نفحات الطريق

يعنى الموقع بالتأصيل الشرعي للتصوف المقتبس من مشكاة نور النبوة والتعريف بمقامات وأعلام الصوفية. إلى جانب نشر كتب ورسائل عن التصوف.

آخر الأخبار

random
جاري التحميل ...

معرفة الله تعالى هي غاية المطالب

الإشارة : ما ينزل بالمؤمن من الأوجاع والأسقام والشدائد والنوائب ، في النفس أو في الأهل ، كله رحمة ، عظيمة ، ومنة جسيمة ، ويقاس عليه : مفارقة الأحباب والأوطان ومشاق الأسفار والمتاعب البدنية ، ويسمى عند الصوفية : التعرفات الجلالية؛ لأن الله تعالى يتعرف إليهم بها؛ ليعرفوه عيانا ، ولذلك تجدهم يفرحون بها ، وينبسطون عند ورودها؛ لما يتنسمون فيها ، ويجدون بعدها ، من مزيد الاقتراب وكشف الحجاب ، وطي مسافة البعد بينهم وبين رب الأرباب ، فهم يؤثرونها على الأعمال الظاهرة؛ لما يتحققون بها من وجود الأعمال الباطنية؛ كالصبر والزهد والرضا والتسليم ، وما ينشأ عنها ، عند ترقيق البشرية ، من تشحيذ الفكرة والنظرة ، وغير ذلك من أعمال القلوب .

وفي الحكم : « إذا فتح لك وجهة من التعرف ، فلا تبالي معها إن قل عملك؛ فإنه ما فتحها لك إلا وهو يريد أن يتعرف إليك منها ، ألم تعلم أن التعرف هو مورده عليك ، والأعمال أنت مهديها إليه ، وأين ما تهديه إليه مما هو مورده عليك؟ » . قال الشيخ ابن عباد رضي الله عنه : معرفة الله تعالى هي غاية المطالب ، ونهاية الأماني والمآرب ، فإذا واجه الله عبده ببعض أسبابها ، وفتح له باب التعرف له منها ، فذلك من النعم الجزيلة عليه ، فينبغي ألا يكترث بما يفوته بسبب ذلك من أعمال البر ، وما يترتب عليها من جزيل الأجر ، وليعلم أنه سلك به مسلك الخاصة المقربين ، المؤدي إلى حقائق التوحيد واليقين ، من غير اكتساب من العبد ولا تعمل ، والأعمال التي من شأنها أن يتلبس بها هي باكتسابه وتعمله ، وقد لا يسلم من دخول الآفات عليها ، والمطالبة بوجود الإخلاص فيها ، وقد لا يحصل له ما أمله من الثواب عند مناقشة الحساب ، وأين أحدهما من الآخرة.

ومثاله : ما يصاب به الإنسان من البلايا والشدائد التي تنغص عليه لذات الدنيا ، وتمنعه من كثير من أعمال البر ، فإن مراد العبد أن يستمر بقاؤه في الدنيا ، طيب العيش ناعم البال ، ويكون حاله في طلب سعادة الاخرة حال المترفين؛ فلا تسخو نفسه إلا بالأعمال الظاهرة ، التي لا كثير مؤنة عليه فيها ولا مشقة ، ولا تقطع عنه لذة ، ولا يفوته شهوة ، ومراد الله منه أن يطهره من أخلاقه اللئيمة ، ويحول بينه وبين صفاته الذميمة ، ويخرجه من أسر وجوده إلى متسع شهوده ، ولا سبيل إلى الوصول إلى هذا المقام على غاية الكمال والتمام ، إلا بما يضاد مراده ، ويشوش عليه معتاده ، وتكون حاله حينئذ المعاملة بالباطن ، ولا مناسبة بينها وبين الأعمال الظاهرة ، فإذا فهم هذا علم أن اختيار الله له ، ومراده منه ، خير من اختياره لنفسه ومراده لها .

وقد روي أن الله تعالى أوحى إلى بعض أنبيائه : « إني إذا أنزلت بعبدي بلائي ، فدعاني ، فماطلته بالإجابة ، فشكاني ، قلت : عبدي كيف أرحمك من شيء به أرحمك » ؟ وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « قال الله تعالى : إذا ابتليت عبدي المؤمن فلم يشكني إلى عواده ، أنشطته من عقالي ، وبدلته لحما خيرا من لحمه ، ودما خيرا من دمه ، ويستأنف العمل ».

ثم نقل عن أبي العباس ابن العريف رضي الله عنه قال : { كان رجل بالمغرب يدعى أبا الخيار ، وقد عم جسده الجذام ، ورائحة المسك توجد منه على مسافة بعيدة ، لقيه بعض الناس ، فقال له : يا سيدي كأن الله تعالى لم يجد للبلاء محلا من أعدائه حتى أنزله بكم ، وأنتم خاصة أوليائه!! فقال لي : اسكت ، لا تقل ذلك؛ لأنا لما أشرفنا على خزائن العطاء ، لم نجد عند الله أشرف ولا أقرب من البلاء ، فسألناه إياه ، وكيف بك لو رأيت سيد الزهاد ، وقطب العباد ، وإمام الأولياء والأوتاد ، في غار بأرض طرطوس وجبالها ، ولحمه يتناثر ، وجلده يسيل قيحا وصديدا ، وقد أحاط به الذباب والنمل ، فإذا كان الليل لم يقنع بذكر الله وشكره على ما أعطاه من الرحمة ، حتى يشد نفسه بالحديد ، ويستقبل القبلة عامة ليله حتى يطلع الفجر } .

وقد تكلم الصوفية في قول أيوب عليه السلام : { مَسَّنِيَ الضُّرُّ } ؛ هل شكى ضرر جسمه ، أو ضرر قلبه من جهة دينه ؟ قال بعضهم : قيل : إنه أراد النهوض إلى الصلاة فلم يستطع ، فقال : { مَسَّنِيَ الضُّرُّ } ، وقيل : إنه أكل الدود جميع جسده ، حتى بقي عظاما ، فلما قصد الدود قلبه ولسانه غار على قلبه؛ لأنه موضع المعرفة والتوحيد ، والنبوة والولاية ، وأسرار الله تعالى ، وخاف انقطاع الذكر ، فقال : { مَسَّنِيَ الضُّرُّ } ، وقيل : خاف تبدد همه وتفرق قلبه ، وليس في العقوبة شيء أشد من تبدد الهم ، فتارة يقول : لعلي ببلائي معاقب ، وتارة يقول : بضري مستدرج ، فلما خاف تشتيت خاطره عليه ، قال : { مَسَّنِيَ الضُّرُّ } .

قلت : هذا المقام لا يليق بالأنبياء ، وإنما يجوز على غيرهم؛ إذ الأولياء يترقون عن هذا المقام فكيف بالأنبياء! وقال بعضهم : قال : مسني الضر من شماتة الأعداء ، واقتصر عليه ابن جزي ، وفيه شيء؛ إذ كثير من الأولياء سقط الناس من عينهم ، فلا يبالون بخيرهم ولا شرهم ، ولا مدحهم ولا ذمهم ، فكيف بالأنبياء - عليهم السلام -؟!

وقال القشيري : « كان ذلك منه إظهارا للعجز ، لا اعتراضا ، فلا ينافي الصبر ، مع ما فيه من التنفيس عن الضعفاء من الأمة ، ليكون أسوة . وقال : إن جبريل أمره بذلك ، وقال له : إن الله يغضب إن لم يسأل ، وسيان عنده البلاء والعافية ، فسله العافية .
يقال : إن أيوب كان مكاشفا بالحقيقة ، مأخوذا عنه ، وكان لا يحس بالبلاء ، فستر عليه ، فرده إليه ، فقال : مسني الضر ، وقيل : أدخل على أيوب تلك الحالة ، فاستخرج منه تلك المقالة؛ ليظهر عليه سمة العبودية .

وقال الورتجبي : سئل الجنيد عن قوله : {مَسَّنِيَ الضُّرُّ } ، فقال عرفه فاقة السؤال ، ليمن عليه بكرم النوال ، وفي الحديث المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم : أنه جاء إليه رجل فسأله عن قول أيوب { مَسَّنِيَ الضُّرُّ } فبكى - عليه الصلاة والسلام - وقال : والذي بعثني بالحق نبيا ما شكى فقرا نزل من ربه ، ولكن كان في بلائه سبع سنين وسبعة أشهر وسبعة أيام وسبع ساعات ، فلما كان في بعض الساعات وثب ليصلي ، فلم يستطع النهوض ، فقال : { مَسَّنِيَ الضُّرُّ } الخ . ثم قال : - عليه الصلاة والسلام - : أكل الدود عامة جسده حتى بقي عظاما نخرة ، فكادت الشمس تطلع من قبله وتخرج من دبره ، وما بقي إلا قلبه ولسانه ، وكان قلبه لا يخلو من ذكر الله ، ولسانه لا يخلو من ثنائه على ربه ، فلما أحب الله له الفرج ، بعث إليه الدودتين؛ إحداهما إلى لسانه والأخرى إلى قلبه ، فقال : يا رب ما بقي إلا هاتان الجارحتان ، أذكرك بهما ، فأقبلت هاتان الدودتان إليهما ليشغلاني عنك ويطلعان على سري ، مسني الضر وأنت أرحم الراحمين .


**      **      **
تفسير البحر المديد
في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق