آخر الأخبار

random
جاري التحميل ...

التصوف من النقد إلى الذوق!

التصوف من النقد إلى الذوق!

التصوف عمل وسلوك، فلا هو كتب تُقرأ، ولا خطب ومحاضرات تُتلى، وقد تعلمنا: أن ما يُذكر في كتب التزكية ليس سوى تشويق للسلوك، فالتصوف سلوك.

التصوف ليس سوى التحقق بالدين، وذوق معانيه الباطنة، وأسراره الرفيعة العالية، مع ممارسة شعائر الدين الظاهرة، فليس للصوفية عقائد خاصة، بل لهم مصطلحات واختيارات لا تضر، يسميها الطلبة من ذوي القصور: عقائد.

ليس التصوف مذاهب ولا فرقًا، بل مذهبًا واحدًا داخل إطار جامع، هو إطار الدين الحق، دين الإسلام الذى جاء به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكلهم من رسول الله ملتمس. فهي تنويعات على نغمة واحدة.

التصوف ذوق للدين، وعلم الذوق زائد على علم الفكر والنظر، ويعطي ما لا يعطيه علم العقل.

لتقريب هذا اصبر قليلًا، لأقول:


هل ذقت العسل؟ ماذا لو قرأت مجلدين في وصف العسل وبيان أنواعه، هل تراك عرفت كمن ذاقه؟ وهل عند الذوق تتذكر شيئًا مما قرأت؟ أم أنك تجد الكلام قد شوش طعم العسل في فهمك، وتمنيت أنك لم تقرأ؟ وهل ما قرأته قد ضاع؟ أم أن وظيفته كانت التشويق لذوق العسل والبحث عنه، فأداها، فلما ذقت وجدت البون شاسعًا؟
لا تستطيع أن تعرف الصبر ومراراته إلا إن ذقته، ولا معنى معاناة الشهوة وجهادها إن كنت عنينًا. 

علوم الذوق لا يدركها إلا من ذاقها على الحقيقة، أما غيرهم فهو يدندن حولها لا غير. وربما يشوش غير الذائق على نفسه وعلى الآخرين إن حكى تلك الذوقيات بكلام منمق، وإن كتب بعضهم رسائل علمية ونقل عن فلان وعلان. وربما اعتدى على مستطعِم العسل وذائق الألم؛ فاتهمه بالقصور، إذ كيف يقول إن طعمه كذا، وهو ينبغي أن يكون كذا، وفق ما في الكتب التي قرأتها أو التي أخبرني بها فلان!

إن قلنا كما يقول الأكابر: إن من علوم الشريعة ما لا يدرك إلا ذوقًا وممارسة، ولا يُفهم على وجهه إلا بالانخراط فيه مع الصدق في طلبه، فإن حديث غير ذوي الصفة، وإن كان اطلاعهم كبيرًا لا يجدي طالب الحق نفعًا، بل هو إلى الضلال والإضلال أقرب.

لذا أقول: لا يتحدث عن التصوف إلا صوفي، ولا يصف مقام الإحسان إلا من سلم لأهل الإحسان، وغاية الواصف إن أراد الأمانة: نقل عبارات القوم مع التسليم، فإن فهم فذاك فضل الله، وفوق كل ذي علم عليم.

أتعجب من جرأة أمثال «يوسف زيدان» وغيره من (المثقفين)، أو الإخوة السلفية، أو بعض المنتسبين للأزهر المتأثرين بالوهابية، غير المقرين بالتصوف – إلا مجاملة – إما لعدم علمهم، أو لفرط ثقتهم في أنفسهم، حين يحكمون على التصوف ويريدون جعل أنفسهم فوقه، فيتناولون أهله بغية التقييم والتقويم وإيراد الإيجابيات والسلبيات، كأنهم أحاطوا به علمًا، وغايتهم القراءة في أمثال «الموسوعة الميسرة». وإن رجعوا لكتابات المتصوفة، احتكموا إلى عقولهم القاصرة، وإن سألوا المشايخ سألوهم عن أمثال ما في «الإحياء»، لا يتجاوزون ذلك. فلماذا أقول إن هؤلاء جميعًا لا يجوز لهم الكلام في التصوف، فضلًا عن أن يُسمع قولهم فيه؟
أولًا: لأن التصوف علم بالمعنى الدقيق للكلمة؛ فلأهله مصطلحات خاصة، وطرائق منهجية وكتب متدرجة، بعضها يُقرأ وبعضها لا يقرأ إلا بإذن، وبعضها يقرأ مع الشيخ، وبعضها الآخر لا يقرؤه إلا ولي. ومن لم يعرف ذلك ويأخذه عن أهله، ظلم نفسه ووضعها في غير موضعها، ونادى على نفسه بالخسران.
ثانيًا: لأنه علم ذوقي، لا يعبر عنه بالعبارات، وما يكتبه المشايخ في كتبهم ليس إلا للتشويق لسلوك الطريق، الذي ينبغي أن يكون على يد أهله، ولهم فيه إشارات لا تكون إلا لمن يفهم عنهم، فمن رام الحديث فيه بل تقييمه وتقويمه، وإيراد محاسنه ومساويه – بزعمه – فلا بد أن يجتمع لديه ثلاثة أمور:
1. نال هذا العلم، وإلا تكلم بجهل.
2. ذاق هذا العلم على يد أهله؛ ليكون قد أتى الدار من بابها.
3. فاق أهله ليتمكن من الحكم عليهم وتقويم طريقهم.
أما غير ذلك – وهو الحاصل في الأغلب – فليس سوى عنوان على ثقافة العصر، التى جعلت أي إنسان يتحدث في أي شيء، وهو من غربة الدين، ولا قوة إلا بالله!

انظر وتأمل في فعل أهل البحث والإخلاص:

لما رام حجة الإسلام «الغزالي» فهم مذاهب الفلاسفة ظل سنوات ثلاث يقرأ كتبهم، فلما استوعبها ظل يتفكر فيها حتى حصل مقاصد مذاهبهم، وعرف أغراضهم من وراء ألفاظهم، ثم دونها ملخصًا لها في كتابه «مقاصد الفلاسفة»، ثم نظر في كتبهم على سبيل التقييم والتقويم، فألف «تهافت الفلاسفة»، ثم لخص حاصل علومهم في «المنقذ من الضلال». هكذا يكون العلم، وهذا فعل أهله: نقد بعد استيعاب، وطلب المقاصد والأغراض، قبل الرد والانتقاد.

فليعلم المنصف وطالب الحق ثلاثة أمور:


1. أن أهل التصوف أغير الناس على الدين، فلا يدعون بدعيًا إلا بينوا بدعته، ولا ضالًا إلا بينوا ضلالته، لا ينتظرون من يعدل عليهم، كيف لا وهم علماء الشريعة والحقيقة معًا.
2. أن إحسان الظن بالمسلمين واجب، وأن حمل عبارات أهل الإسلام على أحسن المحامل أوجب.
3. أن في كل طائفة من ينتسب لها زورًا، ولو كان من علامة الحق عدم انتساب أهل الزور، ما وجدنا حقًا يُتّبع!

فإن قيل: معنى هذا الكلام أن نغلق عقولنا عن الفهم، وأذهاننا عن السؤال والاستشكال، وهل هذا إلا القول بعصمة من ليس من أهل العصمة، وهل الكهنوت إلا هذا؟

أقول: هاهنا أصول، إن سلم بها السائل سهل عليه استيعاب المسألة.

الأصل الأول: إن لكل علم سبيل وطريق، ولكل مسألة منهجها، فسبيل معرفة اللون: النظر، لا اللمس. وسبيل معرفة النعومة: اللمس، لا النظر. وسبيل معرفة التاريخ: الخبر، لا الاستنباط العقلي، وسبيل معرفة المجردات: العقل السليم؛ فكذا سبيل معرفة الذوقيات: أن تتذوقها، أو يُخبرك من تُصَدّقه عنها، فتُسَلّم له. لا شيء غير ذلك، وإن صار الحمار قردًا يكلم الناس!

الأصل الثاني: إن لكل علم أهل، ومقتضى العقل السليم إن كنا من أهل الإنصاف، ومقتضى الدين إن كنا من أهل الدين، أن نرجع إليهم لقول الحق: «فاسألوا أهل الذكر»، فالرجوع إليهم واجب صناعي وواجب شرعي. فما نقوله هنا هو عين العقل والعلم والمعرفة، لمن أنصف. ولن ترهب الحاقَّ كلمة «كهنوت»، ما استبان له السبيل، وعرف الأصيل والدخيل.

فمن لم يعتبر مناهج العلوم، ولا نظر لأهلها نظر احترام، ولا جلس بين أيديهم جلسة متعلم لا ضيف، ثم رام بعد ذلك التعديل على أهل الفن والانتقاد لمذاهبهم وأقاويلهم، فقد ناقض مقتضى العقل وخرج عن حد الفهم، وكان من أهل الهوى والغرض، ونادى على نفسه بالسوء والمرض، وهذا من جملة البلاء. نسأل الله لنا ولأمثالهم الشفاء، وإنما دواء العي السؤال..

أحمد الدمنهوري

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق