آخر الأخبار

random
جاري التحميل ...

إيقاظ الهمم في شرح الحكم(6)

 ثم حقّق لك ما تقدم من إنجاز الوعد و نفوذ الموعود، و لكن على الوجه الذي يريد و في الوقت الذي يريد، و أمرك في ذلك بالصدق و التصديق، و نهاك عن الشك و الترديد ليكمل بذلك فتح بصيرتك و تبهج أنوار سريرتك فقال:


7- لاَ يُشَكِّكَنَّكَ فِى الْوَعْدِ عَدَمُ وُقُوعِ الْمَوْعُودِ وَإِنْ تَعَيَّنَ زَمَنُهُ ؛ لِئَلاَّ يَكُونَ ذَلِكَ قَدْحًا فِى بَصِيرَتِكَ ، وَإِخْمَادًا لِنُورِ سَرِيرَتِكَ.


التشكيك في الشي‌ء: هو التردد في الوقوع و عدمه و الوعد: الإخبار بوقوع الشي‌ء في محله و الموعود: المخبر به و القدح في الشي‌ء: التنقيص له و الغض من مرتبته و البصيرة: القوة المهيئة لإدراك المعاني، و السريرة: القوة المستعدة لتمكن العلم و المعرفة. و اعلم أن النفس و العقل و الروح و السر شي‌ء واحد، لكن تختلف التسامي باختلاف المدارك، فما كان من مدارك الشهوات فمدركه النفس، و ما كان من مدارك الأحكام الشرعية فمدركه العقل، و ما كان من مدارك التجليات و الواردات فمدركه الروح، و ما كان من مدارك التحقيقات و التمكنات، فمدركه السر و المحل واحد و إخماد الشي‌ء إخفاؤه بعد ظهوره.


قلت: إذا وعدك الحق تعالى بشي‌ء على لسان الوحي أو الإلهام من نبي أو ولي أو تجل قوى فلا تشك أيها المريد في ذلك الوعد إن كنت صدّيقا، فإن لم يتعين زمنه، فالأمر واسع و قد يطول الزمان و قد يقصر فلا تشك في وقوعه و إن طال زمنه و قد كان بين دعاء سيدنا موسى و هارون على فرعون بقوله: رَبَّنَا اطْمِسْ‌ عَلى‌ أَمْوالِهِمْ‌ [يونس: 88]، أربعون سنة على ما قيل و إن تعين زمنه و لم يقع ذلك عند حلوله فلا تشك في صدق ذلك الوعد فقد يكون ذلك مترتبا على أسباب و شروط غيبية أخفاها اللّه تعالى عن ذلك النبي أو الولي لتظهر قهرية عزته و حكمته و تأمل قضية سيدنا يونس حيث أخبر قومه بالعذاب لما أخبر به و فرّ عنهم، و كان ذلك متوقفا على عدم إسلامهم، فلما أسلموا تأخر عنهم العذاب، و كذلك قضية سيدنا نوح حيث قال: إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَ إِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُ‌ [هود: 45] فوقف مع ظاهر العموم فقال له تعالى: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ‌ [هود: 46]، و نحن إنما وعدناك بنجاة الصالح من أهلك، و إن فهمت العموم فعلمنا متسع. و لهذا السر الخفي كان الرسل عليهم الصلاة و السلام و أكابر الصديقين لا يقفون مع ظاهر الوعد، فلا يزول اضطرارهم و لا يكون مع غير اللّه فرارهم بل ينظرون لسعة علمه تعالى و نفوذ قهره و منه قول سيدنا إبراهيم الخليل: وَ لا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْ‌ءٍ عِلْماً [الأنعام: 80]، و قول سيدنا شعيب : وَ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها [الأعراف: 89]، أي في ملة الكفر إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْ‌ءٍ عِلْماً [الأعراف: 89] و قضية نبينا صلى اللّه عليه و آله و سلم يوم بدر حيث دعا حتى سقط رداؤه و قال: «اللهم عهدك و وعدك اللهم إن تهلك هذه العصابة لم تعبد بعد اليوم‌»، فقال له الصديق: حسبك يا رسول اللّه فإن اللّه منجز لك ما وعدك فنظر المصطفى صلى اللّه عليه و آله و سلم، أوسع لعدم وقوفه مع ظاهر الوعد و وقف الصديق مع الظاهر فكل على صواب و النبي صلى اللّه عليه و آله و سلم، أوسع نظرا و أكمل علما. و أما قضية الحديبية فلم يتعين فيها زمن الوعد لقوله تعالى: فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا [الفتح: 27]، و قد قال صلى اللّه عليه و آله و سلم لعمر حين قال له:ألم تخبرنا أنا ندخل مكة فقال له: «أقلت لك هذا العام؟ فقال لا، فقال إنّك داخلها و مطوّف بها»، فشد يدك يا أخي على تصديق ما وعدك اللّه به، و حسن ظنك به و بأوليائه و لا سيما شيخك، فإياك أن تضمر التكذيب أو الشك، فيكون ذلك قدحا في بصيرتك، و قد يكون سببا في طمسها، و يكون أيضا إخمادا أي إخفاء و إطفاء لنور سريرتك، فترجع من حيث جئت و تهدم كل ما بنيت، فانظر أحسن التأويلات و التمس أحسن المخارج. و قد تقدم قول شيخ شيوخنا سيدي علي رضي اللّه تعالى عنه: نحن إذا قلنا شيئا فخرج فرحنا مرة و إذا لم يخرج فرحنا عشر مرات و ما ذاك إلا لوسع نظره و تمكنه في معرفة ربه و أيضا قد يطلع اللّه أولياءه على نزول القضاء و لا يطلعهم على نزول اللطف فينزل ذلك القضاء مصحوبا باللطف فينزل خفيفا سهلا حتى يظن أنه لم ينزل و قد شهدنا هذا و ما قبله من أنفسنا و من أشياخنا رضي اللّه عنهم فلم ينقص صدقنا و لم يخمد نور سريرتنا فلله الحمد ربنا.


تنبيه: كان شيخنا الفقيه العلامة سيدي التاودي بن سودة يستشكل هذه الحكمة و يقول: "كيف يتصور تعيين الزمان، إن كان بالوحي فقد انقطع، و إن كان بالإلهام فلا يلزم من الشك فيه القدح في البصيرة إذ لا يجب الإيمان به" . قلنا: كلامنا مع المريدين الصديقين السائرين أو الواصلين، و هم مطالبون بالتصديق للأشياخ في كل ما نطقوا به إذ هم ورثة الأنبياء فهم على قدمهم، فللأنبياء وحي الأحكام، و للأولياء وحي الإلهام، لأن القلوب إذا صفت من الأكدار و الأغيار و ملئت بالأنوار و الأسرار لا يتجلى فيها إلا الحق، فإذا نطقوا بشي‌ء من وعد أو وعيد يجب على المريد تصديقه، فإذا دخله تشكيك أو تردد فيما وعده اللّه على لسان نبيه أو شيخه قدح ذلك في نور بصيرته و أخمد سريرته، فإذا لم يعين زمنه انتظر وقوعه و إن طال ،و إن عين زمنه و لم يقع ،تأول فيه ما تقدم في حق الرسل‌ من توقفه على أسباب و شروط خفية، و بهذا فرقوا بين الصديق و الصادق، لأن الصديق لا يتردد و لا يتعجب، و الصادق يتردد ثم يجزم، و إن رأى خرق عادة تعجب و استغرب، و اللّه تعالى أعلم.



التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق