آخر الأخبار

جاري التحميل ...

كتاب الإنسان الكامل في معرفة الأواخر والأوائل/الجيلي

كتاب الإنسان الكامل في معرفة الأواخر والأوائل/الجيلي

الحمد لله لمن قام بحقّ حمده اسم الله، فتجلى في كلّ كمال استحقه وافتضاه، وحصر بنقطة خال جلاله حروف الجمال واستوفاه. سمع حمد نفسه بما أثنى عليه المعبود، فهو الحامد والحمد والمحمود ، حقيقة الوجود المطلق. عين هوية المسمى بالخلق والحقّ، محتد العالم الظاهر على صورة آدم معنى لفظ الكائنات، روح صور المخترعات. الموجود بكماله من غير حلول في كل ذرّة، اللائح جمال وجهه في كل غرّة، ذي الجلال المستوجب، حائز الكمال المستوعب ذات حقيقة الجواهر والأعراض، صورة المعاني والأغراض، هوية العدم والوجود، إنية عين كل والد ومولود، بصفاته جمّل الجمال فعمّ، وبذاته آمل الكمال فتمّ، لاحت محاسنه على صفحات خدود الصفات، واستقامت بقيومية أحديته قدود الذات، فنطقت ألسن الصوامت أنه عينها، وشهدت عين المحاسن والمساوئ أنه زينها، توحد في التعداد، وتفرّد بالعظمة في الآزال والآباد، تنزّه عن الاحتياج إلى التنزيه، وتقدّس عن التمثيل والتشبيه. وتعالي في أحديته عن العد وعز في عظمته أن يحصره الحد ، لا يقع الكم عليه ولا كيف ولا اين ، ولا يحيط به العلم ولا تدركه العين حياته نفس وجود الحياة و ذاته عين قيومته بكنه الصفات . مجلي الأعالي والأسافل عين الأواخر والأوائل هيولي الكمال الباذخ منشأ عظمة المجد الشامخ ، سريان حياته في الأشياء آل معدن علمه بالوجود، وعلمه بها محل بصره المدرك لكل غائب و مشهود ، رؤياه للأشياء مجلي.سماعة لكلامها وسماعه للموجودات عين ما افتضاه منه حتى نظامها إرادته مركز كلمته الباهرة. وكلمته منشأ صفته القادرة، بقاؤه هوية بطون العدم وظهور الوجود ، ألوهيته الجمع بين ذل العابد وعز المعبود. تفرد بالوصف المحيط، وتوحد فلا واله ولا ولد ولا خليط، تردى بالعظمة والكبرياء، وتسربل بالمجد والبهاء، فتحرك في كل متحرك بكل حركة، وسكن في كل مماكن بكل سكون بلا حلول كما يشاء. ظهر في كل ذات بكل خلق، واتصف بكل معنى في كل خلق وحق، جمع بذاته شمل الأضداد وشمل بواحديته جمع الأعداد. فتعالى وتقدس في فرديته عن الأزواج والأفراد، أحديته عين الكثرة المتنوعة وتريته عبر الازدواجات المتشفعة. بساطة تنزيه نفس تركيب التشبيه ، تعاليه في ذاته هويه عزة التنويه ، لا تحيط بعظمته العلوم، ولا تدرك كنه جلاله فهومه الفهوم ، اعترف العالم بالعجز عن إدراكه ، ورجع العقل في ربقه من رتقه خائبا من فتقة، وفكاكه دائرة الوجوب والجواز، نقطة التصريح والإلغاز، هوية طرفي الإمكان في المشهد الصحيح ، والغرض، آنية الجوهر والعرض . والحياة في طالع الشهود، ومستهل النبات والحيوان عند تزل السريان ، بحر تنزل الروحانيات العلى، مصعد أوج الملك ، وحضيض مهبط الشيطان والهوى، طامس ظلام الكفر والإشراك، نور بياض الايمان والإدراك ،صبح جبين الهدى. ليل دجى الغي والعمى، مرآة الحديث والقديم، مجلي هوية العذاب والنعيم ، حيطته بالأشياء كونه ذاتها ذاته، عجزت عن الحيطة بكنهها صفاتها، لا أول لأوليته ، ولا آخر لآخريته، قيوم أزلي باق أبدي، لا تتحرك في الوجود ذرة إلا بقوته وقدرته وارادته ، يعلم ما كان وما هو كائن من أمر بدء الوجود ونهاتيه.
وأشهد أن لا إله إلاَّ الله المتعالي عن هذه العبارات، المتقدّس عن أن تعلم ذاته بالتصريح والإشارات. كل إشارة دلت عليه فقد أضربت عن حقيقته صفحاً، وكل عبارة أهدت إليه فقد ضلّت عنه جمحاً، هو كما علم نفسه حسب ما اقتضاه، وبذاته حاز الكمال واستوفاه.

وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم المدعو بفرد من أفراد بني آدم، عبده ورسوله المعظم، ونبيه المكرَّم، ورداؤه المعلم، وطرازه الأفخم، وسابقه الأقدم، وصراطه الأقوم، مجلى مرآة الذات، منتهى الأسماء والصفات، مهبط أنوار الجبروت، منزل أسرار الملكوت، مجمع حقائق اللاهوت، منبع رقائق الناسوت، النافخ بروح الجبرلة، والمانح بسرّ الميكلة، والسابح بقهر العزرلة، والجانح بجمع السرفلة عرش رحمانية الذات.

كرسي الأسماء والصفات، منتهى السدرات، رفرف سرير الأسرات، هيولى الهباء والطبيعيات، فلك أطلس الألوهيات، منطقة بروج أوج الربوبيات، سموات فخر التسامي والترقيات، شمس العلم والدراية، بدر الكمال والنهاية. نجم الاجتباء والهداية، نار حرارة الإرادة، ماء حياة الغيب والشهادة، ريح صبا نفس الرحمة والربوبية، طينة أرض الذلة والعبودية، ذو السبع المثاني، صاحب المفاتيح والثواني، مظهر الكمال، ومقتضى الجمال والجلال.



مرآة معنى الحسن مظهر ما علا .... مجلى الكمال عذيب الينبوع 
قطب على فلك المحاسن شمسه .... لا آفلاً ما زال ذا تطليع 
كل الكمال عبارة عن خردل ... متفرّق عن حسنه المجموع

صلّى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه القائمين عنه في أحواله، النائبين منابه في أفعاله وأقواله، وأشهد أن القرآن كلام الله، وأن الحق ما تضمنه فحواه، نزل به الروح الأمين على قلب خاتم النبيين والمرسلين.
وأشهد أن الأنبياء حق والكتب المنزّلة عليهم صدق، والإيمان بجميع ذلك واجب قاطع، وأن القبر والبرزخ وعذابه واقع، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، وأشهد أن الجنة حقّ والنار حقّ والصراط حق والحساب يوم النشور حق؛ وأشهد أن الله يريد الخير والشر، وبيده الكسر والجبر، فالخير بإرادته وقدرته ورضاه وقضاه، والشر بإرادته وقدرته وقضائه لا برضاه، الحسنة بتأييده وهداه، والسيئة مع قضائه بشؤم العبد واغتواه، ما أصابك من حسنة فمن الله، وما أصابك من سيئة فمن نفسك، كل من عند الله، منه بدء الوجود وإليه أمره يعود.

أما بعد، فإنه لما كان كمال الإنسان في العلم بالله وفضله على جنسه بقدر ما اكتسب من فحواه، وكنت معارف التحقيق المنوطة بالإلهام والتوفيق حرماً آمناً يتخطف الناس من حوله بالموانع والتعويق، قفارها محفوفة يكون للسالك إلى رفيقها الأعلى الرفيق الرقيق، وآملاً أن يكون للطالب لتلك المطالب الشقيق الشفيق، فيستأنس به في فلواتها البسابس ، ويتطرّق به في معالمها الدوامس، ويستضئ بضياء معارفه في ظلمات نكراتها الطوامس، فقد فقدت شموس الجذب من سماء قلوب المريدين.

وأفلت بدور الكشف عن سماء أفلاك السائرين، وغربت نجوم العزائم من همم القاصدين، فلهذا قلّ أن يسلم في بحرها السابح، وينجو من مهالك قفرها السائح:



كم دون ذاك المنزل المتعالي ... من مهمه قد حفّ بالأهوال

وصوارم بيض وخضر أسنة .... حملت على سمر الرماح عوال
والبرق يلهب حسرة من تحته .... والريح عنه مخيب الآمال

وكنت قد أسست الكتاب على الكشف الصريح، وأيدت مسائله بالخبر الصحيح، وسميته

بــ [الإنسان الكامل في معرفة الأواخر والأوائل] لكني بعد أن شرعت في التأليف، وأخذت في البيان والتعريف، خطر في الخاطر أن أترك هذا الأمر إجلالاً لمسائل التحقيق، وإقلالاً لما أوتيت من التدقيق، فجمعت همتي على تفريقه، وشرعت في تشتيته وتمزيقه، حتى دثرته فاندثر، وفرقته شذر مذر، فأفل شمسه وغاب، وانسدل على وجه جماله برقع الحجاب، وتراته نسياً منسياً، واتخذته شيئاً فرياً، فصار خبراً بعد أن كن أثراً مسطوراً، وتلوت {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا} سورة الانسان . وأنشد لسان الحال بلطيف المقال:


كن لم يكن بين الحجون إلى الصفا .... أنيس ولم يسمر بمكة سامر


فأمرني الحق الآن بإبرازه بين تصريحه وإلغازه، ووعدني بعموم الانتفاع، فقلت طوعاً للأمر المطاع، وابتدأت في تأليفه، متكلاً على الحق في تعريفه، فها أنا ذا كرع من دنه القديم بكأس الاسم العليم، في قوابل أهل الإيمان والتسليم، خمرة مرضعة من الحي الكريم، مسكرة الموجود والعديم:



سلاف تريك الشمس والليل مظلم ..... وتبدي السها والصبح بالضوء مقحم
تجلّ عن الأوصاف لطف شمائل .... شمول بها راق الزمان المصرم
إذا جليت في كؤس من حبابها .... وديرت بدور الدهر وهو مزمزم
وآم قلدت ندمانها بوشاحها ..... مقاليد ملك الله والأمر أعظم
وربّ عديم ملكته نطاقها ..... فأصبح يثري في الوجود ويعدم
وآم جاهل قد أنشقته نسيمها ..... فأخبر ما إبليس كن وآدم
وآم خامل قد أسمعته حديثها ..... رقى شهرة عرشاً يعزّ ويكرم
فلو نظرت عين أزجة كوسها .... لما كحلت يوماً بما ليس تعلم
هي الشمس نوراً بل هي الليل ظلمة ... هي الحيرة العظمى التي تتلعثم
مبرقعة من دونها كلّ حائل ..... ومسفرة كالبدر لا تتكتم
فنور ولا عين وعين ولا ضيا ..... وحسن ولا وجه ووجه ملثم
شميم ولا عطر وعطر ولا شذى ...... وخمر ولا كس وكس مختم
خذوا يا ندامى من حباب دنانها ..... أماني آمال تَجلّ وتعظم
ولا تهملوا باللَّه قدر جنابها ..... فما حظّ من فاتته إلاَّ التندّم
لِيَهْن أخلائي الذين حظوا بها ...... عليهم سلامي والسلام مسلم


مقدمة


 بسم الله الرحمن الرَّحيم الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبيّ بعده، لما كن الحق هو المطلوب من إنشاء هذا الكتاب، لزمنا أن نتكلم فيه علي الحق سبحانه وتعالي من حيث اسماؤه أولا إذ هي الدالة عليه ، ثم من حيث أوصافه لتنوع كمال الذات فيها؟  ولأنها أول ظاهر من مجالي الحق سبحانه وتعالى ولا بعد الصفات في الظهور الا الذات، فهي بهذا الاعتبار أعلى مرتبة من الاسم ، ثم نتكلم من حيث ذاته على حسب ما حملته العبارة الكونية. ولا بد لنا من التنزل في الكلام على قدر العبارة المصطلحة عند الصوفية، ونجعل موضع الحاجة فيها موشحاً بين الكلام ليسهل فهمه على الناظر فيه وسأنبه على أسرار لم يضعها واضع علم في كتاب من أمر ما يتعلق بمعرفة الحق تعالى ومعرفة العالم الملكي والملكوتي، موضحاً به ألغاز الموجود كشفاً به الرمز المعقود، سالكاً في ذلك طريقه بين الكتم والإفشاء، مترجماً به عن النثر والإنشاء، فليتأمل الناظر فيه كل التأمل؛ فمن المعاني ما لا يفهم إلاَّ لغزاً أو إشارة. فلو ذكر مصرّحاً لحال الفهم به عن محله إلى خلافه، فيمتنع بذلك حصول المطلوب، وهذه نكتة كثيرة الوقوع.  ألا ترى إلى قوله تعالى: "وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ"  فلو قال: على سفينة ذات ألواح ودسر لحصل منه أن ثم سفينة غير المذكورة ليست بذات ألواح.  ثم ألتمس من الناظر في هذا الكتاب بعد أن أعلمه أني ما وضعت شيئاً في هذا الكتاب إلاَّ وهو مؤيد بكتاب الله أو سنّة رسوله صلى الله عليه وسلم، أنه إذا لاح له شيء من كلامي بخلاف الكتاب والسنة، فليعلم أن ذلك من حيث مفهومه لا من حيث مرادي الذي وضعت الكلام لأجله فليتوقف عن العمل به مع التسليم إلى أن يفتح الله تعالى عليه بمعرفته، ويحصل له شاهد ذلك من كتاب الله تعالى أو سنّة نبيه، وفائدة التسليم هنا وترك الإنكار أن لا يحرم الوصول إلى معرفة ذلك. فإن من أنكر شيئاً من علمنا هذا حرم الوصول إليه ما دام منكراً، ولا سبيل إلى غير ذلك، بل ويخشى عليه حرمان الوصول إلى ذلك مطلقاً بالإنكار أول وهلة، ولا طريق له إلاَّ الإيمان والتسليم.

واعلم أن كل علم لا يؤيده الكتاب والسنّة فهو ضلالة، لا لأجل ما لا تجد أنت له ما يؤيده، فقد يكون العلم في نفسه مؤيداً بالكتاب والسنة، ولكن قلة استعدادك منعتك من فهمه فلن تستطيع أن تتناوله بهمتك من محله فتظن أنه غير مؤيد بالكتاب والسنة، فالطريق في هذا التسليم وعدم العمل به من غير إنكار إلى أن يأخذ الله بيدك إليه،  لأن كل علم يرد عليك لا يخلو من ثلاثة أوجه :


الوجه الأول : المكالمة، وهو ما يرد على قلبك من طريق الخاطر الرباني والملكي، فهذا لا سبيل إلى رده ولا إلى إنكاره، فإن مكالمات الحق تعالى لعباده واخباراته مقبولة بالخاصية لا يمكن لمخلوق دفعها أبدأ، وعلامة مكالمه الحق تعالى لعباده أن يعلم السامع بالضرورة أنه كلام الله تعالى وأن يكون سماعه له بكليته ، وأن لا يقيد بجهة دون غيرها، ولو سمعه من جهة فإنه لا يمكنه أنه يخصه بجهة دون أخرى. ألا ترى الى موسى عليه السلام سمع الخطاب من الشجرة ولم يقيد بجهة والشجرة جهة، ويقرب الخاطر الملكي من الخاطر الرباني في القبول ولكن ليست له تلك القوة ، إلا أنه اعتبر قبل بالضرورة.

وليس هذا الأمر فيما مرد من جناب الحق على طريق المكالمة فقط بل تجلياته أيضأ كذلك ، فمتى تجلى شيء من أنوار الحق للعبد علم العبد بالضرورة من أول وهلة أنه نور الحق، سواء كان التجلي صفاتيأ أو ذاتيأ علميأ أو عينيأ. فمتى تجلى عليك شيء وعلمت في أول وهلة أنه نور الحق أو صفة أو ذاته فإن ذلك هو التجلي فافهم، فإن هذا البحر لا ساحل له. وأما الإلهام الإلهي فإن طريق المبتدي في العمل به أن يعرضه على الكتاب والسنّة، فإن وجد شواهده منهما فهو إلهام إلهي، وإن لم يجد له شاهداً فليتوقف عن العمل به مع عدم الإنكار لما سبق. وفائدة التوقف أن الشيطان قد يلقي في قلب المبتدئ شيئاً يفهمه أنه إلهام إلهي، فيخشى ذلك أن يكون من هذا القبيل، وليلزم صحة التوجه إلى الله تعالى والتعلق به مع التمسك بالأصول إلى أن يفتح الله عليه بمعرفة ذلك الخاطر.


الوجه الثاني : هو أن يكون العلم وارداً على لسان من ينسب إلى السنة والجماعة، فهذا إن وجدت له شاهداً أو محملاً فهو المراد، وإلاَّ فكف وآن مما لا يمكنه الإيمان به مطلقاً لغلبة نور عقلك على نور إيمانك، فطريقك فيه طريقك في مسألة الإلهام بين التوقف والاستسلام.

الوجه الثالث : أن يكون العلم وارداً على لسان من اعتزل عن المذهب والتحق بأهل البدعة فهذا العلم هو المرفوض، ولكن الكيِّس لا ينكره مطلقاً، بل يقبل منه ما يقبله الكتاب والسنة من كل وجه ويرد منه ما يرده الكتاب والسنة من كل وجه، وقلّ أن يتفق مثل هذا في مسائل أهل القبلة، وما قَبِلَه الكتاب أو السنة من وجه ورده من وجه فهو فيه على ذلك المنهج، وأما ما ورد في الكتاب والسنة من المسائل المتقابلة كقوله:{إنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}

وقوله صلي الله عليه وسلم : "أول ما خلق الله العقل"

وقوله صلي الله عليه وسلم : " أول ما خلق الله القلم

وقوله صلي الله عليه وسلم : “ أول ما خلق الله نور نبيك يا جابر"

فتحملها علي احسن الوجوه و المحامل واتمها واجمعها واعمها كما قيل في الهداية التي ليست إليه صلي الله عليه وسلم هي الهداية إلى ذات الله تعالى. وفي الهداية التي جعلها الله إليه هي الهداية الطريق الموصلة الى الحق ، وكما قيل أن الأحاديث الثلاثة أن المراد بها شيء واحد و لكن باعتبار نسبتها تعددت، كما في الأسود واللامع و البراق عبارة عن الحبر و لكن باختلاف النسب.

وما قدمت لك هذه المقدمة كلها إلاَّ لتخرج عن ورطة المحجوبين بالوجه الواحد عن وجوه كثيرة، ولتجد طريقاً إلى معرفة ما يجريه الله على لساني في هذا الكتاب، فتبلغ بذلك مبلغ الرجال إن شاء الله تعالى.

إشارة : جمعنا الوقت عند الحق بغريب من غرباء الشرق متلثماً بلثام الصمدية ، متزراً بإزار الأحدية ، متردياً رداء الجلال ، متوجاً بتاج الحسن والجمال ، مسلِّماً بلسان الكمال ؛ فلما أجبت تحية سلامه أسفر بدره عن لسانه، فشاهدته أنموذجاً فهوانياً حكمياً حكيماً برنامجاً مقدراً على سبيل الفرض، وبه لا بغيره تبرأ الذمة من رقّ الغرض، فاعتبرته في معياري ونظمت به عقود الدراري، فانقطع من أول وهلة مني علاقة الفقار فأصلحته بانكسار عمود الآن، فلما استقامت شوكة المعيار وحصل ربّ العرش في الدار نصبت كرسي الاقتدار وأقمت به ميزان الاعتبار، فاعتبرت مالي في مآلي بقوانين تلك المعالي، فلم يزل ذلك دأبي وأنا كاتم عني ما بي إلى أن نفدت الأرطال وانقطع الاعتبار بالمثقال، ظفرت بقيراط التدقيق فأحكمت به عيار التحقيق، فصبغت يدي بالحنا وكحلت عيني الوسنى، فلما فتحت العين وكسرت القفلين خاطبني بحديث الأين، فأجبته بلسان البين، وأنشدت هذه الأبيات، وجعلتها بين النفي والإثبات:



صحّ عندي أنها عدم .... مذ غدت بالوجود مشتهره

قد رآها الخيكل من بعد ..... قدرة في الوجود مقتدره

لم تكن غير حائط نصبت ..... لك فيها الكنوز مدخره
أنا ذاك الجدار وهي له .... آنزه المختفي لأحتفره
فاتخذها بصورة شبحاً ..... وهي روح له لتعتبره
كمل اللَّه حسنها فغدت ...... بجمكل الإله مشتهره
لم تكن في سواك قائمة ..... فافهم الأمر آي ترى صوره

فلما سمع مني مقالتي وتحلى بحالتي أدار بدره في هالتي، ثم أنشأ وما أفشى وقال:

حسنا مبرقعة منها ستائرها .... ثعبانها صدغها والسحر ناظرها
وذاقت الخمر في السكران فانثملت .... وبان بالسكر ما تحوي مآزرها
تخيلت كل بدر تمَّ فاتخذت ..... منه لها خلقاً حتى نوادرها
رأت نقوش خضاب في معاصمها ..... فاستكتبته بها فيها غدائرها
وتوجت قيصراً بتاج تبعها ..... وقام في ملك دارها دوائرها
تملكت لرقاب الخلق قاطبة ..... ببيض مخضرة حمر شفائرها
واستكملت كل حسن كن يحسبه ..... من جملة الحسن في ليلاه عامرها
فظاهر العزّ ما يخفيه باطنها ..... وباطن الحسن ما يبديه ظاهرها

فلما سمعت خطابه الشهيّ وفهمت فحواء النجيّ، أقسمت عليه بالذي كان وما كان ووفى بعهده وما خان، ولبس برديه وتعرى عن ثوبيه، ونشر في الآفاق جماله ولم يكن شيء منها له، وبالذي استعبدته الأفكار والعقول لبيانه وقربته الأرواح والأسرار لحنانه، وبمن أدهش في حيطته وأنعش في مطيته وانحاز في نقطته، وزاد على دائرة الحيطة أن يرفع برقع الحجاب ويصرح لي بالخطاب، فتنزل وما زال، ثم أنشأ فقال رحمه الله تعالى:

أنا الموجود والمعدوم ..... والمنفي والباقي
أنا المحسوس والموهوم ...... والأفعاء والراقي
أنا المحلول والمعقود ....... والمشروب والساقي
أنا الكنز أنا الفقر ...... أنا خلقي وخلاقي
فلا تشرب بكاساتي ...... ففيها سم درياقي
ولا تطمع ولوجاً ....... فهو مسدود بإغلاق
ولا تحفظ ذماماً لي ....... ولا تنقض لميثاقي
ولا تثبت وجوداً لي ...... ولا تنفيه يا باقي
ولا تجعلك غيراً لي ...... ولا عيناً لآماقي
ولكن ما عنيت به ....... به غيبت أشواقي
فكن فيما تراني ...... فيه واشرب كاس إدهاقي
ولا تخلع قبا بندى ..... ولا تلبس لغَلَل طاقي
وقل أنا ذا ولست بذا ...... بأوصافي وأخلاقي
فبي يرد وهذا القلب ...... ملتهب بإحراقي
وبي ظمأ ويا عجبي ....... وفي جيحون إغراقي
وقد أعياني الحمل ....... وما شيء بأعناقي
أخف وفيّ أثقالي ........ وأثقل والهوى ساقي
يحا آيني النعام . ...... بحالتي طربي وإشفاقي
فهو طير بأجنحة ......... وهو جمل بأعناقي
ولا جمل ولا طير ........ ولكن رمز سباقي
فلا عين ولا بصر ........ ولكن سرّ آماقي
ولا أجل ولا عمر ........ ولا فان ولا باقي

هو جوهر له عرضان .. وذات لها وصفان. هوية ذلك الجوهر.. علم وقوى.
 فإما عليم حكيم جرى في أنابيب القوى.. فخرج على شكل ثلاثي القوى.
وإما قوى ترشحت بعلوم حكمتها... فرأيت البسيط على ثلث هويتها.
إن قلت العلم أصل فالقوى فرع...أو قلت القوى أرض فالعلم زرع


وهذا العلم علمان : علم قولي، وعلم عملي. العلم القولي: هو الأنموذج الذي تركب على هيئة صورتك وتعرى على كنية صورتك. والعلم العملي: هو الحكمة التي بها يهتدي الحكيم إلى الانتفاع بعلمه، ويبلغ بها الأمير إلى الاختراع بحكمه.

وهذي القوى أيضاً قسمان : قوى جملي تفصيلي: وشرطه الاستعداد من حسن المزاح واستقامة الأصول وآمال الفعل مع صحة المنقول.
وقوى جملي تخييلي: وشرطه القابلية من آون الجوهر له التحيز والاثنان بينهما التميز.
وأما الذات التي لها وصفان فهو أنت وأنا، فلي بك ولك بنا الهنا، فأنت من حيث هويتك لا من حيث ما يقبله معقول. أنت من الأوصاف العبدية وأنا من جهة حقيقتي لا من جهة ما يقبله معقول. أنا من الأوصاف الربية فهو المشار إليه بالذات. وأنا من جهة أنيتي باعتبار ما يقبله معقول. أنا من أحكام هو الله، وأنت من حيث الخليقة هو العبد. فانظر ذلك إن شئت باعتبار أنا، وإن أردت باعتبار أنت فما ثم إلاَّ الحقيقة الكلية، فسبحانه وحده لا شريك له:
ذات لها في نفسها وجهان .... للسفل وجه والعلا للثاني
ولكلّ وجه في العبارة والأدا ... ذات وأوصاف وفعل بيان
إن قلت واحدة صدقت وإن تقل .... اثنان حق إنه اثنان
أو قلت لا بل إنه لمثلث ..... فصدقت ذاك حقيقة الإنسان
انظر إلى أحدية هي ذاته .... قل واحد أحد فريد الشان
ولئن ترى الذاتين قلت لكونه .... عبداً ورباً إنه اثنان
وإذا تصفحت الحقيقة والتي ..... جمعته مما حكمه ضدان
تحتار فيه فلا تقول لسفله ..... علو ولا لعلوه هو داني
بل ثم ذلك ثالثاً لحقيقة ..... لحقت حقائق ذاتها وصفان
فهي المسمى أحمد من آون ذا .... ومحمد لحقيقة الأكوان
وهو المعرف بالعزيز وبالهدى ..... من كونه ربّاً فداه جناني
يا مرآز البيكار يا سرّ الهوى ..... يا محور الإيجاب والإمكان
يا عين دائرة الوجود جميعه ..... يا نقطة القرآن والفرقان
يا كملاً ومكمِّلاً لكامل ...... قد جملوا بجلالة الرحمن
قطب الأعاجب أنت في خلواته ...... فلك الكمال عليك ذو دوران
نزهت بل شبهت بل لك آلما ...... يدري ويجهل باقياً أو فاني
ولك الوجود والانعدام حقيقة ...... ولك الحضيض مع العلا ثوبان
أنت الضياء وضدّه بل إنما ..... أنت الظلام لعارف حيران
مشكاته والزيت مع مصباحه ..... أنت المراد به ومن أنشاني
زيت لكونك أولاً ولكونك الم ..... خلوق مشكاة منير ثاني
ولأجل رب عين وصفك عينه ..... ها أنت مصباح ونور بياني
آن هادياً لي في دجى ظلماتكم .... بضيائكم ومكملاً نقصاني
يا سيد الرسل الكرام ومن له ..... فوق المكان مكانة الإمكان
أنت الكريم فخذ فلي بك نسبة ...... عبد الكريم أنا المحبّ الفاني
خذ بالزمام زمام عبدك فيك آي ...... يرخي ويطلق في الكمال عناني
يا ذا الرجاء تقيّدت بك مهجتي ...... بل للمحبة قد دعتك لساني
صلّى عليك الله ما غنت على ...... معنى تصاوير لهن معاني
وعلى جميع الكل والصحب الذي ..... كنوا لدار الدين كالأركان
والوارثين ومن له في سوحكم ..... نبأ ولو بالعلم والإيمان
وعليك صلّى اللَّه يا حاء الحيا ....... يا سين سرّ اللَّه في الإنسان

فلما سمعت مقالته وشربت فضالته قلت له: أخبرني بأعاجيبك التي وقعت عليها في تركيبك. فقال لي: إني لما صعدت جبل الطور وشربت البحر المسجور وقرأت الكتاب المسطور، فإذا هو رمز تركبت عليه القوانين فما هو لنفسه بل هو لك، فلا يخرجك عن خبرك ما يصح عندك له من العلامات فتقول: هذا له وهذا لي، إذ ليس حاله بمشابه لحالي، فإنما جعله الله لك جعلاً فهوانياً مرآة لسانياً، لا حقيقة له.  كل ذلك آي تعاين فيه ما هو لك، فتتخذ حوله حولك، ولهذا لا تراه ولا تدرآه ولا تجده ولا تملكه، لأنه لو كن ثمة شيء لوجدته بالحق سبحانه وتعالى، فإن العارف إذا تحقق بحقيقة آنت سمعه وبصره لا يخفى عليه شيء من الموجودات. إذ العين عين خالق البريات، ثم لا يصح نفيه مطلقاً لأن بانتفائه تنتفي أنت إذ هو أنموذج، وكيف يصح انتفاؤك وأنت موجود وأثر صفاتك غير مفقود، ولا يصح أيضاً إثباته لأنك إن أثبته اتخذته صنماً، فضيعت بذلك مغنماً، وكيف يصح إثبات المفقود؟ أم كيف يتفق نفيه؟ وهو أنت الموجود، وقد خلقك الله سبحانه وتعالى على صورته حياً عليماً قادراً مريداً، سميعاً بصيراً متكلماً، لا تستطيع دفع شيء من هذه الحقائق عنك لكونه خلقك على صورته ثم تفرّد بالكبرياء والعزّة وانفردت بالذلّ والعجز، وآما صحت النسبة بينك وبينه أولاً انقطعت النسبة بينك وبينه هنا.
فقلت له: يا سيدي قربتني أولاً وأبعدتني آخراً، ونثرت لباً وفرشت عليه قشراً، فقال: أنزلته على حكم قانون الحكمة الإلهية، وأمليته على نمط ميزان المدركة البشرية ليسهل
تناوله من قريب وبعيد، ويمكن تحصيله للقريب والشريد. فقلت له: زدني من رحيقك وعلني بسلاف ريقك. فقال: سمعت وأنا في القبة الزرقاء بعالِم يخبر عن وصف عنقاء ، فرغبت إليه وتمثلت بين يديه، ثم قلت له: صرح لي خبرك وصحح أثرك، فقال: إنه المعجب الحقيقي والطائر الحمليق الذي له ستمائة جناح وألف شوالة صحاح، الحرام لديه مباح، واسمه السفاح ابن السفاح، مكتوب على أجنحته أسماء مستحسنة، صورة الباء في رأسه والألف في صدره والجيم في جبينه والحاء في نحره. وباقي الحروف بين عينيه صفوف، وعلامته في يده الخاتم، وفي مخلبه الأمر الحاتم، وله نقطة فيها غلطة، وله مطرف فوق الرفرف، فقلت له: يا سيدي أين محل هذا الطير؟ فقال: بمعدن الوسع ومكان الخير، فلما عرفت العبارة وفهمت الإشارة أخذت أقطع في جو الفلك جائزاً عن الملك والملك، وأنا أدور على هذا الأمر المعجب المسمى بعنقاء مغرب، فلم أجد له خبراً ولم ألق له أثراً، فدلني عليه الاسم وأخرجني الوصف عن القيد والرسم؛ فلما خلعت الصفات وأخذت في فلك الذات غرقت في بحر يسمى بحيرة. فالتقم أجنحتي النون وجال بي فوق الدر المكنون، فنبذني موجه بالعراء فمكثت مدة لا أسمع ولا أرى، فلما فتحت العين وانطلقت من قيد الأين لقيت تلك الإشارات إليّ وتلك العبارات لديّ، فإذا أنا بالأجنحة وعليها سمات المسبحة، وإذا أنا بالألف صدري والجيم كما قال والحاء في نحري، ولم يبق مما ذكرناه ذرّة إلاَّ وهي لديّ واردة صادرة، فعلمت أني هو الذي كن يعني، فحينئذ ظهرت النقطة وانتفت الغلطة، فأبرزت العلامات بإحياء من قد مات.
قال الراوي: فقلت له: يا سيدي ما هو الأمر المحتوم والكأس المختوم، فرطن بلغة أعجمية وترجم، ثم أوعد بكلامه وزرجم، وتغرب ثانياً ثم ترجم. ثم قال: الأنموذج العالي المعقول مجمل الإيراد لنفسه بل للمحمول والمنقوش فيه لا له بل للأسفل المنقول، والأسفل هو المشار إليه، وكل الحديث له، والمدار علي. فإذا انتقش الأنموذج في المشار وحمل ما في ذلك المحمل هذا الحمار، كن الأسفل عين الأعلى وصارت العالية موجودة في السفلى.  فلهذا قال من قال: لا نسبة بين الأنموذج المنقوش المشار إليه، ولو أخطأ في كونه ليس المراد بالأنموذج إلاَّ عين ما هو المنقوش المشار إليه.  ولهذا قال من قال: إن المشار إليه عين الأنموذج، ولو أخطأ في كون الأنموذج إنما هو ذو العُلا من غير غلط، والمشار إليه في الاصطلاح ذو السفل فقط. ولهذا قال من قال: إن الأنموذج جامع، ولو أخطأ لكونه اسماً لصفات الكمال فقط، وبقي كونه اسماً لصفات النقص والغلط. ولهذا قال من قال: إن المنقوش المشار إليه جامع للأنموذجية المنقوشة، ولو أخطأ في أن المنقوش المشار إليه إنما هو اسم لمحل صفات النقص. ألا تراه محل التعيين بالإشارة وموقع الحد والحصر في العبارة. ولهذا الجمع قال من قال: بالعجز عن درك إدراك الذات، ولو أخطأ لأن المشار إليه شرطه أن ينتقش فيه ما في الأنموذج، فيكون له من الإدراك بمجانسته ما للأنموذج في مكامنه، فليس له عجز، فلا يصح أن يكون العجز عن الإدراك من أوصاف العارف. والدليل عليه أن العارف إذا اعترف بعجزه عن إدراك شيء ما هو إنما لمعرفته بصفات ذلك الشيء فإنها لا تدرك كما لعدم التناهي وإما لعدم قابليته الإدراك، وذلك القدر هو معرفة ذلك الشيء كما ينبغي، فإذا عرفته كما ينبغي فقد أدركته كما ينبغي، فجاء كلام الصديق الاكبر رضي الله عنه : "إدراك العجز عن درك الادراك ادراك" : وفي رواية أخرى ؛" العجز عن درك الإدراك إدراك " ، وبحصول الإدراك لا عجز عن الإدراك، فاتصف العبد هنا بالعز وانتفى عنه الحصر والعجز.وقوله تعالى: {لا تدركه الابصار}يعني الأبصار المخلوقة، وأما البصر الخفيّ القديم الذي يراه العبد به فإنه غير مخلوق إذ هو حقيقة آنه بصره الذي يبصر به. فافهم.

وفي الغرام عجائب .... وأنا وربك ذو العجائب
قطبي يدور على رحى ..... فلك تدور به الغرائب
رمزي الذي لي في الهوى ..... عيا قراءة كل كتب
أظهرته بعبارة ..... دقت فلم تفهم لصائب
عرضته لوحته ..... صرحته بين الحبائب
فزويت عنه عيونهم ..... ورويت منه كل شارب
وغرسته فجنيته ...... وخبأته بين الترائب
أبديته وكتمته ...... واللَّه عن كل الحبائب
عذل العذول فعندما ...... ظهر وفشا بين الأجانب
قد كن عني أجنبي ....... ياً فاغتدى في الحبّ صاحب
فافهم مقالة ناصح ........ أهدى إليك التبر ذائب
واعرف إشارته التي ....... جمحت إلى تلك المراتب
واشكر إذا عرفته ...... فالشكر من خير المذاهب

اعلم أن الطلسم ، القطبي، الذي هو محور فلك الأنموذج، وقطب رحى الأنموذجات أول الطلسمات وبه قامت صور النفس. وإلا فلا سبيل إلى إحكامه بدون ذلك، ولولا تحقيقه لما أحكم وظهر على هيئة منقوشة. وهذه المرآة لولا ما تصور لك الهيكل مقابلاً على دائرتها لما أعطت العكس في المرآة. ومن أين يلقى العكس في المرآة إذا حكمت بعدم الصورة المقابلة. ولا سبيل إلى وجود صورة في المرآة من غير مقابلة كما أن لا سبيل إلى صورة في غير المرآة. وكما أنه لا سبيل إلاَّ أن وجود الشيء زاد في المرآة من غيرها ولو عند المقابلة لأنها ما امتزجت بشيء فلا يوجد فيها غيرها، وقد رأيت فيها ما تسميه بشيء آخر. وقد حوى كتابنا الموصوف بـ: [قطب العجائب وفلك الغرائب]، بقية الطلسمات، وهي ثلاثون طلسماً مرموزة كامنة في الوجود.
فأوجدناها في كتابنا مصرّحة ونبهنا عليها جميعها في هذا الكتاب وهو [الإنسان الكامل
فلا يفهمه حق فهم الا من كان وقع علي كتاب قطب العجائب وفلك الغرائب ، ثم نظر إليه فوجده جميعه فيه. فإن هذا الكتاب له كالأم بل كالفرع، وهو لهذا الكتاب كالأصل بل كالفرع، فافهم المراد بالكتابين والمخاطب بالخطابين تحل الرموز وتحوز الكوز، فليس المراد بقطب العجائب إلا المشار اليه ، وبفلك الغرائب الا ما بين يديه، فكما أنه لا يمكن حله إلا بالإنسان الكامل وتبيانه ، كذلك الحق سبحانه وتعالى لا سبيل الى معرفته الا من حيث أسماؤه وصفاته ، فيشاهده العبد أولا في أسمائه وصفاته مطلقا ويرقى بعد إلى معرفة ذاته محققا، فافهم معنى ما أشرنا اليه فإن الجميع لغز دللناك عليه.

قد حرت فيك وضاقت في الهوى سبلي ..... ما العقل فيك وما التدبير يا أملي
اللَّه منك لقلبي آم تحمله ..... أشغلت قلبي وصيرت الهوى شغلي
اللبّ مكتئب والدمع منصبب ..... والنار في آبدي والماء من مقلي
إن قلت لست بموجود فقد عدمت ...... روحي فها أنا في قولي وفي عملي
أو قلت إني موجود كذبت فما ...... رأيت في الناس موجوداً بلا علل

فكل طابع فمطبوعه على هيكله من الاستدارة والتربيع والتثليث، وعلى صورة ما قابله من المطبوع والمنقوش، لا على جرميته وغلظه، فإن المطبوع فيه قد يكون أجلّ من الطابع جرماً. وقد يعكس فيكون الطابع أجلّ من المطبوع. وهذا موضع تفاوت المحققين الكمل من أهل الله بعد الكمال وتقارب الجمال والجلال، ثم يتفق أن يكون المطبوع على عكس الطابع فيظهر ما كن من اليمين إلى الشمال في الطابع. ومن الشمال إلى اليمين في المطبوع، وهذا موضع التضادّ ومظهر سرّ العبودية في الربوبية. وهو معنى سرّ الحديث المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما عرج به واخترق جميع الحجب حتى لم يبق له إلاَّ حجاب واحد، فأراد أن يخترقه فقيل له : "قف " وهذا سرّ جليل لا يدركه إلاَّ الكُمَّل من حيث اسمه الكامل، " فإن ربك يصلّي" وقد يقع لبعض العارفين عثوراً لا تحقيقاً، فذلك الوقوع من حيث الجمال، ولكن جمال الكمال لا من حيث الجمال المطلق، ولا من حيث كمال الجمال، ويدركه بعضهم في تجلي جلالي وهو أيضاً من جلال الكمال لا من الجلال المطلق ولا من كمال الجلال.

(فصل) الشيء يقتضي الجمع، والأنموذج يقتضي العزة، والرقيم يقتضي الذلة، وكل من هؤلاء مستقلّ في عالمه سابح في فلكه، فمتى خلعت على الأنموذج شيئاً من صفات الرقيم انخرم قانون الأنموذج عليك. ومتى كسوت الرقيم شيئاً من حلل الأنموذج لم تره فيه لظهوره بما ليس له، ومتى نسبت الذات إلى أحد منهما ولم تنسبه إلى الآخر احتجت للآخر ذاتاً ثانياً فوقعت في الاشتراك. فإذا تصرفت الذات بيد الرقيم سميت ذات تنزل، وتسمى رقيماً إذا تصرفت فيها للرقيم بيد الرقيم. وأنموذجاً إذا تصرفت فيها للأنموذج بيد الأنموذج ولا اسم ولا رسم إذا كنت على صرافتها الذاتية. ونعني بالرقيم العبد، وبالأنموذج قطب العجائب وفلك الغرائب، وبالذات كتابنا هذا المسمى بالإنسان الكامل في معرفة الأواخر والأوائل.


تلوين هذا الحسن في وجناته ..... أبداً ولا تلوين في طلعاته

يلقاك أحمر أبيض في أغبر ..... فبياضه في سود خضراواته

من كن سيمته التلون وهو ..... فيه فما تلوّن عند تلويناته

فإذا تركب حسن طلعة شادن ....... من كل حسن فهو واحد ذاته

يا أيها الرشأ الربيب نعمت في ..... حسن تنزّه بين تشبيهاته

أفأنت جؤذر لعلع أم زينب ..... يحتار فيك الصبّ في حيراته
باللَّه خبِّر هل أحطت بكل ما ...... يحويه خالك من غريب نكاته
وهل العذار المسبلات عقوده ..... فوق المنكب عد في عقداته
شرك العذار وجب خالك صيرا ...... طير الحشا ولهان في قبضاته
قسماً بقائم بانة أحدية ....... ماست على كثبان جمع صفاته
ما في الديار سوى ملابس مغفر ..... وأنا الحمى والحيّ مع فلواته

(فصل) الأحدية تطلب انعدام الأسماء والصفات مع أثرها ومؤثراتها، والواحدية تطلب فناء هذا العالم بظهور أسماء الحق وأوصافه. والربوبية تطلب بقاء العالم. والألوهية تقتضي فناء العالم في عين بقائه. وبقاء العالم في عين فنائه. والعزة تستدعي دفع المناسبة بين الحق والخلق. والقيومية تطلب صحة وقوع النسبة بين الله وعبده.
لأن القيوم من قام بنفسه وقام به غيره. ولا بد من جميع ما اقتضته كل من هذه العبارات فنقول: من حيث تجلي الأحدية ما ثم وصف ولا اسم. ومن حيث تجلي الواحدية ما ثم خلق لظهور سلطانها بصورة كل متصور في الوجود. ومن حيث تجلي الربوبية خلق وحق لوجود الحق ووجود الخلق. ومن حيث تجلي الألوهية ليس إلاَّ الحق وصورته الخلق وليس إلاَّ الخلق ومعناه الحق. ومن حيث تجلّي العزّة لا نسبة بين الله وبين العبد.
ومن حيث تجلي القيومية لا بد من وجود المربوب لوجود صفات الربّ.
ولا بد من وجود صفات الربّ لوجود صفات المربوب. 
نقول: إنه من حيث اسمه الظاهر عين الأشياء، ومن حيث اسمه الباطن أنه بخلافها.

نزّه فهذا واجب الله ..... لا الحاضرون دروا ولا اللاهي
ما فيهم من ذاته وصفاته ..... إلا شميم روائح ما لا هي
هم يحسنون فيحسبون بأنهم ..... إياه حاشاه عن الأشباه
ليس الإله بعده آلا ولا ...... ناه بذات غير ذات تناهي
الذات واحدة وأوصاف العلا ..... للَّه والسفلى لعبد واهي

تمت المقدمة، وقد آن شروعنا في الكتاب، والله يهدي للصواب، وقد جعلناه نيفاً وستين باباً.

فهرسة الكتاب

الباب الأول: في الذات.

الباب الثاني: في الاسم مطلقاً.

الباب الثالث: في الصفة مطلقاً.

الباب الرابع: في الألوهية.

الباب الخامس: في الأحدية.
الباب السادس: في الواحدية.
الباب السابع: في الرحمانية.
الباب الثامن: في الربوبية.
الباب التاسع: في العماء.
الباب العاشر: في التنزيه.
الباب الحادي عشر: في التشبيه.
الباب الثاني عشر: في تجلي الأفعال.
الباب الثالث عشر: في تجلي الأسماء.
الباب الرابع عشر: في تجلي الصفات.
الباب الخامس عشر: في تجلي الذات.
الباب السادس عشر: في الحياة.
الباب السابع عشر: في العلم.
الباب الثامن عشر: في الإرادة.
الباب التاسع عشر: في القدرة.
الباب العشرون: في الكلام.
الباب الحادي والعشرون: في السمع.
الباب الثاني والعشرون: في البصر.
الباب الثالث والعشرون: في الجمال.
الباب الرابع والعشرون: في الجلال.
الباب الخامس والعشرون: في الكمال.
الباب السادس والعشرون: في الهوية.
الباب السابع والعشرون: في الإنية.
الباب الثامن والعشرون: في الأزل.
الباب التاسع والعشرون: في الأبد.
الباب الثلاثون: في القدم.
الباب الحادي والثلاثون: في أيام الله.
الباب الثاني والثلاثون: في صلصلة الجرس.
الباب الثالث والثلاثون: في أمّ الكتاب.
الباب الرابع والثلاثون: في القرآن.
الباب الخامس والثلاثون: في الفرقان.
الباب السادس والثلاثون: في التوراة.
الباب السابع والثلاثون: في الزبور.
الباب الثامن والثلاثون: في الإنجيل.
الباب التاسع والثلاثون: في نزول الحق إلى سماء الدنيا.
الباب الأربعون: في فاتحة الكتاب.
الباب الحادي والأربعون: في الطور وكتاب مسطور.
الباب الثاني والأربعون: في الرفرف الأعلى.
الباب الثالث والأربعون: في السرير والتاج.
الباب الرابع والأربعون: في القدمين والنعلين.
الباب الخامس والأربعون: في العرش.
الباب السادس والأربعون: في الكرسي.
الباب السابع والأربعون: في القلم الأعلى.
الباب الثامن والأربعون: في اللوح المحفوظ.
الباب التاسع والأربعون: في سدرة المنتهى.
الباب الخمسون: في روح القدس.
الباب الحادي والخمسون: في الملك المسمى بالروح.
الباب الثاني والخمسون: في القلب وأنه محتد إسرافيل من محمد صلى الله عليه وسلم.
الباب الثالث والخمسون: في العقل الأول، وأنه محتد جبريل من محمد صلى الله عليه وسلم.
الباب الرابع والخمسون: في الوهم، وأنه محتد عزرائيل منمحمد صلى الله عليه وسلم.
الباب الخامس والخمسون: في الهمة، وأنها محتد ميكائيل من محمد صلى الله عليه وسلم.
الباب السادس والخمسون: في الفكر، وأنه محتد باقي جميع الملائكة من محمد صلى الله عليه وسلم.
الباب السابع والخمسون: في الخيال وأنه هيولى جميع العوالم.
الباب الثامن والخمسون: في الصورة المحمدية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، وأنه النور الذي خلق منه الجنة والجحيم، والمحتد الذي وجد فيه العذاب والنعيم.
الباب التاسع والخمسون: في النفس وأنه محتد إبليس ومن تبعه من الشياطين من أهل التلبيس.
الباب الستون: في الإنسان الكامل ومقابلته للحق والخلق، وأنه محمد صلى الله عليه وسلم.
الباب الحادي و الستون: في أشراط الساعة، وفيه ذكر الموت والبرزخ
والقيامة والحساب والميزان والصراط والجنة والنار والأعراف والكثيب.
الباب الثاني و الستون: في السبع السماوات وما فوقها، والسبع الأرضين
وما تحتها، والسبع البحار وما فيها من العجائب والغرائب وما يسكنها من أنواع المخلوقات.
الباب الثالث و الستون: في سرّ سرائر الأديان والعبادات ونكتة جمع الأحوال والمقامات.

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق الصوفية