آخر الأخبار

random
جاري التحميل ...

شرح صلاة القطب ابن مشيش لابن عجيبة - 18

واعلمْ أنَّ الحِكْمَة عَين القُدْرَةِ، والقُدرة عينُ الحكمةِ، إذِ الفاعلُ واحدٌ. وسأذكرُ لكَ شيئاً من بَحرِ القُدرة، وشيئاً من بحر الحِكمةِ، ليظهرَ لكَ الفرق بينهمَا، مع اتِّحادِهما مَحَلاًّ، فنقول : وبالله التوفيق : 

بَحرُ القُدرةِ، بحرٌ زاخرٌ، وأمرهُ قاهرٌ، ليسَ لهُ أوَّلٌ ولا آخرٌ، يُظهر ويُبطن، ويحرك ويسكن، ويقبض ويدفع، ويعطي ويمنع، ويحفظُ ويرفعُ، بيده مقاديرُ الأمور، وعلى قطب دائرته الأفلاك تدور، أصل الفروع، وفروع الأصول، وإليه ينتهي الوصول. تطير إليه قلوب المشتاقين، وتعوم في لجَّته أرواح السائرين، وتخوض في بَحرِ لُجَّتهِ أسرارُ الواصلينً، ولا تعرفُ كُنهَ عظمته قلوبُ العارفين؛ غايةُ مُنتهاهاَ الدَّهش والحَيْرَة، ثمَّ العكوف في الحضْرَة.

وأمَّا بحرُ الحكمةِ؛ فهوَ أيضاً : بَحرٌ زاخِرٌ، وأمرهُ ظاهرٌ، يُظهِرُ الأسبابَ، ويُسْدلُ الحجابَ، يَربط الأحكام بالعِلَلِ، ويُقرِّرُ الشَّرائع والمِلَلَ، يُغطّي ما يبرُزُ من عُنصُرِ القدرةِ بردائِهِ، ويستر ما يبدو من أسرار الربوبيّة بعِزِّ كبريائهِ، يُنَوِّرُ الطَّريقة، ويصونُ الحقيقة، يُظهر العبودية، ويبطن الحرية، مَنْ وقفَ معه كان محجوباً، ومن نفذَ منهُ إلى بحرِ القُدرةِ، كان واصِلاً مجذوباً، ومَن نظرَ إليهمَا معاً، كان كاملاً محبوباً، وبالعناية مصحوباً، واعلم أنَّ القُدرة والحِكمَة، كل واحدة تنادي على صَاحِبَتِهَا بِلسانِ حالِهَا. أمَّا القدرة فتقول للحكمة : أنتِ تحتَ قَهرِي ومشيئتي، لاَ تَفعلي إلاَّ ما أَشاءُ، ولا يصدرُ منكِ إلاّ ما أريدُ، فإن أردت خِلافي رددتك، وإن سبقتني أدركْتُكِ. وتقول الحكمة للقدرةِ : أنتِ تحت حُكمِي، وعندَ أمري ونهْيي، فإنْ عصَيتني أدَّبتثكِ، ورُبَّما قتلتُكِ، فإن بَرَزَتِ القدرةُ مُوافقَة للحِكمة، كان ذلكَ علامة الجمال عاجلاً أوْ آجلاً، وإن برزَتِ القدرة مخالفة للحكمَةِ، كان علامة الجلال عاجلاً أو آجلاً؛ لأنَّ الحكمة منوطُ الشريعة، والقدرة محلَّ الحقيقة. فإذا خَلَفَتِ الحقيقةُ الشريعة، كان معصية؛ وهي سبب الجمال، والإنسان دائر بين قُدرةٍ وحكمةٍ، كما هو دائر بين حقيقة وشريعة، والله تعالى أعلم.

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق