مخطوطة رسالة في نبذة من التصوف
اسم المؤلف : فضل بن علوي بن محمد بن سهل الحسيني المليباري
مصدر المخطوط : مكتبة جامعة الملك سعود
بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله الذي هدانا للإيمان والإسلام ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد ، هادي الأنام وعلى آله وصحبه وأهل بيته وذريته نجوم الظلام ، أما بعد :
فيا طالبين السعادة والقرب من رب الأرباب ، ويا قارعين في كل وقت لذلك الباب ، اعلموا رحمكم الله تعالى أن المحققين من هذه الطائفة انقرض أكثرهم ولم يبق في زماننا من هذه الطائفة إلا أثرهم ، كما قيل:
أما الخيام فإنها كخيامهم وأرى نساء الحي غير نسائها
حصلت الفترة في هذه الطريقة ، لا، بل إندرست الطريقة بالحقيقة: مضى الشيوخ الذين كان بهم اهتداء ، وقل الشباب الذين كان لهم بسيرتهم وسنتهم اقتداء ، وزال الورع وطوى بساطه ، واشتد الطمع وقوى رباطه . وارتحل عن القلوب حرمة الشريعة ، فعدوا قلة المبالاة بالدين أوثق ذريعة ورفضوا التمييز بين الحلال والحرام . ودانوا بترك الاحترام وطرح الاحتشام ، واستخفوا بأداء العبادات ، وركضوا في ميدان الغفلات ثم لم يرضوا بما تعاطوه من سوء هذه الأفعال ، حتى أشاروا إلى أعلى الحقائق والأحوال، وادعوا أنهم تحروا من رِقِّ الأغلال وتحقَّقوا بحقائق الوِصال .
ولما طال الابتلاء فيما نحن فيه من هذه الخصال علقت هذه الرسالة إليكم وأستعين بالله سبحانه وتعالى فيما أذكره وأستكفيه وأستعظمه من الخطأ فيه فأقول :
إن طريقة أهل الله مبنية على الإيمان بجميع ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم والعمل به بمقتضى ما أمر به ونهى عنه ، وعلى إقامة الدليل على ما وجب به الإيمان من أصل أو فرع والتأدب بآداب الكتاب والسنة وهو شرط الوصول إلى الله تعالى باتفاق العلماء العارفين ، وإن لم يكن كذلك لا يصلح لهذه الطريقة إذ لا يقوى لضعفه وجهله على دفع ما يعرض للمريدين في أثناء سلوكهم وسيرهم إلى الله تعالى من الوساوس الشيطانية ، إلا بملازمة الشيخ المربّي الذي هو كالكبريت الأحمر ، فهو العالم بعلم الشريعة والطريقة والحقيقة ، ومُسلّك المريدين بعد تعليمهم ما أوجب الله عليهم على وفق ما قسّم الله لتلميذه في سابق علمه التي يأمره بها بعد معرفته ومشاهدته تصريف الأقدار في الخلق ، يفعل ما أراد الله تعالى في كل وقت ...
ويليه في المرتبة الشيخ الولي المتصف بعلم الشريعة والطريقة والحقيقة ويليه شيخ التعليم المتصف بعلم الشريعة والطريقة . وأما شيخ التلبيس الجاهل الذي هو رفيق إبليس فادعاءه التسليك معلل بعلل ، منها طلب الجاه وجمع الحطام ، فليخش عليه سوء الختام ، أعادنا الله إياكم من ذلك "وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ" قال الإمام حجة الإسلام رحمه الله : وفرقة من بعض المتلبسين بالصوفيّة ادعت علم المعرفة ومشاهدة الحق ومجاوزة المقامات والأحوال والملازمة في عين الشهود, والوصول إلى القرب, ولا يعرف هذه الأمور إلا بالأسامي والألفاظ, لأنه تلقف من ألفاظهم كلمات, فهو يرددها, ويظن أن ذلك من أعلى علم الأولين والآخرين, فهو ينظر إلى الفقهاء والمفسرين والمحدثين وأصناف العلماء بعين الازدراء, فضلاً عن العوام, حتى إن الفلاح يترك فلاحته, والحائك يترك حياكته ويلازمهم أيامًا معدودة, ويتلقف منهم تلك الكلمات المزيغة, فهو يرددها كأنه يتكلم عن الوحي, ويخبر عن سر الأسرار, ويستحقر بذلك جميع العباد والعلماء, فيقول في العباد إنهم أجراء متعبون, ويقول في العلماء: إنهم بالحديث عن الله محجوبون, ويدعي لنفسه أنه الواصل إلى الحق, وأنه من المقربين, وهو عند الله من الفجار المنافقين, وعند أرباب القلوب من الحمقى الجاهلين, لم يحكم قط علما, ولم يهذب خلقا, ولم يرتب عملا, ولم يراقب قلبا, سوى اتباع الهوى وتلقف الهذيان وحفظه. قال الشعراني : فلعمري أن الكامل في هذا الزمان من حصّل وصْف الإسلام فقط من غير زيادة ولا نقصان فإن سلب الإسلام قد كثر في هذا الزمان نسأل الله العافية .
فإذا كانت هذه رتبة الإسلام عزيزة فكيف برتبة الإيمان وكيف برتبة الولاية فرحم الله امرءاً عرف قدره وأراح الخلق منه . وقال أيضا : المسلم الكامل في هذا الزمان أعزّ من الكبريت الأحمر ولا يكون المسلم مسلماً حتى يسلم لسانه وسمعه وبصره ويده وفرجه ورجلاه وقلبه مما حرّم الله ظاهراً وباطناً . فيا ضعيف العقل لا تدعِّ لنفسك حالاً ولا مقاماً لستَ من أهله فتكون من الكاذبين على ربّ العالمين . وقد قال الله تعالى : "وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ" ، وقال تعالى: "وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ" فاحذر أيها المغرور أن تكون داخلاً في هذا الوعيد الشديد فتكون من الذين بائوا بالخزي والحسرات . فانتبه من غفلتك عما أنت فيه ، من طلب الجاه والعلو يا مسكين لئلا تكون من الذين لا حظاًّ لهم في الدّار الآخرة . قال الله تعالى : "تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ".
واعلم أن معظم علامات الرجال أربع :
الأولى : أن لا يخافوا إلا الله .
الثانية : إخراج محبة الدنيا من قلوبهم .
والثالثة : العمل الصالح .
والرابعة : الاعتناء بالأمر الذي بذلَ فيه الأنبياء والمرسلون أرواحهم وأجسامهم وهو إظهار الشريعة مع الشفقة للأمة لملاحظتهم العمل دون الجزاء لأن الجزاء من جنس العمل ، وغاية إظهارها لا يكون إلا من شخص اتصف بأربع خصال : العقل والعلم والعمل والهمة . فنسأل الرحمن أن يجعل للجميع منها حصّة .