آخر الأخبار

random
جاري التحميل ...

العارف بالله الذي نحتاج إليه

ظهَر التصُّوف إبَان القرن الثالث هِجْري كسُلوك يَختصُ بهِ فئة مُعيَّنة مِن الصَالحين لدَعوة الناس إلى الإخلاص فِي العبادة وترْكِ التعَّلق بالمَظاهر الفتانـَّة و الانغمَاس في تحْصِيل مَتاع الدنيا الفـَانية وزينتهَا الزَّائلة، ثم بعد ذلك تطورَ التصوف فِي العَصر الرَّاشدي إلى العَصر الأمَوي، وفي العَصر العبَّاسي إبَان الفتوحَات الإسلامية، برزَ التصَوُّف في المجتمعَات الإسلامية بقوةٍ كتوجُّه دِيني لهُ مَرجعيته الدينيَة الخاصة بحَيْثُ شكـَّل وَسيلة فعَّالة في الأخذ بيَدِ الناس إلى النـَّهج السَّليم والطـَّريق القـَّويم الذي يَقومُ على الإخلاص في عُبوديَةِ الوَاحد الأحَد، بَعدما تهَافت المُسلمون كغيرهم من الأمم السابقة على الدنيَا بعدَ الرَّفاه الاقتصادي والترَف الحضَاري الذي نتج عَبر فتح المُسلمين لبلادٍ أخرَى.. عَلاوة عَلى ظهُور تيَّارَاتٍ فكرية ودينية وسياسيَة تأثرَت بالفلسفةِ اليُونانية والثقافات الهندية والفارسيَّة عَجَّلت بانشقاق الأمة الإسلاميَّة إلى فـِـرَق دينية تتقاتلُ في سَاحَةِ الوَغى و مَدارس كلامية تتناظرُ فِي المَسَاجَد فِي أمُور الدِّين والعقيدَة والقرآن والسُنـَّة، مِن هنا ظهرت الفرق الصُّوفية من أجل سَدِّ هَذا الفرَاغ الرُوحِي وإعَادَةِ خلق مُجتمع مُسلم مُتخلق ومُتصوِّف بعيدًا عن الصِّرَاعَات السياسية تحتَ الغِطاء الدِّيني.

فقد كانَ للصوفية دَورٌ فعَّالٌ في هِدَاية الناس من الضلال وانتشَالِهم مِن مَلذات الحَيَاة الدنيا، فظهَرَ مِنهم زُهَّادٌ وَوُعَّاظ ٌ وعُلماء أجلاء مِن أمثال: (جلال الدين السيوطي)..(حسن البصري)..(الإمام النووي).. (ابن حجر العسقلاني).. (أبو القاسم القشيري)..(ابن عطاء الله السكندري)..(الفضيل بن عياض)..(أحمد ابن عجيبة).. (أبو حامد الغزالي)..(أبو القاسم الجنيد)…

ومنهُ فلا يُمكن الحَديث عَن التصَوُّف دُون الحديث عَن الشيخ أو العَارف بالله الذي يَأخذ بيَدِ المُريد، ويبصِّرُهُ بعَللهِ النفسيةِ وأمرَاضِهِ القلبية ويُعينُهُ على استئصَالهَا وَتزكية نفسِهِ وتحْليَتِهَا وتخليصِهَا مِن مُختلفِ الشَّوَائِب. فمَهمَّة العَارفِ بالله إذن تجَاه المُريدِ تتلخَّصُ فِي شقينْ اثنيْــن جَوْهَريَّيْن:

تعْريفُ المُريد بنفسه : فالعَارف بالله، باعتبَارهِ خَبيرًا بأمرَاض القلب الخفيَّة، يُعرِّفُ المُريدَ بتلكَ الأمرَاض ويَحُثه على مُجَاهَدَتهَا مَعَ تقديم الوصَفة الصِّحيَّة الرُوحَانيَّة للمَريض من أذكـَار وأورَادٍ وأدعِيَةٍ وقراءة القرآن ولزُومُُ مَجَالس الذكر الجَمَاعِية والخلوَات وحَلقـَات اللطِيف.. التي تعينه على الشفـَاءِ وتنوِّرُ قلبهُ و تأنس رُوحَه ُوتعدُّهُ لتلقِي الإشراقاتِ الإلهيّة والفيوضَات الرَّبَّانيّة والأنوَار الرَّحْمَانية والأخلاق المُسَدّدة التي يَستمدهَا المُريدُ عَبر مَراقبة شَيخه وأحْوَاله وأفعَالِهِ، وهَذِهِ المَرحلة تسمَّى لدَى الصُّوفيّة بالمُجاهدة وتقومُ على مَراحَل من بينها (التخليَة) و(التحْلية) و(التخـَلق) و(التحَقق).

تعريفهُ بالله تعَالى : لا يُمكن الحَدِيث عَن المَعرفة الإلهيّة التِي لابد في ارتقاء سُبُلهَا مِن ترَقي المُريد في مَقامَات المُجاهَدة والتي تختلف من عَارفٍ لأخَـر. فأولُ مَقام عِند حُجَّة الإسلام (أبُو حَامد الغزَالي) الذي أوردَهُ فِي مُؤلفهِ (إحياءُ عُلوم الدِّين) التوبَة وبعدَهَا الزُّهد فالفـَقــر..أمَا عِندَ (سراج الدِّين الطـُّوسي) فتبدأ بالتوبَة ثمَّ الورع فالزُّهد فالفقـْـر..ويُعتبر الرضَا مِن أهَم المَقامَات عِندَ الصُّوفية لأنه أيضًا حَسَب فقهاءِ العَقيدة مِن شُروطِ الإيمَان وهو أن يَرضَى المرءُ بالقضَاء خيرهِ وشرِّهِ.

فمعرفة الله كمَا سَبَق، تقتضِي فِي البداية مَعرفة النفس، قالَ تعَالى:

وَفِي الأرْض آيَاتٌ للمُوقِنِين وفِي أنفُسِكم أفلا تبصِرُون

فالنفس الإنسانية سَبيلٌ إلى مَعرفة الله، ومن لا يَعرفُ نفسَهُ لا يعرف ربه كما قال النبي الكريم، والمَقصُودُ من مَعرفةِ النفس ليس مَعرفة الأحوال المِزَاجية والاضطرَابَاتِ الشُّعُوريّة والتقلبات النفسيّة السَّلبيَّة مِن غضَبٍ وحَسَدٍ وغلٍّ وكذِبٍ…، بَل معرفة السُّبُل التي يُستشفى عَن طريقهَا مِن كل هذه الأمراض، ولذلك كان الجهَادُ الأكبَرُ هُو جهَاد النفس كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، في غَزْوَة تبُوك في حَدِيثٍ رَوَاهُ البَيهقي.

عُدنـَا مِن الجهاد الأصْغَر إلى الجهَاد الأكبَر” قالــُوا: ومَا الجهَادُ الأكبَرُ؟ قالَ : جهَادُ القـَـلب

فالجهَاد الأكبرُ الذِي هُو التربية الرُّوحيَّة والتزكية القلبيَّة والمُجاهدة النفسيَّة لمُختلف الشوَائِب الظاهِرَة و البَاطنة، تتمُّ عَن طريقة مَعرفة النفس وكلما ارتقى الإنسان في مَعرفة نفسه، مَعرفة نقائصِهَا وأزمَاتهَا وبَادَرَ إلى علاجها عَبر التقرب إلى الله والإخلاص في عِبَادَتِه، كلمَا ارتقـَى المُريدُ في مَدَارج الصَّفاء ومَرَاتِب المَعرفة، ولذلك كانت مَرَاتبُ الصُّوفية مُتباينة، فهناك الغوثُ والقطب والوَليُّ والبَدَلُ والصَّالحُ والوليُّ..لكن السُّؤَال الذي نطرحه في هَذا المَقام، مَن هُو العَارفُ بالله الذي نحتـَاجُ إليه؟

العَارف بالله حَسَب الأستاذ (أبو عَلي الدقـَـاق) من يَمتلكُ المَعرفة بالله، التي تحصُلُ بالهَيبَة من الله، وقال أحدُ العَارفين حين سُألَ عَن صِفاتِ العَارف بالله فأجَاب:

” العارفُ بالله كلمَا ازدَادَتْ مَعْــرفتهُ ازدَادَتْ هَيـــبتـُـه “

وقال ذون النون المِصْري عَن صِفات العَارف : “مُعَاشرَة العَارف كمعاشرة الله تعَالى، يَحتمِلكَ ويحْلمُ عَنك، تخلقـًا بأخلاق الله” وفي هَذا المعنى إشارَة إلى الحَدِيثِ النبويّ الشريف :

تَخَلَّقُوا بِأَخْلَاقِ الله، إِنَّ رَبِّي عَلى صِرَاطٍ مُستقيم

فالعَارفُ هُو أكثر الناس تخلقا بأخَلاق الله، التي هِيَ الرَّحمَة والعَدلُ واللطفُ والصَّفحُ والإحسانُ والعطاء والعَفوُ.. وغيرها من أسماء الله الحسنى وصفاته، والحديث لا يُرَادُ بهِ التشبه بالله وإنمَا التشبهُ ببعض صِفاته التِي وَرَدت في القرآن الكريم وأخبرَ بهَا النبي الكريم صَلوَاتُ ربِّي وسَلامُهُ عَليه.

وأمَّا بخصوص رَأي سَيد الطائفة مُقدم القوم (أبُو القاسم الجُنيْد) فهو يقول بأن العَارفُ لا يَكون عارفـًا حتى يكونَ كالأرض يَطؤهُ البَرُّ والفـَاجرُ وكالسَّحَاب يُظلُ كلَّ شيءٍ، وكالمَطر يَسْقِي ما يُحبُّ ومَا لا يُحِبّ.

و بخصُوص الصُّوفي (أبا يوسف بن علي) فيقول: “لا يكونُ العَارفُ عارفـًا حقـًّا حتى لو أعطي مِثل مُلكِ سُليمان عليه السلام، لم يُشغله عَن الله طرفة عَين.

فالعارف بالله عند أهل التصَوُّف ضَرُوري وبدونه لا يُمكن سلوك الطريق وتجاوز عَقباته، والحَقيقة أننا نحتاجُ إلى عَارف بالله أو بالأحرى إلى عارفين مُصْلحِين أكثر مِن أي زمَان مَضى في ظل العَولمَة العمياء التي جردت الإنسان من إنسانيته ومن أخلاقه وقيمِهِ وصَيَّرَت منهُ ثورًا جَامحًا وراء كلّ المَاديَات..

فبالإضافة إلى أننا نحْتاجُ إلى من يُلقننا عُلوم الدِّين وعُلوم التفسير والفقه وقيم الإسلام السَّمحَة، قيمَ العَدل والتسامُح والوسَطيّة، نحْتاجُ إلى من يُعَلمنـًا فقه التزكية الرُّوحيّة والتربية السلوكيّة، وهؤلاء ليسُوا سِوَى العَارفين بالله الذين أفنوْا حَياتهم في التعَبُّدِ وأعمَارَهُم في التقرب إلى الله.

غير أن العَارف الذي نحْتاجُه في هَذا العصر ليسَ أيَّ عَارفٍ وليسَ أي شيخ يدَّعِي الحَال والكرَامَة والفراسة والسِّر المَورُوث.. فنحنُ لا حَاجَة لنا بالحقائــق كما قال (سيدِي حَمزة بن العبَاس القادري بودشيش):

” إن العَصر الحَالي هُو عَصر إصْلاح الخـَلائق، وليس إطلاقَ الحَقائـق ” فمَا قيمة إطلاق الحَقائق في مُجتمع جَاهل أميٍّ لا يَعلمَ حَتى المَعلومَ مِن الدِّين بالضَّرُورَة ؟ !

فالعَقل الجَمعي العَامِّي لا يَسْتسيغُ الحَقائــق الصُّوفية ودَائمًا ما يقابلهَا بالهَرطقة والزَّندقة والكفـْر والشِّرك، لكنه في المُقابل يَستسيغ التصَوّف في شقهِ المُعتدل الذي لا يُناقض القرآن والسُّنة، ولا يجعل من الشيخ نسخة لله على الأرض، يُعبدُ ويُقدَّسُ ويُستغاثُ بهِ مِن غير الله، فمثل هذه الأمورُ لا تجوز، ولا يطيقهَا عَقلُ مُسلم وَاع بأحكام وفقهِ الشَّريعة الإسلامية، وبالتالي وَجب تبسيط التصوُّف وتحبيبهُ إلى الناس، وتنقيته مِن مُختلف البدَع والشبَهِ والضَلالات والشَّطحَات التي لا تجبرُ أمَّة أو تـعْلي حَضَارة، بل بالعكس تسيءُ إلى الدِّين وتجعَلُ مِنه فلكلورًا شعبيًا أشبه بفـُلكلور (بَنـَاديَانِي) الدِّيني عند الهُنود.

نحتاج إلى عَارف مُصلح يَشحَذ عَزائِمَ الأمَة، وَيُقوي قلوبهَا ويُزكي أخلاقهَا ويحثها على طلبِ العَلم والابتكـَار التقنِي والاخترَاع التكنولوجِي عارف يساهم في نهضَة الأمَّة مِن أجل بنـَاء الصَّرح الحَضَاري والإشعَاعي.. لا إلى عَارف يَدَّعي التصَوف ويدَّعِي امتلاك السِّر النبوي والنسَب الشَّريف والفتحَ الرَّبَانِيّ وَهمُّه الوحيد يكمنُ في حِيازَة المال والتكسُّب وَجَمع الثروَة وشراءُ شقق فِي ضَواحِي بَاريس و كـَليفورنيـَـا..

العَارفُ بالله الذِي نحتاج إليه هُو عَارف غلبَ حُبه لله ولفعل الخيْر، حُبَّهُ للدُّنيا والسِّياسَة والظهور وتجَاوز مَن هُو أكثر مِنه أتباعًا و مُريدِين.

العَارف بالله الذِي نحتاج إليه هُو عَارفٌ لا يُعلمنا تقديسَهُ والسُّجُود إليه والتبرُّكِ بمَاءِ وُضُوءِهِ وشرَاشِفِ سَريرهِ.. بَل هُو عَارفٌ يُعلمنا ويشدُّ بأيدينا إلى توحيدِ و تقديس الله الوَاحِد الأحَد ومَعرفتهِ حَق مَعرفته.

العارف بالله الذي نحتاج إليه هو عَارف يعترفُ أنهُ يُخطئ ويُصيبُ كما هو الحَالُ عِندَ جَميع الناس لا إلى عَارفٍ يُضفي على نفسِهِ طابَع العِصمَة مِن الخـَطأ..

العَارف الذي نحتاجُ إليه هُو الذي يُعلمنا حُبَّ الإنسَانيّة والعَمل على الطاعَة وطلب العِلم والمَعرفة ويُعيننـَا على الاستقامة وعَلى إبدَاءِ النُّصح للمُسْلمين وعَامتهم برُؤسائِهم ومَرؤوسِيهم ، بحُكـَّامِهم ومَحْكوميهم..لا إلى عَارفٍ شغلهُ الشـَّاغل أنْ يَحُوز رضَا الحَاكم طلبـًا لحظوَةٍ مَاديّة أو مَنزلة دُنيويَّة.

**   **   **
اضغط هنا لقراءة الموضوع من المصدر

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق