آخر الأخبار

جاري التحميل ...

الـبـيــان والـتـأويـل الصـوفـي



الفصل الأول :الـــبـــيـــان الصــوفــي


1 ـ الرؤية الوجودية عند الصوفية


تتأسس الرؤية الصوفية للوجود (وهي غير التصور العقلي لهذا الوجود) على أنه مكون من ثلاثة موجودات هي: العالم والقرآن والإنسان. ولهذه الموجودات خاصيتان: الأولى أنها متناظرة فيما بينها بحيث إن كلا منها صورة للآخر حسب صيغته الخاصة، والثانية أن كلاً من هذه الموجودات خطاب إلهي، والمقصود بهذا الخطاب هو الإنسان بالذات على اعتبار أن له خصوصيتين، أولاهما: أنه "الكلمة" الإلهية الجامعة لمعاني الخطابين الآخرين (العالم والقرآن)، وثانيتهما أنه مزود باستعداد خاص لتحصيل (أو تبيّن) معاني هذين الخطابين ثم توصيل (أو تبيان) هذه المعاني إلى غيره.

ونطلق على الوظائف المعرفية المشتركة بين العالم والقرآن والإنسان مصطلح "البيان". فالعالم بيان بمعنى أنه رسالة علامية مقصودة يمكن للإنسان أن يتبين بعضاً من مقاصدها. والقرآن بيان مقالي إذ هو الرسالة الإلهية المخاطبة لكل كيان الإنسان؛ أما بيانية الإنسان فهي مؤسسة على ما خــُص به من وظيفتي التحصيل والتوصيل، ونسمي الأولى وظيفة "التبيّن" والثانية وظيفة "التبيان" اشتقاقاً من البيان.

- وظيفة التبيّن : وهي متوجهة إلى تحصيل الإدراك واكتشاف الموجودات والإحساس بها، وذلك عبر التجارب الحسية والذهنية والوجدانية، وعامة الناس يتعاملون مع الموجودات على أنها مواضيع خارجية منفصلة لا يربطهم بها إلا ما يحسون منها، في حين أن الصوفي يتعامل معها على أنها خطابات إلهية مقصودة تتنوع وتتفاوت بحسب استعداده لتلقيها .

- وظيفة التبيان : وهي متوجهة إلى توصيل نتائج التجارب السابقة إلى الغير عن طريق وسائل التعبير المتاحة للإنسان وأشملها الكلام .

ونعرض فيما يلي بايجاز رؤية الصوفية لكل موجود من هذه الموجودات الثلاثة:

1.1ـ بيان العالم 

عند الصوفية عامة أن ما سوى الله من الموجودات بكل مراتبها حديث الظهور وهو في علم الله قديم البطون . ومن ثم فإن تلك الموجودات لها وجود ظاهر هو صورها في الأعيان الظاهرة ووجود باطن هو معاني الألوهية الباطنة في تلك الصور، فالوجود الأول هو بمثابة جسم لا يقوم إلا بالوجود الثاني الذي هو روحه . وفي اعتبارهم أن الإيجاد الإلهي مستمر على الدوام، كما أن الإمداد الرباني لا ينقطع عن الموجودات الممكنة لأنها جميعاً (صورة ومعنى) "كلمات الله" التي لا تنفد،على أن الكلمة كما في اللغة تشمل اللفظ الظاهر والمعنى الباطن، فالموجودات كلمات ناطقة وإن لم يسمعها عامة الناس، إذ ليس في الوجود صامت أصلاً بل الكل بحكم الكشف الصوفي ناطق بالثناء على الله حقيقة، غير أن الموجودات ليست ناطقة بذاتها وإنما من حيث هي مظهر للمتكلم فيها ، وعلى ذلك فالعالم عند الصوفية "مصحف" كبير يحتوي حروفاً «مرقومة في رق الوجود المنشور ولا تزال الكتابة فيه دائمة أبداً لاتنتهي» وليست تلك الكلمات مرقومة لذاتها وإنما هي رسائل موجهة إلى الإنسان «يتلوها الحق علينا تلاوة حال» .

ولما كانت الغاية من إظهار الحق للخلق أن يعرفوه رحمة بهم ومحبة لهم، فقد جعل لهم سبحانه ﴿السمع والأبصار والأفئدة﴾ وهيأهم لسماع كلماته وشهود آياته وفهم أسراره، ومن ثم غدت جميع الأعيان الظاهرة بالنسبة للإنسان شواهد دالة على الغيوب الباطنة ، وهذا ما قصدنا إليه حينما اعتبرنا أن العالم بيان.

وتتفاوت بيانية العالم بتفاوت طبقاته أو مراتبه، وقد قسم الصوفية هذه الطبقات إلى ثلاث هي:
أ ـ عالم الملك (أو عالم الشهادة): وهو ما ظهر من حسن الكائنات، ويدرك بالحس والوهم.
ب ـ عالم الملكوت (أو عالم الغيب): وهو ما بطن في العالم من اسرار المعاني، ويدرك بالعلم والذوق.
ج ـ عالم الجبروت: وهو عالم العظمة أو «البحر المحيط الذي تدفق عنه الحس والمعنى... ويدرك بالكشف والوجدان» .

الخطاب الصوفي بين التأول والتأويل
المؤلف: د. محمد المصطفى عزام

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق الصوفية