آخر الأخبار

جاري التحميل ...

الإنسان الكامل في معرفة الأواخر والأوائل -26


الباب الخامس والعشرون في الكمال


اعلم أن كمال الله تعالى عبارة عن ماهيته وماهيته غير قابلة للإدراك والغاية فليس لكماله غاية ولا نهاية.
فهو سبحانه وتعالى يدرك ماهيته ويدرك أنها لا تدرك وأنها لا غاية لها في حقه وفي حق غيره، أعني
يدركها بعد أن يدركها أنها لا تدرك له ولا لغيره لما هي عليه ماهيته في نفسها.

وقولنا: يدرك ماهيته هو ما تستحقه لكمال الإحاطة وعدم الجهل، وقولنا يدركها أنها لا تدرك له ولا لغيره هو ما يستحقه من حيث كبرياؤه وعدم انتهائه، لأنه لا يدرك إلاَّ ما يتناهى وهو ليس له نهاية، فإدراك ما ليس له نهاية محال، وإدراكه حكم لاستحقاقه شمول العلم وعدم الجهل بنفسه لأنه قبلت ماهيته الإدراك بوجه من الوجوه فافهم.

فهذه مسألة شديدة الغموض فإياك أن تزلق فيها فإنها مقام الحيرة. في هذا المعنى قلت من قصيدة طويلة:

أأحطت خبراً مجملاً ومفصلاً ..... بجميع ذاتك يا جميع صفاته
أو جلَ وجهُك أن يحاطَ بكنهه ..... فأحطته أن لا يحاط بذاته
حاشاك من عايٍ وحاشاك أن تكن .... بك جاهلاً ويلاه من حيراته

ثم اعلم أن كماله سبحانه وتعالى لا يشبه كمال غيره، لأن كمال المخلوقات لِمعان موجودة في ذواتهم، وتلك المعاني مغايرة لذواتهم، وكماله سبحانه وتعالى بذاته لا بمعان زائدة عليه، تعالى الله عن ذلك، فكماله عين ذاته وبهذا صحّ له الفناء المطلق والكمال التام، فإنه سبحانه وتعالى ولو تعقلت له الصفات الكمالية فإنها ليست غيره لمعقوليته.
إن الكمال المستوعب له أمر ذاتي لا زائد على ذاته ولا مغاير له، وليس هو نفسه المعقولة وليس لسواه هذا الحكم، فإن كل موجود من الموجودات إذا وصفته بوصف اقتضى أن يكون وصف غيره، لأن المخلوق قائم للانقسام والتعدّد، واقتضى أن يكون وصفه غيره لأنه حكمه الذي ترتب عليه ذاته وحده الذي يترتب منه وجوده.
فقولنا: الإنسان حيوان ناطق، يقتضي أن تكون الحيوانية في نفسها ومعقوليتها مغايرة للإنسان والنطق في نفسه مغاير لكل من الإنسان والحيوانية، واقتضي أيضا أن تكون الحيوانية، والنطقية عين الانسان لأنه تركب منها، فلا وجود له الا بهما فلا يكون مغايرا لهما، فيكون وصف المخلوق غير ذاته من وجه الانقسام وعين ذاته من وجه التركيب فليس الأمر في الحق كذلك لأن الانقسام والتركيب محال في حقه.
فان صفاته لا يقال أنها ليست عينه وليست غير ذاته إلا من حيث ما نعقله نحن من تعدد الأوصاف وتضاددها ، وهي أعني صفاته عين ذاته من حيث ماهيته وهويته التي هو عليها في نفسه ، ولا يقال أنها ليست عينه فيتميز عن حكم المخلوق فإن المخلوق صفته لا غير ذاته ولا عينها، وليس هذا الحكم في الحق إلا علي سبيل المجاز.

وهذه المسألة قد أخطأ فيها أكثر المتكلمين، وقد أوردها الإمام محيى الدين ابن عربي موافقا لما قلناه، لكن
لا من هذه الجملة ولا بهذه العبارة بل بعبارة أخرى ومعنى آخر، لكنه يخطىء فيها أكثر المتكلمين الذين قالوا: إن صفات الحق ليست عينه ولا غيره، وذكر أن هذا الكلام غير سائغ في نفسه

وأما نحن فقد أعطانا الكشف الإلهي أن صفاته عين ذاته، ولكن لا باعتبار تعدّدها ولا باعتبار عدد التعدّد، بل شاهدت أمراً يضرب عنه في المثل، ولله المثل الأعلى : نقطة هي نفس معقولية الكمالات المستوعبة الجامعة لكل جمال وجلال وكمال على النمط اللائق بالمرتبة الإلهية، وهي أعني الكمالات، مستهلكة في وجود النقطة، والنقطة مستهلكة في وجود الكمالات، وهي أعني المعبر عنها بالنقطة والكمالات في أحد يتعقل فيها عدم الانتهاء ويستحيل عليها أولية الابتداء

وثم أمور أغمض وأدقّ وأعزّ وأجلّ من أن يمكن التعبير عنها، فكان ما كان مما لست أذكره، وظن خيراً ولا تسأل عن الخبر، على أن هذا المثال لا يليق بذات المتعال، لأن المثال في نفسه مخلوق فهو على غير المضروب به المثل، لأن الحق قديم والخلق حديث، والعبارة الفهوانية لا تحمل المعاني الذوقية إلاَّ لمن سبقه الذوقفهي مطية له ولأنها  تطيق أن يحمل الأمر على ما هو عليه، ولكنها لا تأخذ منه إلا طرفاً.
فمن كان يعقوب الحزن جلا عن بصره العمى بطرح البشير إليه قميص يوسف، ومن لم يكن له ذوق سابق فلا يكاد يقع على المطلوب، اللهم إلاَّ أن يكون ذا إيمان وتصديق وترك ما عنده وأخذ ما يلقي إليه الحق من التحقيق، فهو المشار إليه "من ألقى السمع وهو شهيد" يعني شهد بالإيمان ما يقال له حتى كأنه مشهود له عياناً لقوّة الإيمان. فالأول هو الكاشف وهو الذي كل قلب . قال الله تعالي : "إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ". 

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق الصوفية