فتلك إشارات من ظاهرها تحكم بنسبة البسطامي إلى التصوف الهندي مباشرة، لكننا قبل تفنيد هذا الحكم علينا أن نتوقف أولا عند توضيح هذه الإشارات التي وردت فيها كلمة الزُّنّار وأراد أبو يزيد أن يقطعه، ثم نعرج ثانياً على منهج الأشباه والنظائر فيما يبدو من شكلية الأخد به، حين تتشابه عبارات البسطامي مع المصدر الهندي في التصوف. فأما النقطة الأولى التي نودُّ الوقوف عندها؛ فهي أن المرحوم الدكتور أبا العلا عفيفي رأى أن "الزنار" الذي عمل أبو يزيد البسطامي على قطعه من قلبه هو صلته بهذا العالم. والعمل على قطعه هو المجاهدة. ورؤيته الناس موتى بعد أن كشف له، معناه تخلصه التام من الشواغل التي تربطه بالخلق.
وقد خُيِّلَ إلينا بعد قراءة هذا التخريج من جانب الدكتور عفيفي - طيّب الله ثراه - أنه قد بلغ الغاية من الدقة وفتوح الروح ووضوح التخريج، والوقوف على مقاصد البسطامي من وراء عبارته، ولكننا حين عمدنا إلى المقارنة بين تخريجه هذا، وبين شرح الغزالي لمعنى قول البسطامي مع عدم إشارة الدكتور عفيفي إلى تخريج الغزالي لعبارة البسطامي، ولا إلى شرحه لها لا من قريب ولا من بعيد؛ وجدنا أن الدكتور عفيفي ما زادَ على شرح الغزالي لهذا المعنى السابق شيئاً، وأن تخريجه منقول بحرفه ونصه من الغزالي.
إنا لنجد الغزالي يُخرّج إشارة البسطامي تخريجاً روحياً بتواضع شديد إزاء كلام الصوفية المحققين، لكأنه يمشي حذراً على الشوك وهو يتناول أمثال هذه الإشارات فيقول ما نصه : "... ومعنى هذا الكلام - والله أعلم - أنه عمل في مجاهدة نفسه وإزالة أدغالها وخبثها، وما حُشيَت به من العجب والكبر والحرص والحقد والحسد. فَعمدَ على إزالة ذلك بأن أدخل نفسه كير التخويف، ثم طرقها بمطارق الأمر والنهي حتى أجهده ذلك".
إلى هنا؛ ولم يزد الغزالي نفسه على قول البسطامي شيئاً، وذلك حين قيل له حسبما جاء في رواية القشيري والسَّهلَجيُّ : "بماذا وصلت إلى ما وصلت ؟! فقال : جمعتُ أسباب الدنيا فربطتها بحبل القناعة، ووضعتها في منجنيق الصدق، ورميتُ بها في بحر اليأس؛ فاسترحت". ولكن الغزالي يمضي فيرى أن أبا يزيد ظن نفسه قد تصفَّتْ، فنظر في مرآة إخلاص قلبه، فإذا بقايا من الشرك الخفي، وهو الرياء والنظر إلى الأعمال، وملاحظة الثواب والعقاب، والتشوّف إلى الكرامات والمواهب. وهذا شرك في الإخلاص عند أهل الاختصاص، وهو المراد ب "الزُّنار" الذي أشار إليه فعمل في قطعه؛ أي أنه قطع نفسه وفطمها عن العلائق والعوائق، وأعرض عن الخلائق حتى أمات من نفسه ما كان حياًّ، وأحيا من قلبه ما كان ميتاً. فثبت قدمه في شهود القدم وأنزل ما سواه منزلة العدم؛ بمعنى أنه لم يرَ في الوجود سوى الله.ولما كان أبو يزيد أمات نفسه وهواه، ورفض شيطانه ودنياه، جاز له عند ذلك أن يكبر على الخلق أربع تكبيرات وينصرف إلى الحق تعالى تماماً كما يكبر على الميت بأربع تكبيرات.