(لا تَسْتَغْرِبْ وُقُوعَ الأَكْدَارِ، مَا دُمْتَ فِي هَذِهِ الدَّارَ، فَإِنَّهَا مَا أَبْرَزَتْ إِلا مَا هُوَ مُسْتَحَقُّ وَصْفِهَا وَوَاجِبُ نَعْتِهَا فَاحْذَرْهَا)
جعل الله الدنيا دار فتنة وابتلاء ، ليعمل كل أحد فيها على مقتضى ما سبق له ، ويوفى جزاءه في الدار الآخرة ، قال الله تعالى : (وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) وعمل واحد فيها إنما هو مخالفة شهوات نفسه ، أو موافقتها ، وذلك لا محالة ، يستدعى وجود محبوب أو مكروه بفعل أو بترك ، فمن ضروريات الدنيا وجدان المكاره والمشاق فيها ، فتقع الأكدار بسبب ذلك ، وأيضا ، فحاصل الدنيا أمور وهمية انقادت طباع الناس إليها ، وهي لا تفي بجميع مطالبهم لضيقها وقلتها وسرعة تقضيها وتقلبها ، فتجاذبوها بينهم ، فتكدر عيشهم ولم يحصلوا على كلية أغراضهم .
فلا يستغرب وقوع أمثال هذا ، فإنه ما ظهر منها إلا ما هو مستحق وصفها ، وواجب نعتها ، من وجدان المكاره التي هي ذاتية لها .
وفي بعض الحكايات المنقولة عن جعفر الصادق رضي الله عنه أنه قال : "من طلب ما لم يُخْلَقْ له أتعب نفسه ، ولم يُرْزَقْ ، فقيل له : وماذاك ؟ قال : الراحة في الدنيا".
قال بعض البلغاء : ملتمس السلامة - في دار المتالف والمعاطب - كالمتمرغ على مزاحم الحيات ، ومدابّ العقارب . وقال ابن مسعود رضي الله عنه : الدنيا كلها غموم ، فما كان منها في سرور فهو رِبْحٌ .وقال الإمام الجنيد رضي الله عنه : لست أستبشعُ ما يرد علي من العالم ؛ لأني قد أصّلتُ أصلاً ، وهو أنّ الدنيا دار هم وغمٍّ وبلاء وفتنة ، وأنّ العالم كله شرّ ومن حُكمِهِ أن يتلقّاني بكل ما أكره ، فإن تلقّاني بكل ما أحب فهو فضل ، وإلا فالأصل هو الأول . وقال أبو تراب رضي الله عنه : يا أيها الناس أنتم تحبون ثلاثة وليس هي لكم : تحبون النفس وهي لله ، وتحبون الروح والروح لله ، وتحبون المال والمال للورثة ، وتطلبون اثنين ولا تجدونهما : الفرح والراحة وهما في الجنة".
فالواجب على العبد ألا يُوطِّن على الراحة في الدنيا نفسا ، ولا يركن فيها إلى ما يقتضي فرحا وأنسا ، وأن يعمل على قول النبي صلى الله عليه وسلم ، فيما روى عنه أبو هريرة رضي الله عنه : " الدنيا سجن المؤمن " فتوطين العبد على المحن في دنياه يهون عليه ما يلقاه ، ويجد السلوان عند فقدان ما يهواه . فليلتق المريد ما يَردُ عليه من ذلك بالصبر والرضا والاستسلام عند جريان القضاء ، فعن قريب إن شاء الله ينجلي الأمر ويستوجب من الله تعالى جزيل الأجر ، والله تعالى ولي التوفيق .قال أحمد بن أبي الحواري رضي الله عنه : قال أبو سليمان الداراني : جوع قليل ، وعري قليل ، وذلّ قليل ، وصبر قليل ، وقد انقضت عنك أيام الدنيا .
واعلم أن ما ذكرناه من الصبر جماع كل فضيلة ، وملاك كل فائدة جزيلة ، ومكرمة نبيلة ، قال الله تعالى : وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا .
وقال الله تعالى : وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا . وقال عز من قائل : إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ .
وفي وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن عباس رضي الله عنهما : إن استطعت أن تعمل لله بالرضا في اليقين فافعل ، وإن لم تستطع فاصبر ، فإن في الصبر على ما تكره خيرا كثيرا ، واعلم أن النصر مع الصبر ، والفرج مع الكرب ، واليسر مع العسر .وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لرجل : إن صبرت مضى أمر الله ، وكنت مأجورا ، وإن جزعت قضى أمر الله ، وكنت مأزورا .وقال علي رضي الله عنه : الصبر مطية لا تكبو ، وسيف لا ينبو .وقال ابن عباس رضي الله عنهما : أفضل العدّة الصبر عند الشدّة .وفي بعض الأخبار : انتظار الفرج بالصبر عبادة .
فمن جعل الصبر متعمده في نوازله ، واعتده من أعظم عدده ووسائله ، فهو مصيب في رأيه ، منجح في سعيه ، ومن جزع من المصائب واضطرب عند وقوع النوائب كان عاملا فيما يزيده ضرا ، ويكسبه وزرا ، ويفوته أجرا ، وناهيك به خسرا .
غيث المواهب العلية في شرح الحكم العطائية
ابن عباد النفزي الرندي