آخر الأخبار

random
جاري التحميل ...

كتاب : الحقيقة القلبية الصوفية / أحمد لسان الحق(21).


المبحث الثاني

العلم الكسبيّ الوهبيّ ، وإصلاح الظاهر والباطن

ومهمة المجتهد والمفتي والعارف بالله

فضل العلم الكسبيّ والوهبيّ ومسؤوليته ، والرحلة في طلبه . والعلماء ورثة الأنبياء .


  العلم جنس يشمل ما به يعبد الله ، وما به يعرف ، أو مابه تِؤخد الحقوق وتعطى ، ويترتب العقاب والجزاء في الدنيا والآخرة ، وما به تصلح القلوب ، وتصفو السرائر، وتزكو النفوس ، كما تقدّم في قول النبي صلى الله عليه وسلم : (العلمُ علمان : فعلمٌ ثابتٌ في القلب ، فذاكَ العلمُ النافعُ ، وعلمٌ في اللسان فذاكَ حجّةَ الله على عباده) فكان العلم الثابت في القلب ينفع في العلاقة الروحيّة بين العبد وربّه ، كما ينفع الذي في اللسان في تنظيم العلاقة الإقتصادية والاجتماعية والقانونية والخلقية...بين أفراد المجتمع ، والكل منه تعالى .

والفرق بين ما يبذل الجهد العقليّ في تحصيله ، وما يفيض على الأرواح الطيّبة الطّاهرة ، هبةً من لدن الله اصطلاح بياني ، وإلا فقول النبي صلى الله عليه وسلم :(العلماء ورثة الأنبياء ، والأنبياء لم يُوَرّثوا ديناراً ولا درهماً ، وإنّما ورَّثوا العلم ، من أخده أخد بحظّ وافر) يشمل العلماء بالله ، والعلماء بشرعه.. أوعلماء الشريعة وعلماء الحقيقة ، أو علماء الظاهر وعلماء الباطن.. وميزة العالم بصفة شرعيّة لا يحملها إلا المتّقون ( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ) (72).

وإنّ هذه الوراثة النبويّة لهي أفضل هديّة معنويّة قدّمها رسول الله صلى الله عليه وسلّم لعلماء أمّته ، إن هم أدّوا الأمانة ، وأحسنوا الإتّباع ، وبرهنوا على أنّ الوراثة النبويّة لا تتجزّأ..فتعني السلوك الربّاني ، والصدق والإخلاص ، والأخلاق الفاضلة ، وحسن المعاملة ، وتبيين ما أنزل الله ، كما أُنزل . وتلك مهمّة كلّف بها الرسول صلى الله عليه وسلّم في قوله تعالى :(أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ) (73) كلّف بها الرسول صلى الله عليه وسلّم بالأصالة ، وكلّف بها العلماء بالوراثة والإتّباع ، وتبيين ما أنزل الله في غيبة عن مراعاة البشر من أخطر المسؤوليات .

والخشية والإنابة ، والعبوديّة لله ، وصلاح الظاهر والباطن أساس الإعتبار العلميّ ، وقوله تعالى :(إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) يفيد الحصر. وإلاّ فعلماء السّوء هم أيضا علماء باللفظ والكمّ ، لكن علماء أنفسهم وأهوائهم ، وليسوا من العلماء الوارثين للأنبياء ، إذ بالتقوى والإيمان ، والصدق والإخلاص ، يحصل فضل العلم ، وترفع الدرجات (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ) (74) ويكفي شرفا في رفع درجات صالحي العلماء من حاملي أمانة الحفاظ على الحقيقة القلبيّة والشرعيّة ، أَن أشركهم اللهُ ، كما أشرك ملائكته في الشهادة على وحدانيته ، وبسط العدل بين خلقه ، فقال : ( شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ ) (75) وفي كلّ الأحوال فالعالم - سواء العالم بالله ومعرفته ، أو العالم بأمور الدين والدنيا ، فيما تحتاج إليه الأمّة في أمور دينها ودنياها - لا يستوي مع الجاهل (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) (76) لايستويان ، وحدف المعمول في الآية يفيد العموم .

كان ذلك من فضل العلم ، ومن أجله كان تعلّمه وتعليمه ، وكانت الرحلة في طلبه ، وهي من فرض الكفاية ، إذا قام بها البعض تسقط عن الكلّ ، وإن تركها كلّ الناس أثموا كلّهم ، كما هو الشأن بالنسبة لصلاة الجنازة ، وتكون في الدرجة الأولى من أجل ما به يعبد الله ، وما يعرف به ، ثم المباح ممّا لا يقوم أمر الأمّة ونظام حياتها إلاّ به... ومشروعيتها في القرآن قوله تعالى :(وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) (77) وفي صحيح الإمام البخاري أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال :(مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَطلُبُ بهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) وفي رواية (وَ إِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًى بما يَصنَعُ).

فكان من الطبيعي أن يرحل الصحابة ، ومن دونهم إلى أصقاع الدنيا طلبا للعلم ، ورواية الحديث . فهذا أيُّوب الأنصاري ، قد رحل من المدينة إلى مصر ، لا لشيء إلاّ ليسمع من صحابيّ آخر قول النبي صلى الله عليه وسلم :(من فرَّجَ على مُؤمن كُربَةً من كُرَب الدُّنيا ، فَرَّجَ اللهُ عليه كُربَةً من كُرَب يوم القيامة) وفي ترجمة الإمام البخاري أنّه بدأ في رحلته في رواية الحديث وهو ابن أربع عشرة سنة ، فبرهن على أنّه طلب العلم من المهد إلى اللّحد ، واستعدّ لطلبه - لو دعت الضرورة - ولو بالصّين.. وبالمقابل رأينا أنّ أبا الحسن الشاذلي ، قد رحل إلى الشرق العربي - قبل أن يتعرّف على مولاي عبد السلام بن مشيش - طلبا لعلم الحقيقة القلبيّة ، المعبّربها عن معرفة الله ، فكانت الرحلة في طلب العلم تعني ما به يعبد الله أو يعرف ، وما به تنظّم الحياة ولا تقوم إلا به.

وعند كثير من العلماء ، وعلى رأسهم الإمام الغزّالي أنّ كل طالب لعلم ينفع الأمة في أمور دينه ودنياها يؤجر عليه صاحبه ، وينفق عليه من بيت مال المسلمين هو ومعلّمه ، ممّا يضفي المشروعية على منح الطلبة ، ومرتّبات الأساتذة في هذا العصر . والأمّة بعد - بعد تحصين الجانب الديني والخلقي - ما كان لها إلاّ أن تحتاج لمثل الطب والتجارة والصناعة والفلاحة والاقتصاد والاجتماع والهندسة والقانون... إلاّ أنّ ما به يعبد الله أو يعرف فوق كل اعتبار ، كما يفهم من قوله تعالى:(لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ) وقول النبي صل ى الله عليه وسلم من رواية البخاري :(مَن يُرد به اللهُ خيراً يُفَقّههُ في الدّين) وقد وضع يده الشريفة على رأس ابن عمّه عبد الله بن عباس ، فقال :(اللهمَّ فَقّههُ في الدّين وعَلّمهُ التَّأويلَ) فاستجاب الله دعوته ، فأصبح ابن عباس حبرُ الأمّة الأوحد. والفقه بمعنى الزيادة في الفهم ظاهر وباطن : الفقه الباطني يراد به أصحاب الحقيقة القلبية الباطنيّة ، ويعنيه كتاب أبي الحسن الندوي في معنى التصوف ، تحت عنوان "الفقه الباطني" ويشيرون إليه بالفهم عن الله وبه وأساسه الإلهام ، والفقه الظاهري يراد به فقهاء الصحابة ومن دونهم ، مثل ابن عبّاس ومعاذ بن جبل ، والأئمة المجتهدين ، ويراد به دوليّا فقهاء القانون... والقسمة غيبيّة . وفي ذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم :(إِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ وَاللهُ يُعْطِي) الرسول صلى الله عليه وسلم قاسم على مستوى الظاهر ، والله يعطي من خزائنه على مستوى الحقيقة ، والقسمة ترتبط بالعلم شريعة وحقيقة ، كما ترتبط بغيره.



**   **   **

72 - سورة فاطر : 28   
73 -سورة النحل : 44
74 - سورة المجادلة : 11
75 -سورة آل عمران : 18
76 - سورة الزمر : 9
77 - سورة التوبة : 122




التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق