نفحات الطريق

يعنى الموقع بالتأصيل الشرعي للتصوف المقتبس من مشكاة نور النبوة والتعريف بمقامات وأعلام الصوفية. إلى جانب نشر كتب ورسائل عن التصوف.

آخر الأخبار

random
جاري التحميل ...

تاج العروس الحاوي لتهذيب النفوس - 3


الآثار الظاهرة والباطنة للمعصية

واعلم أن المعصية تتضمن : نقض العهد ، وتحليل عقد الوُد ، والإيثار على المولى والطاعة للهوى وخلع جلباب الحياء والمبارزة لله بما لا يرضى ، مع ما في ذلك من :

 الآثار الظاهرة من ظهور الكدورة في الأعضاء والجمود في العين والكسل في الخدمة وترك الحفظ للحُرمة وظهور كسب الشهوات وذهاب بهجة الطاعات .
وأما الآثار الباطنة : فكالقساوة في القلب ، ومعاندة النفس وضيق الصدر بالشهوات وفُقدان حلاوة الطاعات وترادف الأغيار المانعة من بروق شوارق الأنوار ، واستيلاء دولة الهوى إلى غير ذلك من ترادف الارتياب ونسيان المآب وطول الحساب .
ولو لم يكن في المعصية إلا تبدل الإسم لكان ذلك كافيا فإنك إذا كنت طائعا تسمى بالمحسن المقبل وإذا كنت عاصيا انتقل أسمُك إلى المُسئ المُعرض . هذا في انتقال الاسم فكيف بانقال الأثر من تبدل حلاوة الطاعة بحلاوة المعصية ولذاذة الخدمة بلذاذة الشهوة ؟!
هذا في تبدل الأثر فكيف بتبدل الوصف ؟ بعد أن كنت موصوفا عند الله بمحاسن الصفات ينعكس الأمر فتتصف بتبدل المرتبة ؟ فبعد أن كنت عند الله من الصالحين صرت عنده من المفسدين وبعد أن كنت عند الله من المتقين صرت عنده من الخائنين .
فإن كانت الذنوب منفتحة في وجهك فاستغث بالله والجأ إليه واحثُ التراب على رأسك وقُل : اللهم انقلني من ذُل المعصية إلى عز الطاعة . وزُر ضرائح الأولياء والصالحين وقل يا أرحم الراحمين .

أتريد أن تجاهد نفسك وأنت تُقويها بالشهوات حتى تغلبك ألا فقد جهلت.
فالقلب : شجرة تُسقى بماء الطاعة ، وثمراتها مواجيدها .
فالعين : ثمرتها الاعتبار . 
والأُذُنُ : ثمرتها الإستماع للقرآن .
واللسان : ثمرته الذكر .
واليدان والرجلان : ثمرتهما السعي في الخيرات .

فإذا جف القلب سقطت ثمراته فإن أجدَبَ فأَكثِر من الأذكار ، ولا تكن كالعليل يقول : لا أتداوى حتى أجد الشفاء ، فيقال له : لا تجد الشفاء حتى تتداوى ، فالجهاد ليس معه حلاوة وما معه إلا رؤوس الأسنة ، فجاهد نفسك ، هذا هو الجهاد الأكبر واعلم ان الثكلى لا عيد لها ، بل العيد لمن قهر نفسه ، لا عيد إلا لمن جمع شمله .
جاز بعضهم على دير راهب فقال له : يا راهب ، متى عيد هؤلاء القوم ؟  قال : يوم يَغفرُ الله لهم ، ما مثالك مع نفسك إلا كمن وجد زوجته في حانة خمار ، فأتاها بالملابس الحسنة والمآكل الطيبة ، وإذا تركت الصلاة أصبح يُطعمها الهرائس والألوان .

بقي بعضهم أربعين سنة لا يحضر الجماعة لما يشمُ من نتن قلوب الغافلين ، فما أعرفك بمصالح الدنيا،وما أجهلك بمصالح آخرتك، مثال الدنيا عندك كمن خرج إلى الضيعة ، واجتهد فخزن الأقوات ، فأنت قد أتيت بما يعود نفعه عليك في وقته ، وإن خزنت حياتك الشهوات وعقارب المعصية هلكت . كفى بك جهلا أن الناس يخزنون الأقوات لوقت حاجتهم إليها ، وأنت تخزنُ ما يضرك وهي المعاصي ! هل رأيت من يأتي بحيات فيربيها في داره ؟ فها أنت تفعل ذلك .

وأضَرُّ ما يُخاف عليك محقرات الذنوب ، لأن الكبائر ربما استعظمتها فتُبت منها ، واستحقرت الصغائر فلم تتب منها . فمثالك كمن وجد أسدا فخلصه الله منه ، فوجد بعده خمسين ذئبا فغلبوه . قال الله تعالى " وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم " والكبيرة حقيرة في كرم الله ، وإذا السُم يقتل مع صغره . والصغيرة كالشرارة من النار ، والشرارة قد تحرق بلدة .
من أنفق عافيته وصحته في معصية الله ، فمثاله كمن خلف له أبوه ألف دينار ، فاشترى بها حيات وعقارب وجعلها حوله ، تلدغه هذه مرة وتلسعه هذه أخرى ، أفما تقتله ؟! وأنت تمحق الساعات في مخالفته ، فما مثالك إلا كالحدأة تطوف على الجيفة ، حيثما وجدتها انحطت عليها ، فكن كالنحلة ، صغيرٌ جرمُها ، عظيمة همتها ، تجني طيبا وتضع طيبا . طالما تمرغت في مواطن المحت ، فتمرغ في محاب الله عز وجل ، فهذه الحقيقة تُبين طريقك ولكن من أماتته الغفلة لم ترُده النكبات لأن المرأة الناقصة العقل يموت ولدها وهي تضحك ، فكذلك أنت تنكب عن قيام الليل وعن صيام النهار وفي جميع جوارحك ولا تتألم!! وما ذلك إلا لأن الغفلة قد أماتت قلبك ، لأن الحيَ يؤلمه وخزُ الإبرة ، ولو قُطع الميتُ بالسيوف لم يتألم ،فأنت حينئذ ميتُ القلب ، فاجلس مجلس الحكمة ففيه نفحةٌ من نفحات الجنة تجدها في طريقك وفي دارك وفي بيتك ، فلا يفُتك المجلس ولو كنت على معصية ولا تقل: ما الفائدة في حضور المجلس وأنا أعصي ولا أقدر على ترك المعصية ؟ بل على الرامي أن يرمي ، فإن لم يأخذ اليوم يأخذ غدا .

اعلم يا هذا: إياك والمعصية فقد تكون سببا لتوقف الرزق فاطلب من الله التوبة فإن قُبلت وإلا فاستغث بالله وقل :" رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ " ولا تكن كمن أتى عليه أربعون سنة ولم يقرع باب الله قط وأكثر ما يخاف عليك سوء الخاتمة والعياذ بالله تعالى ، بسبب إطفاء جمرة الإيمان بسواد العصيان وهي الذنب حتى يسود القلب من غير توبة .

إياك أن تتهاون في أعمالك وتختار الطيبات لمرحاضك ! واحذر نفسك التي بين جنبيك فهي التي تجلب عليك ثم لا تُفارق صاحبها إلى الممات ، والشيطان يفارق في رمضان لأنه تُغل فيه الشياطين وربما تجد من يقتل فيه ويسرق فهذا من النفس . فإذا مالت إلى المعصية فذكرها بعذاب الله والقطيعة عن الله بسببه ، والعسل المسموم يُترك مع العلم بحلاوته ، لما فيه من وجود الأذى لقوله صلى الله عليه وسلم : الدنيا حلوة خضرة . ويروى أيضا : جيفة قذرة .حلوة خضرة عند أهل الغفلة وجيفة قذرة عند العقلاء ، 
حلوة خضرة عند النفوس ، وجيفة قذرة عند مرايا القلوب ، 
حلوة خضرة للتحذير ، وجيفة قذرة للتنفير .
فلا تخدعنكم بحلاوتها فإن عاقبتها مُرة .
إذا قيل لك : من المؤمن ؟ 
فقل : الذي اطلع على عيب نفسه ولم ينسب أحدا من العباد إلى عيب ،
وإذا قيل لك : من المخذول ؟ فقل : الذي يَنسُبُ العباد إلى العيب ويُبريء نفسه منه .
ومما تمادى عليه أهل الزمان : مُباسطتهم ومؤانستهم للعاصين ولو أنهم عبسوا في وجوههم لكان ذلك زجرا لهم عن المعصية .لو فُتح لك باب الكمال لما رجعت إلى الرذائل ، أرأيت من فُتح له باب القصور هل يرجع إلى المزابل ؟! 
ولو فتح لك باب الأُنس بينك وبينه ما طلبت من تأنس به . لو أختارك لربوبيته ما قطعك عنه.لو كرمت عليه ما رماك لغيره.
وإذا عزل عنك محبة مخلوق فافرح فهذا من عنايته بك ، ولا تكون معصية إلا والذل معها ، أفتعصيه ويُعزك ؟! كلا ! فقد ربط العز مع الطاعة ، والذل مع المعصية فصارت طاعته نورا وعزا وكشف حجاب ، وضدها معصيةٌ وظُلمة وذل وحجاب بينك وبينه ، ولكن ما منعك من الشُهود إلا عدم وقوفك مع الحدود ،واشتغالك بهذا الوجود.
إذا عصى ولدك فأدبه بالشرع ، ولا تقطعه ، بل قابله بالعُبوسة ليكف عن المعصية . وأكثر ما يدخل على المؤمن الخجل إذا كان عاصيا ، فإما أن يفضحوه وإما أن يستهزئوا به ، فإذا فعلوا ذلك فقد أخطئوا الطريق .
إذا عصى المؤمن فقد وقع في ورطة عظيمة ، وطريقه أن تفعل معه كما فعلت مع ولدك إذا عصى ، تُعرض عنه في الظاهر وتكون راحما له في الباطن ، وتطلب له الدعاء بالغيب .

كفى بك جهلا أن تحسد أهل الدنيا على ما أعطُوا ، وتشغل قلبك بما عندهم ، فتكون أجهل منهم ، لأنهم اشتغلوا بما أعطوا واشتغلت أنت بما لم تُعط .ترمد عينك فتعالجها ، وما سبب ذلك إلا أنك ذُقت بها لذة الدنيا ، فتعالجها حتى لا يفوتك النظر إلى مستحسناتها ، وترمد بصيرتك أربعين سنة فلا تعالجها.

واعلم أن عُمرا ضُيع أوله حريٌ أن يُحفظ آخره . كامرأة كان لها عشرة أولاد مات منهم تسعة وبقى واحد ، أليست تَرُدُّ وَجْدَهَا على ذلك الواحد ؟! وأنت قد ضيعت أكثر عُمرك فاحفظ بقيته ، وهي صُبابة يسيرة . والله ما عُمرك من أول وُلدت بل عُمرك من أول يوم عرفت الله تعالى .شتَّانَ بين أهل السعادة وأهل الشقاوة : فأهل السعادة إذا رأوا إنسانا على معصية الله أنكروا عليه الظاهر،ودعوا له في الباطن. وأهل الشقاوة يُنكرون عليه تشفيا فيه ، وربما ثَلَبُوا عليه عِرْضَهُ ، فالمؤمن من كان ناصحا لأخيه في الخلوة ، ساترا له في الجلوة . وأهل الشقاوة بالعكس : إذا رأوا إنسانا على معصية أغلقوا عليه الباب وفضحوه فيها ، فهؤلاء لا تُنور بصائرهم ، وهم عند الله مبعدون، وإذا أردت أن تختبر عقل الرجل فانظر إليه إذا ذكرت له شخصا : فإن وجدته يطوف على محمل سوء حتى يقول لك: خلنا منه ذاك فعل كذا وكذا ! فاعلم أن باطنه خراب وليس فيه معرفة ، وإذا رأيته يذكره بخير ، أو يذكر له ما يوصف بالذم ويحمله على محمل حسن ويقول : لعله سها أو له عذر أو ما أشبه ذلك فأعلم أن باطنه معمور فإن المؤمن يعمل على سلامة عرض أخيه المسلم .



التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق