آخر الأخبار

جاري التحميل ...

كتاب : الحقيقة القلبية الصوفية / أحمد لسان الحق (30).

وفي موضوع الواسطة المعنويّة، كسبب الهداية، يروي البخاري ومسلم أنّ الرسول صلى الله عليه وسلّم قال في غزوة خيبر : (سَأُعْطِي الرَّايَةَ غَداً رَجُلاً يُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ، وَيُحِبَّانِهِ) فأعطاها عليا بن أبي طالب. وقد خاطبه بقوله :( انْفُذْ عَلَى رِسْلِكَ حَتَّى تَنْزِلَ بِسَاحَتِهِمْ ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الإِسْلامِ ، وَأَخْبِرْهُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ حَقِّ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَوَاللَّهِ لأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلا وَاحِدًا ، خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ تَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ ) (121) فاجتمعت الدعوة مع الهداية، وحُمر النعم أحبّ شيء إلى العرب.

وفي قول الرسول صلى الله عليه وسلم :(أَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلا وَاحِدًا) ردّ مباشر على من يرفُض، أو يجهل الواسطة المعنويّة، التي تعتبر من أسباب الهداية، ويعارض أصحاب الحقيقة الصوفيّة، في وسائل التربيّة الروحيّة، وطهارة القلب، وصفاء السريرة، بغيةَ تصحيح العقيدة والإيمان.. وهو ما يتوقّف على هداية الله لعباده. وهي من مهمّة الأديان السماويّة، والمسؤوليّة المباشرة للمرسلين. ومن أسقطها أسقط أسباب الهداية في أصلها. حيث الله يهدي الخلق بصالحي عباده. إنّما لا يهدون بأنفسهم وبإرادتهم البشريّة. وإنما الله هو الذي يجعلهم بمحض إرادته وسائل مسخّرة بيد قدرته. يُجري على يدهم هداية خلقه، كسبب لا كحقيقة، كما تجلّى في قول الرسول صلى الله عليه وسلم : (فَوَاللَّهِ لأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ) بالباء السببيّة. وقد خاطب الله فيها نبيّه بقوله :(وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) (122) فهو الهادي كسبب لكن لا يضمنها حتى لبِنْتِه فاطمة، التي من أحبّ الناس إليه.وقد خاطب بقوله : (خُدي مِنْ مالِي مَا شِئْتِ لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللهِ شَيْئاً) كيف لا، وهو القائل في رواية البخاري :(لَنْ يَنْفَعَ أَحَدَكُمْ عَمَلُهُ) قَالُوا : وَلاَ أَنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ ؟ قالَ :(وَلاَ أَنَا إِلاَّ أَنْ يَتَغَمَّدَنِيَ اللهُ بِرَحْمَتةٍ).

ذلك أن الهادي على الحقيقة هو الله. وقد خاطبه في عدم هداية عمّه أبي طالب، الذي ربّاه في الصِّغر، ودافع عنه في الكِبر. وهو يقول - في حالة احتضاره - : (يا عمّ قُلْ : لاَ إِلاَهَ إِلاَّ اللهُ أَتَشَفَّعُ لَكَ بِهَا عِنْدَ رَبِّي) فنزل قوله تعالى :(إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ) (123) الربّ هو الربُّ، والعبد في أي مقام لا يعدو أن يَكون عبداً (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ) (124) (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ) (125) والعبودية لله مَكرمة، وللبشر مذلّة. وتحقيقها لله تعني الانعتاق، والتحرّر من أنّ عبوديّة أرضيّة، وهي الباب الوحيد المفتوح نحو الوصول إلى النبوّة، والرّسالة السماويّة، والولاية والمعرفة الربانيّة، وكلّ فضل وكرم إلهيّ... وتعني الخضوع القلبيّ والتعلّق الباطني بالشعور والوجدان. وقد قال تعالى في الحديث القدسيّ المشهور :(أَنَا مَعَ عَبْدِي، إِذَا ذَكَرَنِي إلخ) إنّه مع عبده، الخاضع لعظمته وجلاله، وليس مع عبد نفسه، الخاضع لأهوائها، وما تُصدر من اوامر. وهي بطبيعتها، كما قال تعالى :(إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي) (126) والعبد لها لا يكون عبدا خاضعا لله وحده بالقلب والقالب.

وجماع الأمر كلّه في هداية الله لعبده.. والهداية ليست في أن تعرف مصدرها، وتعتقد بوجودها، وإنما في أن تشعر أنّك مهتد، كما أن التوحيد ليس في إقامة الدليل على وجود الله. والدليل يقام عند الشّك في الموجود تعالى ذاتاً وصفات عن أن يكون غائباً، فيُبحث عنه بوسائل من صنعه، أو يحتاج وجوده إلى إثبات بأدلّة وحجج من خلقه. وقد سمعنا ونحن طلبة، أثناء دراسة التوحيد من يردِّد :"البَعرة تدلُّ على البعير، والكون يدلُّ على الله" ما هذا القول ؟ وهل مَن لا يزال في حاجة إلى إقناعه بالبَعرة تدلُّ على البعيرن، والكون يدلُّ على الله مؤمن حقا ؟ إن الكون حادث، والله قديم. فهل يستدلّ بالحادث على القديم، أو بالقديم على الحادث ؟ وإن شئت ليس التوحيد الخالص أن تستدلّ بالمخلوق على الخالق، وبالموجود على المُوجد. وإنما في أن تعرف الخالق، وتستدلّ به على وجود سرّه في الموجود، وتقرأ في حكمته في المخلوق. كيف يستدلّ على وجود الحيّ القيّوم الدائم بوجود آثاره، التي تزول، ولا يستدلّ لمصدر الآثار على وجود الحيّ القيّوم، الكائن قبل إيجادهان والباقي بعد زوالها ؟ إن الآيات الكونيّة دالة بذاتها على وجوده، وناطقة بحكمته ووحدته، دون جعلها حججاً ومستندات.

وفي كُلِّ شَيْئٍ لَهُ آيَةٌ          تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ الْوَاحِدُ

على أنّ الدلائل والبراهين المنطقيّة الاقناعيّة، لا يقيمها إلاّ المعاندون، أو المتشكّكون، أو ضَعَفة الإيمان. وأمّا الإيمان الحقيقيّ. ففي أن تشعر أنّك في مواجهته، وأنّ وجوده معك بمثابة ظلّك في الشمس. لا يفارقك ( وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ ) (127) فتستحضر عظمته ومراقبته لحظة بلحظة، كما هو شأن العارفين.

والمراقبة الباطنيّة هي الوقاية من المخالفات، إذ لا يرتكبها إلاّ الغافلون عنه تعالى.. فالتوحيد بحر من المعاني، والموحّد هو الذي يصف البحر من البرّ، والعارف بالله هو الذي يعوم بداخله. وهو ما يعرف بالفرق بين الشريعة والحقيقة، أو بين العموميّة والخصوصيّة.

**    **    **
121 - البخاري : نسخة الفتح 72/8
122 - سورة الشورى : 52
123 - سورة القصص : 56
124 - سورة الإسراء : 1
125 - سورة الفرقان : 1
126 - سورة يوسف : 53
127 - سورة الحديد : 4

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق الصوفية