آخر الأخبار

random
جاري التحميل ...

العلم نور


    عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "مَن عمل بما علم ورَّثه الله علم ما لم يعلم" [رواه أبو نعيم في الحلية] وقال صلى الله عليه وسلم: "اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله" [رواه الترمذي]. وهذا العلم أبهمه الله تعالى تفخيما لأمره وتعظيما لشأنه فقال عز وجل : (فأوحى إلى عبده ما أوحى) [النجم: 10] وهو الذي آثر به أولياءه الذين هم ورثة أنبيائه حالا ومآلا وإن لم يدانوهم منزلة ومقاما لأنه لما أغلق باب النبوة والرسالة فتح باب الولاية والفهم عن الله فيما أوحى إلى خاتم أنبيائه في كتابه العزيز. 

    ومن المعلوم أن العلوم كلها من حيث الأصل لدنية ولكن بعضها يتحصل بواسطة التعلم والأخذ عن العلماء والفقهاء وهذا النوع لا بد فيه من البحث مع الجد والمثابرة والاجتهاد وهو الذي يسمى العلم الرسمي الكسبي وهو أمداد اسم الحق الظاهر، ومناطه الدلائل والبراهين وتدخله الموازنة والتعيين لأنه نقلي وعقلي، وبعضها ينفتح في سر القلب المنوّر من غير سبب مألوف من خارج إلا سبب التقوى والإخلاص في العمل؛ إذ التقوى مدعاةٌ للعلم والمعرفة وفي ذلك يقول الإمام الشافعي:
شكوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي
وأخبرنــي بــأن العلـم نــور ونور الله لا يوتـي لعاصـي
وهذا الأخير لا ميزان لـه لأنه أمداد اسم الحق الباطن ولا يجب فيه التبليغ لأنه ليس من تكاليف الله وأحكامه الشرعية العامة ومع ذلك فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يخبر بكل مغيب اطلع عليه بل كان ذلك في بعض الأوقات وعلى مقتضى الحاجات. وهذا العلم مداره الذوق والوجدان ولهذا يسمى العلم الوهبي لأنه مواهبُ وأسرارٌ وكشوفاتٌ وأذواقٌ ولا ينال بحيلة ولا اكتساب ولا يؤخذ من دفتر ولا كتاب وإنما يفيض من حضرة الكمال بمحض الفضل والنوال، ويورث عن أهله بالصحبة والمحبة والخدمة والصدق لأنه معاني قلبيةٌ وأسرار ملكوتية ونفحات وإمدادات ربانية قدسية تخص العارفين دون الغافلين كما أشار أحد العارفين:
قلوب العارفين لها عـــيون تَرى ما لا يُرى للناظرينـا
وأجنحة تطير بغير ريــش إلى ملكوت رب العالمينـا
ثم إن العلم اللدني نوعان: لدني رحماني ولدني شيطاني، والمحك هو الشرع فما وافقه كان لدنيا إلهيا وما خالفه كان لدنيا شيطانيا.
ونتيجة لذلك فعلم التصوف ليس علم التقليد ولا علم الكلام وإنما هو العلم الإلهي أو علم الحكمة الذي يغسل النفوس من وسخ الطبيعة الظلمانية، فالنفس إذا تربّت وعرفت الحكمة حنت واشتاقت إلى عالم الأرواح ومالت عن الشهوات الجسمانية، ثم إن هذا العلم أمره اختصاص إلهي حيث يبلغ العارف به من التقرب إلى الله بأداء المفترضات ونوافل العبادات درجة الشهود القلبي الذي يكشف عن النفس حجاب الوهم وظلمة الحس فتزول الأينية والغيرية ويشاهد الأشياء كلها أنوارا ملكوتية مشاهدة ذوقية يقينية عرفانية تمكينية ففي البخاري أن الخضر قال لموسى: "إن لي علما لا ينبغي أن تعلمه وإن لك علما لا ينبغي أن أعلمه" وهو معنى قول أنس ابن مالك لعثمان ابن عفان أوحي بعد النبي؟ فقال: /لا، ولكن بصيرة وبرهان وفراسة صادقة/ وفي الحديث: "إن يكن في أمتي محدثون فعمر" [أخرجه أحمد] والمحدث الملهم.

    والحاصل أن العلم الكسبي وسيلته التعليم الإنساني ودلالة العلماء به على الأمر العام أمرا ونهيا. والعلم الوهبي وسيلته الكشف والإلهام ودلالة الحكماء العارفين به على التقرب إلى الله تعالى. أو قل: وسيلة الأول التعلم من خارج وهو التحصيل بالحواس، ووسيلة الثاني التعلم من داخل وهو الاشتغال بالفكر. ويشترط في هذا الأخير صقل مرآة القلب وصفاء النفس إذ من أشرقت بدايته أشرقت نهايته. أو قل: الأول دنيوي باعتبار أنه خطاب في عالم الخلق، والثاني: أخروي باعتبار أنه يُعنى بالوقوف مع الحق في العلوم والأعمال والمقامات والأحوال والأقوال والأفعال وسائر الحركات والسكنات والإرادات والخطرات إلى غير ذلك. ولهذا فالعالم يصف الطريق بالنعت والعارف ينعتها باليقين، العالم من أهل الفرق والعارف من أهل الجمع، العالم من أهل عالم الصورة والعارف من أهل عالم الخفي، العالم من أهل عالم الملك والعارف من أهل عالم الملكوت، العالم من أهل عالم الحس والعارف من أهل عالم المعنى، العالم من أهل عالم الكثافة والعارف من أهل عالم اللطافة، العالم يدلك على العمل والعارف يخرجك عن رؤية العمل، العالم يحملك حمل التكليف والعارف يروحك عن التكثيف بشهود التعريف، العالم يدلك على الأسباب والعارف يدلك على مسبب الأسباب، العالم يدلك على شهود الوسائط والعارف يدلك على محرك الوسائط، العالم يحذرك من الوقوف مع الأغيار والعارف ينذرك من الوقوف مع الأنوار، العالم يحذرك من الشرك الجلي والعارف يخلصك من الشرك الخفي، العالم يعرفك بأحكام الله والعارف يعرفك بذات الله، العالم يدلك على العمل لله والعارف يرشدك إلى العمل بالله، العالم يدلك على العمل خوفا وطمعا والعارف يدلك على العمل محبة وشكرا وهكذا دواليك، وكلاهما لا بد منه لأن العالم هو معلم الشريعة والعارف معرف الحقيقة.
وقد قسم بعض الصوفية علم التصوف إلى قسمين: 
- علم معاملة
- وعلم مكاشفة
فعلم المعاملة فرض عين وهو النظر في تهذيب النفس وتصفية القلب من الأغيار والأوصاف الذميمة، وعلم المكاشفة نور يقذفه الله في القلب الصافي المتخلق صاحبه بالأخلاق والشمائل المحمدية الكريمة الرفيعة بعد تطهيره وتزكيته من صفاته المذمومة فتحصل له من ذلك النور المعرفة الحقيقية بالله تعالى وتنكشف له الأمور فيراها على ما هي عليه.

    والنصوص الشرعية التي تؤصل علم التصوف كثيرة جدا منها ما ذكر سابقا ومنها أيضا حديث البخاري عن أمير المؤمنين عمر الفاروق رضي الله عنه قال: "قام فينا النبي صلى الله عليه وسلم مقاما فأخبرنا عن بدء الخلق حتى دخل أهل الجنة منازلهم وأهل النار منازلهم" وحديث مسلم عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله زوي لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها" وحديث مسلم أيضا عن عمر ابن أخطب الأنصاري رضي الله عنه في خطبته صلى الله عليه وسلم من الفجر إلى الغروب وفيه "فأخبرنا بما كان وبما هو كائن فأعلمنا أحفظنا" وفي الصحيحين عن حذيفة رضي الله عنه قال : "قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقاما ما ترك شيئا سيكون في مقامه ذلك إلى قيام الساعة إلا حدث به" وفي الصحيحين أيضا "ما من شيء لم أكن أريته إلا رأيته في مقامي حتى الجنة والنار" ومنها حديث الترمذي عن معاذ ابن جبل رضي الله عنه وفيه قوله صلى الله عليه وسلم : "فرأيته عز وجل وضع كفه بين كتفي فوجدت برد أنامله بين ثديي فتجلى لي كل شيء وعرفت" ومنها حديث أبي يعلى والطبراني عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال : "لقد تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يحرك طائر جناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علما". ولا شك ولا ريب بأن سيد الوجود صلى الله عليه وسلم بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وكشف الغمة، قال الله تعالى: (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالاته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين) [المائدة: 67] .

وذكر الإمام المفسر الصاوي في حاشيته على الجلالين في تفسير هذه الآية ما نصه: واعلم أن ما أوحي إليه ينقسم إلى ثلاثة أقسام: ما أمر بتبليغه وهو القرآن والأحكام المتعلقة بالخلق عموما وقد بلغه ولم يزد عليه حرفا ولو جاز عليه الكتم لكتم آيات العتاب الصادرة له من الله كآية (عبس وتولى) وآية (ما كان لنبيء أن يكون له أسرى) وسورة (تبت يدى أبي لهب) ولفظ قُلْ من (قل يا أيها الكافرون) و(قل هو الله أحد) و(قل أعوذ برب الفلق) و(قل أعوذ برب الناس) وقد شهد الله له بتمام التبليغ حيث أنزل قبيل وفاته )اليوم أكملت لكم دينكم.

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق