آخر الأخبار

جاري التحميل ...

أيّ دورٍ للتصوّف في مواجهة التحدّيات المعاصرة ؟

تتقاذف سفينة البشريّة في مسارها في هذه الأيّام أمواجٌ من المشكلات والتحدّيات تهدّد سعادة الإنسان المستخلف في الأرض، وتنذر بحالاتٍ من الفوضى الأمنية، والفكرية، والسياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، ممّا ينذر بإطالة عمر التنازع والاقتتال، وبازدياد مقدار الجور والظلم اللاحق بإنسان اليوم.

حيال ذلك يتطلّع الجميع إلى برّ الأمان لترسو عليه سفن البشريّة باستقرارٍ وهناءة تحقّق مقاصد الشريعة على مستوى الإنسان الفرد والمجتمع. ولأنّ الفراغ الروحيّ يأتي بين عوامل هذه الفوضى ومعه أشكالٌ من الغرق في ظلمات الماديّة، فإنّ أصواتاً باتت تظهر في أكثر من ساحةٍ تنادي بأنّ تزكية النفوس على المستوى الفرديّ، وانتظام الناس في مسارٍ ملتزمٍ بمنظومةٍ قيميّة سامية إنّما هو الدواء لهذه المشكلات، وهذا الدواء موجودٌ في صيدليّة التصوّف الذي هو ثورة روحيّة على هذا الواقع المتردّي. 

أمّا المعالجة فإنّها تتمحور في الميادين الآتية:

1- الشرع مرجعية التصوف:

إن الواقع الإسلامي المعاصر يشهد حالات من الانقسام الحاد حيث تتباعد المواقف، وتتباغض الأنفس، وتتصادم المذاهب والمجموعات، وتضيع هباء طاقاتٍ وجهوداً؛ لأنّ مجاميع من الحركات وحالات الانتظام تخلط بين الشرع والفقه، وتتضارب الاتجاهات بسبب الاجتهادات والآراء، وكان الأصل أن يتوافق الكلّ على قاعدة مفادها: الشرع (القرآن والسّنّة) واحد وهو المرجعية، والفقه متنوع بتنوع الأفهام والأفكار والمواضع والأزمنة، وكلّ ذلك ثراء إذا تمّ التعامل معه بعقل رشيد قائم على سنّة التعارف لا التناكر ولا التنازع.
إن الاحتكام في كل أمر أنما هو للشرع قرآناً وسنّة، وكلّ ما خالفهما لا مكان له عند المسلمين عامّة، وعند أهل التصوف خاصّة. 
والدعوة ومسار حركة الصلاح والإصلاح للإنسان فرداً ومجتمعاً محتاجة جهود العلماء والفقهاء والصوفية، فهذه الجهود تتكامل لتحفظ للإنسان إيمان والتزامه وظاهره وباطنه. وقد عبّر عن ذلك السراج الطوسي قائلاً: "وعندي، والله تعالى أعلم، أنّ أولي العلم القائمين بالقسط الذين هم ورثة الأنبياء، هم المعتصمون بكتاب الله تعالى، المجتهدون في متابعة رسول الله صلى الله عليه وسلّم، المقتدون بالصحابة والتابعين، السالكون سبيل أوليائه المتقين وعباده الصالحين، هم ثلاثة أصناف: أصحاب الحديث، والفقهاء، والصوفية... وكذلك أنواع العلوم كثيرة؛ فعلم الدين من ذلك ثلاثة علوم: علم القرآن، وعلم السّنن والبيان، وعلم حقائق الإيمان." 

ويقرّر السراج الطوسي أنّ علماء الحديث والفقهاء والصوفية هم الملاذ لكل طالب علم، ولكل من التبس عليه فهم، أو أشكل عليه أمر، وذلك كي يتجنب الإنسان مزالق الشطوط، والسقوط في وديان سحيقة إن هو ترك قياده للجهلة أو أنصاف المتعلمين أو الأدعياء وأصحاب الأهواء. قال السراج الطوسي: "فكلّ من أشكل عليه أصل من أصول الدين وفروعه وحقوقه وحقائقه وحدوده، وأحكامه ظاهراً وباطناً فلا بدّ له من الرجوع إلى هؤلاء الأصناف الثلاثة: أصحاب الحديث، والفقهاء والصوفية، وكلّ صنف من هؤلاء مترسّم بنوع من العلم والعمل والحقيقة والحال، ولكل صنف منهم في معناه علم، وعمل، ومقام ومقال، وفهم، ومكان، وفقه."

إن الدعوة ومسار حياة المسلم باعتدال وتوازن لا إفراط فيه ولا تفريط يحتاج للمخزون الفكري الفقهي والعلمي، وفي الوقت عينه يحتاج المخزون الروحي الذي يشحذ العزائم ويهذّب الشخصية، ويقوّم السلوك والفعل.
 
وقد تناول هذا الأمر عبد الرحمن بن خلدون حين قال: "وصار علم الشريعة على صنفين: 
- صنف مخصوص بالفقهاء وأهل الفتيا، وهي الأحكام العامة في العبادات والعادات والمعاملات. 
- وصنف مخصوص بالقوم (الصوفية) في القيام بهذه المجاهدة ومحاسبة النفس عليها والكلام في الأذواق والمواجد." 

وإن إعداد جيل واعد يستطيع النهوض بإنجاز حضاري مرموق يكون بتربية رشيدة تعتني بكلا جانبي الشخصية: العقلية والوجدانية. ومن أراد سلوك طريق التصوف لا بدّ له من قسط من الفقه، وقدر من العلوم والأفكار، وإلا يُخشى عليه من الشطط والشطح لو أنّه سلك الطريق الصوفي وهو لا يملك ما هو ضروري من مباني المعرفة. 

ومما جاء في هذا الباب واقعة ذكرها أبو طالب المكيّ هي: "حدّثونا عن الجنيد قال: 
كنت إذا قمت من عند سري السّقطي قال لي: إذا فارقتني من تجالس؟ فقلت: الحارث المحاسبي. فقال: نعم، خذ من علمه وأدبه... قال: فلمّا ولّيت سمعته يقول: جعلك الله –تعالى- صاحب حديث صوفياً، ولا جعلك صوفياً صاحب حديث.
يعني أنّك إذا ابتدأت بعلم الحديث والأثر ومعرفة الأصول والسنن، ثمّ تزهّدت وتعبّدت تقدّمت في علم الصوفية وكنت صوفياً عارفاً. وإذا ابتدأت بالتعبّد والتقوى والحال شغلت به عن علم السنن، فخرجت إمّا شاطحاً أو غالطاً، لجهلك بالأصول والسنن، فأحسن أحوالك أن ترجع إلى علم الظاهر وكتب الحديث، لأنّه هو الأصل الذي تفرّع عنه العبادة والعلم، وأنت قد بدأت بالفرع قبل الأصل. 
فالبداية السليمة للطريق الصوفي أن يحصّل السالك العلوم الدينية أولاً، ثمّ يأتي دور المقامات والأحوال، وأولها الزهد. لكن الصوفية يتجنبون ما فيه شغب وتناقض، ويعتمدون مرجعية الفقه مع التقدير لكل فقيه مصيب في اجتهاده انطلق من الكتاب والسّنّة. 
وقد بيّن الكلاباذي ذلك حيث قال: "إنهم يأخذون لأنفسهم بالأحوط والأوثق فيما اختلف فيه الفقهاء؛ وهم مع إجماع الفريقين فيما أمكن. ويرون اختلاف الفقهاء صواباً، ولا يعترض الواحد منهم على الآخر، وكلّ مجتهد عندهم مصيب، وكلّ من اعتقد مذهباً في الشّرع، وصحّ ذلك عنده بما يصحّ مثله مما يدلّ عليه الكتاب والسّنّة، وكان من أهل الاستنباط فهو مصيب باستفادة ذلك، ومن لم يكن من أهل الاجتهاد أخذ بقول من أفتاه ممن سبق إلى قلبه من الفقهاء أنّه أعلم وقوله حجّة." 

وإنّ واقعنا المعاصر يحتاج هذا المنهج الذي هو الرجوع إلى أهل الفقه ممن توافرت لهم مقوّمات الشخصية العلمائية ليقدموا الاجتهادات والآراء، وبعد ذلك يكون دور المجامع الفقهية التي تدرس بشكل جماعي الاجتهادات والآراء وصولاً إلى إصدار الفتاوى المناسبة التي تنطلق من المصدر الأصلي في الكتاب والسّنّة، وبعدها يكون التراث الفقهي والفكري، ومن ثمّ يأتي دور الرؤى المعاصرة التي تكون على علم ودراية تامّين بشؤون العصر ونوازله، والتي تحيط علماً بكل متعلّقات الموضوعات المطروحة، ومعها الإحاطة بالظروف والتحديات كي تأتي الفتاوى والتوجيهات الشرعية بالشكل الملائم الذي يلبي حاجات الأجيال فكرياً وتربوياً، وبالقوة التي تردّ كل التحديات. وإذا كان المسلمون قد زادوا عن 1700 مليون في العالم، وإذا كان منسوبو التصوف بمئات الملايين، وقد يقاربون مع أسرهم ثلث المسلمين. لكنّ المهمة الفقهية العلمائية إنّما هي مهمة منوطة بأعداد غير كبيرة من المؤهلين، وإلى هذا وجّهت الآية الكريمة في قول الله تعالى: ﴿وما كان المؤمنون لينفروا كافّة فلولا نفر من كلّ فرقة منهم طائفة ليتفقّهوا في الدّين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون﴾. (سورة التوبة، الآية 122). 

نخلص مما تقدّم إلى القول: إن التجديد ضرورة كي تستميل معاقل التزكية والتربية أجيال الأمة، وليجد فيها الناشئة المنهل العذب والمورد الكافي فكراً وروحاً، وبذلك تنطلق مسيرة التحصين لشباب اليوم من مغريات تجذبهم إلى الغلو وردّات الفعل غير المحسوبة النتائج التي تظهر من خلال السلوك المتطرف والإرهابي، أو تجذبهم إلى الخطر الآخر الذي هو تفريط واستهتار بالقيم، وانحدار إلى مستويات هابطة من السلوك والفنون. 

والتصوف تربوياً مؤهل للإصلاح حين يجمع القائمون عليه بين علوم الشريعة وعلم الحقيقة، وبين الأصالة والمعاصرة، وبين الالتزام بالمقاصد الشرعية السامية مع الاستفادة من تقنيات العصر واختراعاته وعمرانه، وهذا التصوف يمكنه أن يجدد في الدعوة والدعاة، وفي الالتزام بالسلوك القويم في الحياة العامة لتنطلق المسيرة في سفينة نجاة البشرية جمعاء من خلال رسالة الأمة الوسط التي تدعو إلى الخير، وتمارس مهمة الأمر بالمعروف قولاً وفعلاً، والتي تقاوم المنكر والباطل بأعلى الدرجات، وبأغلى الأثمان كي تنجو البشرية من شرور مدارس الاستعمار والعدوان المادي والمعنوي الظالم المتستر بغطاء حضارة مزيّفة يعتمد قادتها أنظمة جائرة، ورأسمالية متوحشة، كل ذلك ليكون في ظلال فكر وسلوك الأمة الوسط أمان واطمئنان، وكرامة للإنسان وحرية مع عدالة وعدل لا ميز معهما بين بلد وآخر، ولا إنسان وآخر، إلا بمقدار ما يكون ملتزماً قيم الخير والحق والعدل والجمال. 

إن المهمة غير سهلة، لكنها غير مستحيلة، ويسرها يبدأ من الإيمان بلا تعصب، ومن العمل الذي يسير على الطريق القويم، والذي يتمتع القادة والمتقدمون والعلماء فيه بالحكمة والعقل الرشيد. 

2- التربية:

تشمل التربية جانب القول والفعل، والفكر والسلوك، كما أنّها تعنى بالحياة النفسيّة الجوّانيّة للشخص وبحاجاته العضويّة/الماديّة. ومدارس التصوّف وضعت منذ أصل النشأة هذه الأمور في دائرة اهتماماتها، حيث كان ولا يزال الزهد المقام الرئيس والأول في الطريق، ومعه التزكية للنفس بالإيمان الراسخ، وبالفضائل ومنظومة القيم التي تتسامى بالإنسان علوياً سعياً لتحقيق القرب من الله تعالى، وذلك تأسيساً على القاعدة القرآنية: ﴿قد أفلح من زكّاها (سورة الشمس، الآية 9) وعلى القاعدة المحدّدة في الحديث النبوي الشريف: "إزهد في الدنيا يحبّك الله - تعالى-، وازهد فيما في أيدي الناس يحبّوك."
إن الشيخ في الطريقة الصوفيّة أو من ينوب عنه ليس أكثر من مربٍّ للسالك يُعنى بصقل شخصيّته، وتهذيبها وتذخيرها بالفضائل والقيم والمثل العليا بحيث تكون هذه العمليّة التربويّة في حلقات الذكر والتوجيه إسهاماً في التشكيل الجديد لشخصيّة السالك، وفي التكوين البنيوي للإنسان الفرد، والإنسان المجتمع. 
وإذا كان أبناء الجيل في هذه الأيّام معرّضين لأشكال من البلاء والاختبار، والتحدّيات التي لا حصر لها، وفي الوقت عينه يجد المتابع أنّ العمليّة التعليمية تتمّ من قبل الغالبيّة من المدرّسين بشكلٍ آليّ يقدّم المادة العلمية دونما انتباه للجانب التربوي، ويصحّ مع ذلك القول: إنّ عدداً غير قليل من العاملين في التعليم في المدارس والمعاهد والجامعات يمارسون التعليم بلا اهتمام بالتربية، وبصقل شخصية الطالب. 
إنّ الدور الحضاري لا ينطلق إن لم يتمّ إعداد أجيال واعدة مسلّحة مع العلم والخبرات بالإيمان والخُلق، لأنّ من يكيدون لمجتمعاتنا العربيّة والإسلاميّة يريدون لأجيالنا أن تحيا بين حالتيّ الإفراط والتفريط، وكلاهما كأنّه عبادة لله تعالى على حرف، وصاحبه غير واثق الخطى، ولا هو متوازن الشخصيّة، وإنّما تغويه الإغراءات وترعبه التهديدات. 
إنّ التربية المتوازنة للشخصيّة، وللنفس الزاكية هي التي تستطيع تحصين الناشئة من مخاطر الانفعال، ومن الغلوّ الذي هو مرض، لا بل داء فتّاك عواقبه وخيمة. وهذه التربية المتوازنة تقي الجيل من التهويل والوعيد، وكذلك تقيه من التهوين والتفريط الذي يدفع بعض أبناء الجيل إلى سلوكيّات فيها لستهتار بالقيم. 
والتربية القويمة سلوكياً، وفي إطار الاهتمامات المطلوبة التي تلتزم هوية الأمة في الوسطية، والتي يعطي فيها السالك لكلٍّ من الدنيا والآخرة ما هو وافٍ بتحقيق الفوز والسعادة، وقد حدّد ذلك الأمر الربّاني في الآية الكريمة: ﴿وابتغِ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنسَ نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغِ الفساد في الأرض إن الله لا يحبّ المفسدين (سورة القصص، الآية 77). 

هذا ما يناسب التربية الصوفية، إنّه الاكتفاء من المطالب الدنيويّة بما يسدّ الحاجات، ويؤمّن أسباب العيش الكريم، لكنّ الاتّجاه الأساس يكون في كلّ قول وفعل إلى الإعداد للسعادة الأُخرويّة، ويدخل في هذا الإعداد أمر الفداء والتضحية من أجل الآخرين، ومن أجل القيم والمثل العليا، ومن أجل الوطن والمجتمع، ومن أجل حماية الدين والمقدسات، ومن أجل تحقيق كرامة الإنسان المستخلف في الأرض، وكلّ ذلك في دائرة الاهتمام الصوفي تربوياً. 


أ.د. أسعد السحمراني
أستاذ العقائد والأديان في جامعة الإمام الأوزاعي- بيروت 

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق الصوفية