آخر الأخبار

جاري التحميل ...

الإشارة في جرد معاني العبارة

الإشارة في جرد معاني العبارة

قال تعالى : {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا}.

أي: عن حقيقة الروح، الذي هو مدبر البدن الإنساني، ومبدأ حياته. رُوي أن اليهود قالوا لقريش: سلوه عن أصحاب الكهف، وعن ذي القرنين، وعن الروح، فإن أجاب عنها كلها أو سكت فليس بنبي، وإن أجاب عن بعض وسكت عن بعض فهو نبي. فبيَّن لهم القصتين وأبهم أمر الروح، وهو مبهم في التوراة، فقال: {قل الروح من أمر ربي}، أظهر في مقام الإضمار؛ إظهارًا لكمال الاعتناء بشرفه، أي: هو من جنس ما استأثر الله بعلمه من الأسرار الخفية، التي لا يكاد يحوم حولها عقولُ البشر. {وما أُوتيتم من العلم إِلا قليلاً} لا يمكن تعلقه بأمثال هذه الأسرار.

وقال ابن حجر: أخرج الطبراني عن ابن عباس أنهم قالوا: أخبرنا عن الروح، وكيف تُعذب الروح في الجسد، وإنما الروح من الله؟. اهـ. قلت: يُجاب بأنها لما برزت لعالم الشهادة لحقتها العبودية، وأحاطت به القهرية. وقال القشيري: أرادوا أن يُغالطُوه فيما به يجيب، فأمَرَه أن ينطق بأمرٍ يُفْصِحُ عن أقسامِ الروح، لأنَّ ما يُطْلَقُ عليه لفظ {الروح} يدخل تحت قوله: {قل الروح من أمر ربي}، ثم قال: وفي الجملة: الروح مخلوقة، والحق أجرى العادة بأن يخلق الحياة للعبد، ما دام الروح في جسده، والروح لطيفة تَقرب للكثافة في طهارتها ولطافتها. وهي مخلوقة قبل الأجساد بألوفٍ من السنين. وقيل: إن أدركها التكليف، كان للروح صفاء التسبيح، ضياء المواصلة، ويُمن التعريف بالحق. اهـ. وقيل: المراد بالروح خلق عظيم روحاني من أعظم الملائكة، وقيل جبريل عليه السلام، وقيل: القرآن. ومعنى {من أمر ربي}؛ من وحيه وكلامه، لا من كلام البشر. والله تعالى أعلم بمراده.

الإشارة


 قد أكثر الناسُ الكلام في شأن الروح، فرأى بعضهم أن الإمساك عنها أولى؛ لأن الرسول- عليه الصلاة والسلام- لم يجب عنها. وبيَّن الحق تعالى أنها من أمر الله وسر من أسراره. ورأى بعضهم أن النهي لم يرد عن الخوض فيها صريحًا، فتكلم على قدر فهمه.
فقال بعضهم: حقيقة الروح: جسم لطيف مشتبك بالبدن اشتباك الماء بالعود الأرطب، وقال صاحب (الرموز في فتح الكنوز) على حديث: «من عرف نفسه فقد عرف ربّه» قد ظهر لي من سر هذا الحديث ما يجب كشفه ويستحسن وصفه، وهو: أن الله، سبحانه، وضع هذا الروح في هذه الجثة الجثمانية، لطيفة لاهوتية، في كثيفة ناسوتية، دالة على وحدانيته تعالى وربانيته، ووجه الاستدلال من عشرة أوجه:

الأول: أن هذا الهيكل الإنساني لَمَّا كان مفتقرًا إلى محرك ومدبر، وهذا الروح هو الذي يدبره ويحركه، علمنا أن هذا العالم لا بد له من محرك ومدبر. 
الثاني: لَمَّا كان مدبر الجسد واحدًا؛ علمنا أن مدبر هذا العالم واحد لا شريك له في تدبيره وتقديره. قال تعالى {لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22]. 
الثالث: لَمَّا كان لا يتحرك هذا الجسم إلا بتحريك الروح وإرادته؛ علمنا أنه لا يتحرك بخير أو شر إلا بتحريك الله وقدرته وإرادته. 
الرابع: لَمَّا كان لا يتحرك في الجسد شيء إلا بعلم الروح وشعورها، لا يخفي على الروح من حركة الجسد شيء، علمنا أنه تعالى لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء. 
الخامس: لَمَّا كان هذا الجسد لم يكن فيه شيء أقرب إلى الروح من شيء؛ علمنا أنه تعالى قريب إلى كل شيء، ليس شيء أقرب إليه من شيء، ولا شيء أبعد إليه من شيء، لا بمعنى قرب المسافة؛ لأنه منزه عن ذلك. 
السادس: لَمَّا كان الروح موجودًا قبل الجسد، ويكون موجودًا بعد عدمه؛ علمنا أنه تعالى موجود قبل خلقه، ويكون موجودًا بعد عدمهم، ما زال، ولا يزال، وتقدس عن الزوال. 
السابع: لَمَّا كان الروح في الجسد لا تعرف له كيفية؛ علمنا أنه تعالى مقدس عن الكيفية. 
الثامن: لَمَّا كان الروح في الجسد لا تعرف له كيفية ولا أينية، بل الروح موجود في سائر الجسد، ما خلا منه شيء في الجسد. كذلك الحق سبحانه موجود في كل مكان، وتنزه عن المكان والزمان.
التاسع: لَمَّا كان الروح في الجسد لا يحس ولا يجس ولا يُمس، علمنا أنه تعالى منزه عن الحس والجس والمس. 
العاشر: لَمَّا كان الروح في الجسد لا يُدرك بالبصر، ولا يمثل بالصور، علمنا أنه تعالى لا تُدركه الأبصار، ولا يمثل بالصور والآثار، ولا يشبه بالشموس والأقمار، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السميع البصير} [الشورى: 11]. اهـ. وحديث: «من عرف نفسه...» إلخ، قال النووي: غير ثابت، وقال السمعاني: هو من كلام يحيى بن معاذ الرازي. والله تعالى أعلم.
وسئل أبو سعيد الخراز عن الروح، أمخلوقة هي؟ قال: نعم. ولولا ذلك لما أقرت بالربوبية حتى قالت: بلى.
قلت: لما انفصلت عن الأصل كستها أردية العبودية، فأقرت بالربوبية. وقال الورتجبي: الروح: شعاع الحقيقة، يختلف آثارها في الأجساد. قال: ومن خاصيتها أنها تميل إلى كل حسن ومستحسن، وكل صوت طيب، وكل رائحة طيبة؛ لحسن جوهرها وروح وجودها، ظاهرها غيب الله، وباطنها سر الله، مصورة بصورة آدم. فإذا أراد الله خلق آدمي أحضر روحه، فصور صورته بصورة الروح؛ فلذلك قال عليه الصلاة والسلام؛ إشارة وإبهامًا: «خلق الله آدم على صورته». اهـ. قلت: يعني: أن إظهار الروح من بحر الجبروت، في التجلي الأول، كان على صورة آدم، ثم خلق آدم على صورة الروح الأعظم، وهو التجلي الأول من بحر المعاني، فكانت أول التجليات من ذات الرحمن، فقال في حديث آخر: «إن الله خلق آدم على صورة الرحمن» والله تعالى أعلم. 

تفسير ابن عجيبة

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق الصوفية