تخيرك الله من آدم فما زلت منحدراً ترتقي
وأظهرك الله من طيب إلى صلب كل أب متقي
وأمُّه صلى الله عليه وسلم آمنةُ بنتُ وهب بن عبد مناف بن زهرة رضي الله عنها. وقال صلى الله عليه وسلم : (إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل واصطفى من ولد إسماعيل كنانة واصطفى من كنانة قريشاً واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم) وحملت به أمُّه صلى الله عليه وسلم في شهر رجب يوم الإثنين وكانت تقول: (ما شعرتُ أنِّي حملت به ولا وجدت له ثقَلاً كما تجد النساء إلا أني أنكرت رفع حيضتي) وقيل إنه صلى الله عليه وسلم لم يتغذ من دم الحيض كما يتغذى الأولاد، بل كان غذاؤه لطائف الأمداد، ولهذا ولد صلى الله عليه وسلم مقطوع السُّرة، وذلك محل نفوذ الغذاء إلى الجنين، إذ هو صلى الله عليه وسلم روحٌ شريف، وجسم لطيف، ألطف أرواح المؤمنين، فلهذا أُسريَ بجَسدِه الشريف، حيث لا حيث ولا أين، واختصَّ بشهود العين، ولما أراد الله ظهور نوره نودي في السموات والأرض، نودي بأن النور المكنون الذي يكون منه النبي الهادي، في هذه الليلة يستقرُّ في بطن أمه الذي يخرج إلى الناس بشيراً ونذيراً، وحين أراد الله سبحانه، إبراز الجوهرة المكنونة، من صدفة آمنة المصونة، حضرها في تلك الليلة الراجحة على جميع الأزمان، آسية امرأة فرعون ومريم ابنة عمران، وبعض من حور تلك الجنان، لظهور عالي القدر والشان، وأخذها المخاض فولدت سيد الإنس والجان.
محل القيام
وولد صلى الله عليه وسلم يوم الإثنين في شهر ربيع الأول ليلة الثاني عشر منه، ووقع حين ولدته أمه معتمداً على يديه رافعاً رأسه إلى السماء، نظيفاً طيباً ما به من دم ولا أذى كما يولد الأولاد، ودنت نجوم السماء حتى كادت تقع على الأرض، مستمدة من نوره الوضاح طه، الذي ملأ البطاح، وولد صلى الله عليه وسلم مختوناً مقطوع السّرة مدهوناً، فعزّت العرب بظهوره وكانت قبل ذلك تحت حكم العجم، ونُكِّست الأصنام في سائر الأرض، ومُنعت الشياطين من استراق السمع، لأنه صلى الله عليه وسلم نور الهدى، ومصباح الدجى، والمسموك لأجله الأرض والسماء.
ظهر الحبيب فكان أول من ظهر وبدا على الأكوان نوراً وانتشر
وعليه من سرّ الجلال مهابة وجمال إبداع بصورته ظهر
ظهر الوجودُ به على إطلاقه فهو الضياء لكل شخص في البصر
أعني بذلك حضرة القدس الذي سماه رب العرش أحمد في السور
وجلا به عنا ظلام بطوننا وبه ظهرنا بالمعاني والصور
حمداً لولانا الكريم إلهنا بوجوده أعني بذاك أبا البشر
محمود حمد محمد في مدحه يفنى الزمان وفيه ما لا يُدَّكر
صلى عليه الله والصحب الذي أعناقهم مثل اللآلي والدرر
اللهم صل وسلّم على الذّات المقدّسة الهاشمية، صلاة تتوالى دائما على ممرّ الليالي والأيّام، وأحسن إلينا بجاهه الختام يا رحمن.
ولما ولد صلى الله عليه وسلم أرضعته أمه سبعة أيام، فأكملت له دائرة التمام، ثم أرضعته مولاةٌ لعمه أبي لهبٍ اسمُها ثُوَيْبة، لتحققها بالمثوبة، ثم استرضعت له حليمة بنت أبي ذُؤَيْبٍ وكانت من كرام قومها، وخيارهم، وذاك لتحققها بالحلم والكرم، فمنع الله جميع من وصل معها للرضاعة، وخصّها له للمناسبة والنفاعة، فأخذته وما في ثديها شيء من اللبن، فأوجد الله فيه من الخير والبركة ما لم تكن تعهده قبل ذلك الزمن، فرضع ورضع أخوه معه، وبارك الله في أرضها وغنمها، حتى غَبَطها سائر قومَها، وعلمت فضلَه عليها، وكان أعزّ عندها من ولدها وأبويها، فبلغ عندها سنتين حتى صار غلاماً مباركاً إلّا أن نشأته كليّة، وغذاؤه بالمواهب الإلهية، وجمع الله فيه قوّى العالَم كله بالكلية، روي أنه صلى الله عليه وسلم قال له رجل: كيف كانت أول نشأتك يا رسول الله؟ قال كانت حاضنتي من بني سعد بن بكر، فانطلقتُ أنا وابن لها في بَهْمٍ لنا، ولم نأخذ معنا زاداً، فقلت: يا أخي، اذهب ائتنا بزاد من عند أمّنا، فانطلق أخي ومكثت عند البَهْم، فأقبل طائران أبيضان، كأنهما نَسْران، فقال أحدهما لصاحبه: هو هو، قال: نعم، فأقبلا يبتدران إلي، فأخذاني وبطحاني، أي: أضجعاني للقفا، فشقا بطني، ثم استخرجا قلبي، وأخرجا منه علقتين سَوْدَاوَين، فقال أحدهما للآخر: ائتني بماء الثلج، فغسل به جَوفي، وقال: ائتني بماء البرَد، فغسل به قلبي، ثم قال: ائتني بالسكينة، فجعلها في قلبي، ثم ختم عليه بخاتم النبوة، ثم قال لصاحبه: اجعله في كفّة، ثم اجعل ألفاً من أمّته في كفّة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فإذا أنا أنظر إلى الألف أشفق أن يخرّ عليّ بعضهم، فقال: لو أن أمّته وُزنت به لمالَ بهم، فَفَرَقْتُ فَرَقًاً شديداً، ثم انطلقت إلى أمي فأخبرتُها بالذي لقيت، فأشفَقت أن يكون بي بأسٌ، فقالت: أعيذك بالله، فرحلت بعيراً لها، فجعلتني على الرحل وركِبَتْ خلفي، حتى بلغنا إلى أمّي فأخبرتها بالذي لقيتُ، فلم يَرعها ذاك، وقالت إني رأيت حين خرج مني نوراً أضاءت له قصورُ بُصْرى والشام، وكان يُرَى أثر المخيط في صدره عليه الصلاة والسلام.
إنّما جُعل راعياً للأغنام، قبل درك الأحلام، تنبيهاً على أنه الرّاعي الأعظم، المتصرِّف والمُسْتَخلَف على تدبير العالَم، أما ترى أنه قد شُفِّعَ في الأزل، حتى عُفِيَ عن آدم، وسيشفع في الآخرة لأولاده بالخلاص من جهنم. كُلٌّ يقول نفسي نفسي خوفاً عليها من الأمر المُبْرَم، لكنّما الراعي الأعظم يقول: أمتي أمتي، لأنه راعيهم، وكل راع مسؤول عن رعيته، فإن رعاها حق الرعاية، وأمدها بالكفاية، فله مثل أجورهم وزيادة، إلى ما لا نهاية.
اللهم صل وسلّم على الذّات المقدّسة الهاشمية، صلاة تتوالى دائما على ممرّ الليالي والأيّام، وأحسن إلينا بجاهه الختام يا رحمن.
ولما بلغ صلى الله عليه وسلم سبع سنين ماتت أمُّه ومات أبوه، وهو حمل كل ذلك لتحقق الكفالة الإلهية له، وتجرده عن الوسائط الكونية، فأخذه جدّه عبد المطلب إليه وأكرمه وأعزّه على جميع أولاده، لسر قد بشَرَه به علماء زمانه. ولما قارب البلوغ، خرج مع عمّه أبو طالب إلى الشام، فرأته رهبانُ النصارى فأقرّوا له بالنبوة، واعترفوا بفضله، وقالوا هذا سيد المرسلين، هذا يبعثه الله رحمة للعالمين. افتتح سفره إلى الشام لسرّ الفتح الكامل التام، وتشرفت تلك البقاع الإنسية، بمروره عليها بالصورة القدسية، سافر من الحضرة الجَمعية المكية، إلى أرض شام النفوس الطاهرة الزكية، فأُمدّها بأنواع المعارف الإلهية، لأنه سافر بتجارة الكمال الإلهي، فأثره بشهود نفود حقائق الجمال الرباني، وتحقق بمعاني تجليات جلاله الوحداني.
أهدت إليك جمالها الحسناء ليزين ذاك الحسن منك جلاء
فاستجلِ حسناً فائقاً ما فوقه للناظرين محاسن وبهاء
ثم تزوج صلى الله عليه وسلم خديجة بعد رجوع من الشام وعمره يومئذ خمسة وعشرون سنة ، ولما بلغ أربعين سنة جاءه جبريل عليه السلام بغار حِرَاء، أياماً متوالية، حتى قالت قريش إن محمداً يعشق ربه. ما تخلى صلى الله عليه وسلم في غار حراء عن سائر الورى إلا لعلمه بأن الحبيب غيور، لا يسكن قلباً فيه للغير عبور، الوحشة من الخلق دأب المستأنسين بالحق، والانفراد في البراري والكهوف والقفار، علامة كل واله بالحبيب مشغوف لا يقر له قرار.
الشغل بالمحبوب شغلٌ شاغل لم يتسع قلب المحب لغيره
والحِبُّ يحفظ قلب من يختاره ويكون ساكنه ومالك أمره
وما ارتاض سيد الأنام في غار حراء من البلد الحرام بترك الطعام إلا لأنه سيد الأنام، وأنه سلك النظام، والنسخة الكاملة على التمام، والمتلقي أسرار الكرام، ولو كانت الممالك لا تنال بدون المهالك، لما شج سيد المرسلين وكسرت رباعيته، هذا وهو نبي وآدم بين الماء والطين، ولما كانت المعارف لا تنال إلا بالجد والاجتهاد في حصول المراد، وإلا لما شد لشدة الجوع بطنه سيد العباد صلى الله عليه وسلم
دعني أسير على الجفون مهرولا نحو الحبيب ولو على الأرماح
لا خير فيمن ينتهي عن حبه خوف الملام وخشية الإفصاح
لو كان بيني والحبيب جهنم لولجتها بالروح والأشباح
أو كان من أهواه في أفق السما لأطير لو قص الغرام جناحي
لا صبر لي عمن هويت ولم أزل أدنو إليه عشيتي وصباحي
اللهم صل وسلّم على الذّات المقدّسة الهاشمية، صلاة تتوالى دائما على ممرّ الليالي والأيّام، وأحسن إلينا بجاهه الختام يا رحمن.
ولم يزل صلى الله عليه وسلم تُلقى إليه الكلمات الإلهية بواسطة الأمين، وهو يدعو الناس إلى الدين القويم، ومعه أبو بكر الصديق رضي الله عنه، الذي أثنى عليه تعالى بقوله: (ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا) وقال صلى الله عليه وسلم: (ما فَضَلكم أبو بكر بكثرة صيام ولا سهر ولكن بشيء وقَرَ في صدره) ولم يزل الإيمان ينبسط ويظهر، إلى أن آن أوانُ الهجرة، وتحققُ ظهور النصرة، فأذن صلى الله عليه وسلم لأصحابه بالهجرة إلى المدينة، فهاجروا ولم يبق معه إلا أبو بكر الصديق وعليّ بن أبي طالب رضي الله عنهما.
سافر فقد ملك الوجود مسافر نحو الأحبة فالوجود مسافر
ما في الأحبة واقف في منزل كل على نهج الترقي سائر
يجري على حسب الإرادة أمره وفقاً لأمر يقتضيه الآمر
هذا يسير إلى الجمال منعماً في سيره وله ترق ظاهر
ويسير آخر للجلال متعباً يخفى ترقيه لمن هو ماهر
كل يسير إلى العلا مترقياً في منهج أجراه فيه القادر
اللهم صل وسلّم على الذّات المقدّسة الهاشمية، صلاة تتوالى دائما على ممرّ الليالي والأيّام، وأحسن إلينا بجاهه الختام يا رحمن.
فلنرفع أكف الافتقار إلى الملك العزيز الغفار فنقول اللهم إنا نسألك ونتوسل إليك بحضرة كمال وجودك وحقيقة جمال شهودك، وبجمعيّتك أسماء تجلّيات صفات أفعال فعلك الظّاهر بِحُبُوَّتِكَ بالسرّ القائمُ بحقيقة العبودية، المخصوص بإطلاق الحريّة الذي أطلَقتَ فيه أنوار شهودك، والذي أظهَرْتَه بحقيقة التوحيد لسعادة العبيد فظهر بلا إله إلّا الله أعْلا وجودك أن تصلي على سيدنا محمد كامل الأخلاق والمتحقّق بحقيقة التوحيد على الإطلاق، وأن تجعلنا ممن فاز بقربه، في حضرة قدس ربّه، والتفّت ساقه بالسّاق، وأن تحفظنا من الميل إلى غيرك يا واحد يا خلّاق، وأن لا تجعل الدنيا أكبر همّنا ولا مبلغ علمنا، وأن تحفظنا من بين أيدينا ومِن خلفنان وعن أيماننا وعن شمائلنا ولا تسلّط علينا مَن لا يرحمنا، ممن ليس له خَلاق، وأن تمتعنا بأسماعنا وأبصارنا وعقولنا ما دامت المهلَةُ في دار الانطلاق. فسبحان من هو قريب مجيب، يجيب دعوة الداع إذا دعاه. وحسبنا الله ونعم الوكيل. ولا حول ولا قوة إلا بالله العليّ العظيم.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم بدوام الله الملك الكريم. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين غفر الله لكتابها وقاريها وسامعها والمسلمين أجمعين.
السابق التالي
السابق التالي