آخر الأخبار

جاري التحميل ...

الخلوة عند السادة الصوفية {إطلالة من السيرة النبوية}.

الخلوة عند السادة الصوفية {إطلالة من السيرة النبوية}.

من غار حراء انبثق النور، وأطل الفجر، وانطلقت اللمعة الأولى في نور التصوف الإسلامي، وكان أول مااهتدى إليه النبي صلى الله عليه وسلم في بدء أمره، أن يخلو بغار حراء يتعبد فيه الليالي ذواتي العدد، فحبب ذلك إليه؛ إلى أن جاءه الوحي وهو في إحدى خلواته تلك، متدبرا ومتفكرا في الكون المبسوط أمامه قبل أن ينزع إلى أهله.

ليست الخلوة ابتداعا صوفيا محضا، وإنما هي سنة قائمة منذ القدم، دأب عليها جميع غفير من الصالحين نظرا لتأقيرها في النفوس المرضية، حيث وجدوا فيها ملذهم الآمن وشوقهم إلى مناجاة لربهم، فتحققوا بحقائق القرب؛ واتسموا بصفات العباد الخاضعين لجلال الله تعالى، حيث لم يجدوا سبيلا آمنا يعبدون فيهم ربهم، ويتعرفون إليه معرفة تمكنهم من الرقي لأسمى الدرجات، فيطرحوا الذنوب والخطايا في مكان لايعشو اليه غيرهم، تاركين ملذات الدنيا وشهواتها الفانية وراءهم لاينظرون إليها طرف عين.

 إن للنفس الإنسانية آفات لايقطع شرتها إلا دواء العزلة عن الناس؛ ومحاسبتها  في نجوة من ضجيج الدنيا ومظاهرها، فالكبر والعجب والحسد والرياء وحب الدنيا...وغيرها؛ كل ذلك آفات من شأنها أن تتحكم في النفس وتتغلغل إلى أعماق القلب، وتعمل عملها التمهيدي في السيطرة على باطن الإنسان؛ على الرغم مما قد يتحلى به ظاهره من الأعمال الصالحة والعبادات المبرورة؛ قصد نيل طاعة الله تعالى في العاجل والآجل معا.

تعتبر الخلوة عند الصوفية تصور اسلامي محض؛ ذلك أن أصلها هو استحباب الإعتكاف، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يختلي في غار حراء؛ وسيدنا موسى عليه السلام في جبل الطور؛ ومريم العذراء في المحراب، وهي في حد ذاتها شبيهة بالرهبانية عند المسيحيين؛ فالانقطاع عن الدنيا وشهواتها وملذاتها؛ لفترة كبيرة أو قصيرة؛ جعلت هذا التشابه يظهر بصورة كبيرة في كافة التصرفات التي يمارسها الصوفية في كل بقاع الأرض، كما أن الخلوة تحول المتصوف من مسلم عادي إلى عبد رباني؛ عملا بالحديث الشريف الذي يقول:"ومازال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، وقدمه التي يمشي بها، وإذا سألني لأعطيته، وإذا استغفرني لأغفرن له، وإذا استعاذني أعذته".

فالخلوة عند الصوفية لها قواعد وأصول، لاتختلف كثيرا عن "الرهبنة" في المسيحية، فالإثنين هدفهم واحد، وهو العمل على طاعة الله والبعد عن شهوات وملذات الدنيا، وتربية محبة الله عز وجل في القلب، لأن هذه الطاعة والمحبة لاتأتي من مجرد الإيمان العقلي به، فالأمور العقلانية وحدها ماكانت يوما لتؤثر في العواطف والقلوب، ولو كان كذلك، لكان المستشرقون في مقدمة المؤمنين بالله ورسوله، ولكانت أفئدتهم من أشد الأفئدة حبا لله ورسوله، وإنما الوسيلة إلى محبة الله - بعد الإيمان به - كثرة التفكر في الائه ونعمه والتأمل في مدى جلاله وعظمته، ثم الإكثار من ذكره سبحانه وتعالى بالقلب واللسان، وإنما يتم كل ذلك بالعزلة والخلوة والابتعاد عن شواغل الدنيا وضوضائها في فترات متقطعة من  الزمن.

فإذا قام المسلم بذلك وتهيأ له أداء هذه الوظيفة، نبتت له من ذلك في قلبه محبة الهية عارمة، تجعله يستصغر كل عظيم، ويحتقر كل مغرية من المغريات، لأنه يرى أن كل شواغل الدنيا لاتعني له شيئا مقارنة مع محبة الله، فهذه هي العدة الكبرى التي ينبغي أن يتسلح بها الدعاة إلى الله، وتلك هي العدة التي جهز الله بها نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بأعباء الدعوة الإسلامية.

ذلك أن الدوافع الوجدانية التي تنتجها الخلوة في القلب من خوف ومحبة ورجاء تفعل مالايفعله الفهم العقلي المجرد، لأن العقل البشري إنما ينصب تفكيره على الأمور السطحية التي تعالج بمنطق شخصي غير خاضع لأصول الإسلام العامة، ونجد هذا حاضرا عند الامام الشاطبي رحمه الله حينما فرق في هذه الدوافع بين عامة المسلمين الذين دخلوا في ربقة التكاليف بدافع من من عموم إسلامهم، وخواصهم الذين دخلوا في ربقة هذه التكاليف يسوقهم ماهو أشد من مجرد التعقل والفهم، يقول: فالضرب الأول : حاله كحال من يعمل بحكم عهد الإسلام وعقد الإيمان من غير زائد، والثاني :  حاله حال من يعمل بحكم غلبة الخوف والرجاء أو المحبة، فالخوف سوط سائق؛ والرجاء حاد قائد؛ والمحبة تيار حامل، فالخائف يعمل مع وجود المشقة، غير أن الخوف مما هو أشق يحمل على الصبر على ماهو أهون وإن كان شاقا، والراجي يعمل مع وجود المشقة أيضا، غير أن الرجاء في تمام الراحة يحمل على الصبر على تمام التعب، والمحب يعمل ببذل المجهود شوقا ألى المحبوب، فيسهل عليه الصعب ويقرب عليه البعيد، وفنى القوى ولا يرى أنه أوفى بعهد المحبة ولا قام بشكر النعمة.

بيد أنه لاينبغي أن يفهم معنى الخلوة كما شذَّ البعض ففهموها حسب شذوذهم، وهو الانصراف الكلي عن الناس واتخاذ الكهوف والجبال والصلوات والبيع موطنا واعتبار ذلك فضيلة بحد ذاتها.
 فذلك مخالف لهديه صلى الله عليه وسلم ولما كان عليه عامة اصحابه، وإنما المراد هو استحباب اتخاذ الخلوة دواء لإصلاح الحال كما تقدم ذكره، والدواء لاينبغي أن يؤخذ إلا بقدر، وعند اللزوم، وإلا انقلب إلى داء ينبغي التوقي منه، وإذا رأيت في تراجم الصالحين من استمر على الخلوة وابتعد عن الناس، فمرد ذلك إلى حال خاصة به، وليس عمله حجة على الناس.

**  **  **
بقلم: هشام نوزري
 طالب بكلية الشريعة فاس. 
تخصص: الدراسات الشرعية.



التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق الصوفية