نفحات الطريق

يعنى الموقع بالتأصيل الشرعي للتصوف المقتبس من مشكاة نور النبوة والتعريف بمقامات وأعلام الصوفية. إلى جانب نشر كتب ورسائل عن التصوف.

آخر الأخبار

random
جاري التحميل ...

إيقاظ الهمم في شرح الحكم(7)

  و لما كانت التعرفات القهرية ظاهرها جلال و باطنها جمال لما يَعْقُبُهَا من أوصاف الكمال، و ربما يَشُككُّ المريد فيما وعد الحق عليها من الخيرات و ما رَتَّبَ عليها من الفتوحات نَبَّهَ الشيخ على ذلك فقال:ُّ

إذا فتحَ لكَ وِجْهةً من التَّعرُّفِ فلا تبالِ معها إنْ قلَّ عملُكَ فإنه ما فَتَحَها لك إلا وهو يريد أن يتعرَّفَ إليكَ . ألم تعلم أن التَّعَرُّفَ هو مُورِدُهُ عليك، والأعمال أَنْتَ مُهْدِيها إليه، وأين ما تُهْدِيهِ إليه مما هو مُورِدُهُ عليكَ.


"فََتَحَ" هنا بمعنى هَيَّأَ وَيَّسَّر، و الغالب استعماله في الخير، فَأَشْعَرَ الإتيان به هنا أنَّ جهة التعريف من الأمور الجميلة و "الوِجْهَةُ": هي الجهة، و المراد هنا الباب و المدخل، و"التَّعَرُّفُ": طلب المعرفة، تقول تَعَرَّفَ لي فلان إذا طلب مني معرفته، و المعرفةّ: تمكن حقيقة العلم بالمعروف من القلب حتى لا يمكن الانفكاك عنه بحال، و ّالمبالاةّ: التهمم بفوات الشَّيْإِ. 

قلت: إذا تجلى لك الحق تعالى باسمه الجليل أو باسمه القَهَّارِ و فتح لك منها بابا و وجهة لتعرفه منها، فاعلم أن اللّهَ تعالى قد اعتنى بك، و أراد أن يَجْتَبِيكَ لقربه و يصطفيك لحضرته فالْتَزِمْ الأدب معه بالرضا و التسليم، و قَابِلْهُ بالفرح و السرور و لا تبال بما يفوتك بها معها من الأعمال البدنية فإنما هي وسيلة للأعمال القلبية، فإنه ما فَتَحَ هذا الباب إلا و هو يريد أن يرفع بينك و بينه الحجاب، ألم تعلم أن التعرفات الجلالية هو الذي أوردها عليك لتكون عليه واردا، و الأعمال البدنية أنت مُهْدِيها إليه لتكون إليه بها واصلا، و فَرْقٌ كبير بين ما تُهْديه أنت من الأعمال المدخولة و الأحوال المعلولة، و بين ما يورده عليك الحق تعالى من تحف المعارف الربانية و العلوم اللدنية. فََطِبْ نفسا أيها المريد بما يَنْزِلُ عليك من هذه التعرفات الجلالية و النوازل القهرية، ومَثَلُ ذلك كالأمراض و الأوجاع و الشدائد و الأهوال، و كل ما يثقل على النفس و يؤلمها كالفقر و الذل و أذية الخَلْقِ و غير ذلك مما تكرهه النفوس، فكل ما ينزل بك من هذه الأمور فهي نِعَمٌ كبيرة و مواهب غزيرة تدل على قوة صدقك، إذ بقدر ما يَعْظُمُ الصدق يَعْظُمُ التعرف : أشدّكم بلاء الأنبياء فالأمثل فالأمثل‌، و الصدق مَتْبُوع‌ٌ

و إذا أراد اللّه أن يطوي مسافة البعد بينه و بين عبده سلط عليه البلاء حتى إذا تخلص و تحرر صلح للحضرة كما تصفي الفضة و الذهب بالنار لتصلح لخزانة الملك. و ما زالت الشيوخ و العارفون يفرحون بهذه النوازل و يستعدون لها في كسب المواهب، كان شيخ شيوخنا سيدي على العمراني رضي اللّه تعالى عنه يسميها ليلة القدر، و يقول: كل الخيرة هي ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، و ذلك لأجل ما يجتنيه العبد منها من أعمال القلوب التي الذرة منها أفضل من أمثال الجبال من أعمال الجوارح.

و قد قلت في ذلك بيتين و هما:

إذا طرقت بابي من الدّهر فاقة                فتحت لها باب المسرّة و البشر
و قلت لها أهلا و سهلا و مرحبا             فوقتك عندي أحظى من ليلة القدر

و اعلم أن هذه التعرفات الجلالية هي اختبار من الحق، و معيار للناس. و بها تعرف الفضة و الذهب من النحاس. فكثير من المدعين يظهرون على ألسنتهم المعرفة و اليقين، فإذا وردت عليهم عواصف رياح الأقدار ألقتهم في مهاوي القنوط و الإنكار: من ادعى ما ليس فيه فضحته شواهد الامتحان. و كان شيخ شيخنا مولاي العربي رضي اللّه تعالى عنه يقول: العجب كل العجب ممن يطلب معرفة اللّه و يحرص عليها فإذا تعرف له الحق تعالى هرب منه و أنكره.

و قال شيخنا البوزيدي رضي اللّه تعالى عنه: هذه التعرفات الجلالية على‌ ثلاثة أقسام:- قسم عقوبة و طرد.- و قسم تأديب.- و قسم زيادة و ترقّ.

أما الذي هو عقوبة و طرد: فهو الذي يسي‌ء الأدب فيعاقبه الحق تعالى و يجهل فيها فيسخط و يقنط و ينكر فيزداد من اللّه طردا و بعدا. و أما القسم الذي هو تأديب: فهو الذي يسي‌ء الأدب فيؤدبه الحق تعالى، فيعرفه فيها و ينتبه لسوء أدبه و ينهض من غفلته فهي في حقه نعمة في مظهر النقمة. و أما الذي هي في حقه زيادة و ترق: فهو الذي تنزل به هذه التعرفات من غير سبب‌، فيعرفه فيها و يتأدب معها و يترقى بها إلى مقام الرسوخ و التمكين انتهى بالمعنى. قلت:

و لذلك قال بعضهم بقدر الامتحان يكون الامتكان‌. و قال أيضا: اختبار الباقي يقطع التباقي‌.

فائدة: إذا أردت أن يسهل عليك الجلال فقابله بضده و هو الجمال، فإنه ينقلب جمالا في ساعته، و كيفية ذلك أنه إذا تجلى باسمه القابض في الظاهر، فقابله أنت بالبسط في الباطن فإنه ينقلب بسطا و إذا تجلى لك باسمه القوي فقابله أنت بالضعف، أو تجلي باسمه العزيز فقابله بالذل في الباطن و هكذا يقابل الشي‌ء بضده قياما بالقدرة و الحكمة. و كان شيخ شيخنا مولاي العربي رضي اللّه تعالى عنه يقول: ما هي إلا حقيقة واحدة إن شربتها عسلا، وجدتها عسلا و إن شربتها لبنا، وجدتها لبنا و إن شربتها حنظلا وجدتها حنظلا فأشرب يا أخي المليح و لا تشرب القبيح. انتهى. و معنى كلامه رضي اللّه تعالى عنه هو كما تقابله يقابلك و اللّه تعالى أعلم.

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق