آخر الأخبار

random
جاري التحميل ...

الخطاب الرّوحي في الأدب الصوفي -50

الخطاب الرّوحي في الأدب الصوفي -50
تعد التجربة الصوفية الوجدانية عدولاً معرفياً عن قوام النظام العرفي الظاهر في مختلف مجالات الحياة والمعرفة والكون ككل، وفي هذا الشأن يقول سحر سامي إنّها "صدام من المسلمات وتواصل مع المطلق.

- يتميز الشعر الوجداني الصوفي بقوة الوجد وحدته، ويطفح عن ذلك لغة تفجيرية، متمثلة في رموز، وإيحاءات يُنفس بها الصوفي عن مكنون ذوقه الوجداني، وقد يهيج الوجدان فتصبح تلك اللغة طلسم يصعب تفسيرها إلا من أهل الذوق والعرفان.

- يتميز الوجد الصوفي بالحركة والسكون، فالصوفي ينفعل دون أن يكون لحركاته وسكناته معنى يُقهره العقل أو المنطق، فيكون عندئذ ما لا ينقال حافزاً لأن يتأطر ضمن ما ينقال"، وفي هذه اللحظة الوجدانية يضمحل الصوفي بالمطلق وتذوب أناه في الآخر في عملية اتصال وتواصل معرفي في أقصى درجاته إلى حد يصبح فيه العالم هو عي المعلوم ،والعارف عين المعرفة، قال الطوسي في اللمع : قال الشيخ رحمه الله  قال أبو سعيد بن الأعرابي رحمه الله في كتابه في الوجد، إن سأل سائلًا فقال: أيهما أفضل وأتم، الحركة في الوجد أم السكون فيه؟ وقد قال قوم: إن السكون والتمكن أفضل وأعلى من الحركة والانزعاج ، وتلك أحوال وأذواق تعتري أهل السلوك والتسليم فيها أفضل.

- إن لغة التواصل العادية تصل إلى حدها عندما يتحرك الوجدان الصوفي في أعلى درجاته فتنطق لغة أخرى تؤدي المعاني المختلفة التي يحسها الصوفي خلل تجربة خاصة، وخاصة لغة الإشارة الحركية، لأنّها تتم خارج حدود اللغة الدلالية للغة المنطوقة أو المكتوبة، مثل الموسيقى والرقص والدف المرافق للأذكار في بعض الأحيان.

- يتميز بصدق العاطفة وتدفقها، واتخذ الشاعر الصوفي من شعره وسيلة للتنفيس عن هاته العواطف المتفجرة عن حبه لمعشوقه (الله،) فنظمه لنفسه، وهي عواطف في لغتها بعيدة عن لغة التفكير العقلي، وليست متزنة في معانيها وصورها اتزان المفكر العاقل، يقول ابن عربي ملتمساً العذر بما يصدر عنهم من أقوال وكلام : وللمحبة لسان معذور لأنه مقهور بحاله.

- للشاعر الصوفي خصوصية في وجدانياته عندما يُصور الأشياء ويفسرها، فهو يؤول ما يشاهده تأويلًا صوفيا، ينسجم مع نزعته الروحية، وما الشعر إلا ترجمة لتلك الغاية الأولية (المعرفة بالله) ، يقول مصطفى حلمي : فنفس الشاعر الصوفي تتأثر بما حولها تأثراً يختلف عن تأثر النفس العادية، وإذا فهي تفهمه فهما خاصا وتأوله تأويلًا رمزيا، تخرج منه معنى ملائماً للأفكار التي تسيطر عليها، والخطرات التي تتردد فيها، ثم هي تعبر عن مبلغ تأثرها بهذا المعنى، وعن ملائتمها لهذه الأفكار والخطرات، تعبيراً يدل على ما يُعرض لها من وجد وغيبة ودهشة وإطراب، ومن رؤية الأشياء بغير العين التي ترى، وسماعها بغير الأذن التي تسمع، وفهمها بغير العقل الذي يدرك"،فالشاعر الصوفي الوجداني يرى بعين الصوفي الموجودات ومظاهر الكون انعكاساً لجمال الله وذاته، قال ابن الفارض :

تراه إِن غاب عن كلِّ جارحة *** في كلِّ معنى رائِقِ بَهِجِ
فِي نغمة العُود والناي الرخيم إذ *** تألف ابيت ألحان مِن الهزِج
وفي مساقط أنداء الغمام على *** بساط نُور مِن الأزهار منتسج
وفي مساحب أذيال النسيم إذا *** أهدى إلى سحيرا أطيب الأرِج

- تميز الشعر الوجداني في جانب التصوير الفني بالإغراء والمبالغة في توليد المعنى، ومن ثَمَّ "تعد الصوفية على صعيد الصورة التشبيهية ثورة، لأن الصوفية لم تأبه للشرط الجمالي (المقدس) الذي وضعه النقد القديم، وهو صحة المعنى والمقاربة في التشبيه، بل اخترعت شرطيها الفنيين الجديدين، وهما : الاستعارة والتخييل، فعليهما تتأسس التجربة الصوفية، ومنهما تستمهد قيمة فنية كبرى قوامها نشاط جمالي مميز يعتمد على المبالغة والإغراء والغرابة في خلق المعنى".

- لم يتقيد شعراء الوجدان الصوفي بالقواعد النمطية للقصيدة العربية التقليدية من أوزان وقواف، وما اختراعهم للزجل وفن التوشيحات إلا دلالة على توقهم المستمهرلإيجاد ميادين جديدة تُشبع لذتهم الفنية شكلً ومضموناً، ويحقق شاعريتهم تلك الشاعرية لا تقف عند حدود الظاهر من بناء النص الأدبي، وإنما تتجاوز ذلك إلى ما وراء النص وما يمكن اعتباره ضمنيا يتكشف من اللغة الإشارية، وفي هذا الصدد جاء في كتاب علم البيان بين النظرية والأصول أنه بقدر ما يكون الانحراف أوسع يكون النص أشعر، وبقدر ما يكون الانحراف أقل يكون النص أبعد عن الشعر، وعليه فالشاعر الصوفي حاد شعره عن سلطة العروض محاولاً من ذلك تفجير تلك الطاقة اللغوية الدلالية الحاملة لتجربته في مجال سفره الروحي والتجليات والأذواق، واللطائف والمكاشفة، وفي هذا السياق تقر الدراسات الشعرية الحديثة أن تحديد الشعر بالوزن تحديدا خارجيا سطحيا، وقد يُناقض الشعر، إنه تحديد للنظم لا للشعر، فليس كل كلام موزون مقفى شعراً بالضرورة، وليس كل نثر خالياً بالضرورة من الشعر.

فالشعر الصوفي أعظم من رتابة القواعد المعيارية، وقيمته في مدى الاقتراب من عين الكمال المعرفي، الذي لا يُقاس بالقواعد العروضية واللغوية الأخرى، ومدى الالتزام بمقولاتها، ومن العسف محاكمة خطاب القلب والروح بمعيار المنطق والعقل، لأن اللغة في هذه الخطابات الشعرية الوجدانية فكت الارتباط بنظامها التواضعي، وارتباطها القواعدي، فتختل العلقة بي المسند والمسند إليه من جهة، وتختل العلاقة بين الدال والمدلول من جهة ثانية، وبذلك تغيب شفرة الخطاب.

إن المتصوفة في شعرهم الوجداني حاولوا كسر الحواجز في العديد من مناحي المعرفة والدين والحياة، وأسسوا أفقاً جديداً، مشحوناً بالرموز والإشارات، لتلك الأذواق واللطائف والمعارف وأسهموا في توسيع فضاءات اللغة ومجالاتها الأسلوبية والتعبيرية، فجمال الأسلوب لم يكن عندهم في التنميق فحسب، وإنما في الابتكار والجدة وصدق التجربة، بما يوطد حضور النهص الشعري في الوجدان، بين الباث والمتلقي، ويُؤسس المعرفة بالخالق؛ واجد الوجود وُمبدعه.

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق