
- طريقتنا مبنية على الكتاب والسنة وما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا.
- إن الخير كله في القرآن الكريم، والعز كله في القرآن الكريم، والحفظ كله في القرآن الكريم.
- لا أدفع للشرور والمصائب والغلاء والبلاء من تلاوة القرآن الكريم.
- تعلموا العلم وعلموه للفقراء، ولا تقفوا مع علمكم، لأنه وسيلة لمعرفة ربكم لا زي يقتنى، ولا حلية يتزين بها في المناسبات أو تتخذ للمماراة والمراءاة. وإلا صار حجابا، وهو حجاب نوراني. والحجب النورانية أشد لأن إزاحتها عن القلب أعسر من الحجب الظلمانية.
- علاقة المريد بالشيخ علاقة محبة في الله ورسوله. والمحبة كالحليب أي شيء يسقط فيه يظهر فيه، فيفسد مظهره ويغير لونه. وإذا تغير لونه لم يعد حليبا.
- عليكم بالأدب، فلا يسلم في طريق القوم إلا من أغرق قلبه في بحر من الأدب.
- لاتزنوا أعمال الفقراء بميزانكم، وغدوا الطرف واستروا العورات يستر الله عوراتكم.
- من أراد الله به خيرا غيب عنه عورات المخلوقات وعيوبهم فلا يرى في الكون إلا الجمال. فإن الخلق هم الباب، هم الحجاب.
وبالجملة فالشيخ سيدي حمزة في الواقع نموذج كامل للأخلاق المحمدية في هذا العصر صحبه كاتب هذه السطور وانتفع به.

الدكتور عبد السلام الغرميني

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق