الخطاب الرّوحي في الأدب الصوفي "قصائد الوجد لمحيي الدّين بن عربي نموذجاً"
مقدمة :
المفاهيم بنبيئتها. مقولة وجودية كونية معرفية فلسفية فكرية دينية لغوية، تظل تسير مع عالم الوجود المطلق من جهة والوجود الإنساني من جهة أخرى. وهي إذ تسير مع هذين الوجودين فإنها تعطي لكل منهما ذلكم المقام الرّوحي الجسدي الذي يتحرك فيه كل من التصور القائم في عالم الوجود المطلق مع الوجود الإنساني.
لكن لسائل أن يسأل إذا كان كل من الوجود المطلق والوجود الإنساني فيه من الأسرار الربانية التي تربو عن عالم المعرفة؛ فكيف تستطيع المفاهيم أن تتعامل مع هذا العالم الذي يسير مع المطلق لا التقييد؟ والجواب على هذا السؤال هو في الأصل قد أجابت عنه إشكالية البحث من بعض الجهات. غير أنّنا نريد أن نبيِّن حقيقة لعلّها تعطي للسؤال شرعيّته من جهة ما يتماشى مع طبيعة المفاهيم؛ تصورا ومنهجا ومقصدا.
واللّافت للنّظر في الميزة الّتي ينماز بها المفهوم هي تلكم الشمولية الاستغراقية التي تستغرق الزمان والمكان وفق حركية عالم المعرفة من بابها الواسع؛ الأمر الذي جعل من هذه الشمولية أن يظل المفهوم شأنه شأن الزئبق لا يستقر على حال ولا يسير وفق شاكلة واحدة. إنّ هذه الشمولية هي التي جعلت كثيرا من الحقول المعرفية تنماز بكثير من التّخريجات في شأن القضايا والظّواهر التي تتوقف عندها، فاختلفت الحقول المعرفية والدراسات الفكرية والفلسفية والدينية وهلم جرا بسبب تلكم الشّمولية الواسعة غير المقيّدة في ذاتية المفاهيم.
ثمّ أبعد من ذلك أنّ جلّ المهتمين في مجال المصطلحية في الدرس اللساني يقرون بشرعية المفهوم تبعا لهذه الشمولية الاستغراقية التي تحدوه من كل مكان، وهي :
الصّفة التي لا يشترك فيها معه ما سمِّي : المصطلح الذي دلالته ومحدوديته لا تتجاوز شرط الاتفاق والتّواضع ، وهي صفة لربّما لا يقر بها المفهوم البتّة؛ لأ نّ الشمولية متى قيّدت وحوصرت بضوابط ومقاييس معينة راحت مصداقية المفهوم تنصاع إلى سياق وجودي معرفي لا يتماشى مع طبيعة الّسر القائم في عالم المفاهيم، وعليه كانت المصطلحات تختلف باختلاف البلاد والأمصار نتيجة اختلاف مفهوم الاتّفاق والتواضع الذي يختلف من بلد لآخر ومن قطر إلى آخر ومن أمة إلى أخرى، على غرار المفهوم فإنَّ الشمولية الاستغراقية الملزمة له تأبى إلاّ أن تظل تسير جنبا إلى جنب مع عالم الفطرة والفكر والشعور والإحساس وغيرها التي لها نوع من التشارك والتجاور بينها وبي عالم المفاهيم.
هي إذن لفتة لطيفة نحسبُ أنّها تغني باللبيب أن يدرك تلكم الصفة الأساسية والجوهرية التي ينماز بها المفهوم عن المصطلح، سواء في التصور أو الفكر أو التقدير أو المنهج أو المقصد.
على هذا الاعتبار وجدنا حقل معرفيا استطاع إلى حدّ كبير ومتميز أن يحقق تقاطعا معرفيا ووجوديا وكونيا مع الشمولية الاستغراقية التي ينماز بها المفهوم. إنه حقل التصوف؛ تصورا ووجودا وكينونة ومنهجا وموضوعا ومقصدا؛ هذه الحقائق الكونية المعرفية التي عاشها التصور الصوفي جعلته فيما بعد يقترب بشكل كبير مع عالم الحوالية المفهوماتية يقيم في رحابها تلكم التصورات والتحديدات والوظائف والاستعمالات ما استقرّ في خلفيته من حقائق وأسرار ربانية أهّلها المقام المفاهيمي أن تدرج فيما سمي فيما بعد بالمدونة المصطلحية الصوفية. وقولنا بالمدونة المفاهيمية
الصوفية هو قول يتماشى إلى حدّ كبير مع تلكم الشمولية الاستغراقية القائمة في ذاتية المفهوم، فاجتمعت ذاتيتان: ذاتية المفهوم كحقيقة مستقلهة في حد ذاتها، وذاتية الصوفي كحقيقة معرفية راحت تنماز بسر رباني في تلزمها مع عالم الحقيقة المطلقة على نية الكشف والوصول والمعراج وغيرها مما هو في سر عالم المفاهيم الصوفية التي تظل مفتوحة ومنفتحة تحاول بكل ما أوتيت أن تجسّد معالم قوله تعالى : ﴿ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ﴾[المصطففين : 26].
وإذا كانت المفاهيم تنماز بشمولية استغراقية، وكان التصور تحدوه في الوقت نفسه شمولية من نوع خاص؛ فإن الخطاب كخطاب مستقل في حد ذاته راح يأخذ هو الآخر هذه الشمولية في تعامله مع الحقائق والقضايا. وما دام سياق الإشكال ينصب أساسا حول سياق معرفي واحد وهو السياق الصوفي فإن التلازم الوجودي والكوني والمعرفي والمنهجي الذي يحقق الخطاب مع السياق الصوفي هو الجمع الشامل بين الإطلاقين أي الخطاب الصوفي، وعليه يصبح هذا النوع من الإطلاق يحمل شرعية معرفية متميزة في عالم الدراسات وهو بالفعل ما استطاع الخطاب الصوفي أن ينفرد برصيد معرفي لا يستهان به لدى المهتمين به من الفكر العربي والغربي على السّواء.
غير أ هن اللافت للانتباه أنّه ما دام للخطاب الصوفي عهدة حقائق مفاهيمية انفرد بها من حيث التصور والمعاملة والمنهج والوظيفة، فإنّنا حاولنا أن نختار خطابا صوفيا فيه من الجانب الروحي ما يحقق نوعا من التلازم اللامحدود مع مفهوم سمّي لدى المتصوفة بعامة وعلى لسان حال بن عربي خاصة بالوجد؛ ولعل التقارب الروحي والوجودي والكوني بين الروح كحقيقة مستقلة في حد ذاتها، والروح الملزمة في عالم الخطاب الصوفي، والروح المبثوثة في أسرار الوجد، جعلت من ذاتية الصوفي بن عربي يعيش مع عالم الروحانيات في رحاب الحق الذي آمن به في وجد ووجدان متميز من كل جانب؛ الأمر الذي جعله يربط بينه- الوجد- وبين الحقائق المفاهيمية الأخرى رباطًا جاوز المعلوم والمتعارف عند عالم الخلق، ليصل إلى تلكم الأسرار الربانية التي لها عالم واحد متفرد في الذات والصفة والحقيقة. إنه الحق من منظور التصور الصوفي الذي آمن به ابن عربي في كثير من السياقات وهو يتعامل مع الوجد في رحاب عالم الروح الملزمة لتلكم الأسيقة التخاطبية اللغوية التي جاوزت المتعارف عليه في النظام اللغوي لتصل إلى ما يمكن أن يسمى بمبدأ الانزياح أو الانحراف القائم فيما وراء الحقائق.
على هذا المقصد حاولنا أن نقيّد هذا التّصور بسياق معرفي ومنهجي يحاول ربط الخطاب الصوفي بمقامه الروحي؛ فاخترنا سياق الوجد الملزم للخطاب الصوفي؛ فكان عنوان التصور على النحو الآتي: الخطاب الروحي في الأدب الصوفي، "قصائد الوجد عند محي الدين بن عربي نموذجا". وهو تصور نحسب أنه يفي بالغرض المقصود.
وتساؤلات كثيرة يمكن أن نطرحها في هذا المضمار، أبرزها:
- ما مدى ربط العوالم الروحية بالوجود الكينوني لحياة الصوفي العرفانية ؟
- كيف يمكن استكناه لغة الصوفي ومعايشته الوجدانية لتلك المقامات الروحية ؟
- هل يحتاج الدارس للأدب الصوفي زادا معرفيا وعلميا خاصا ؟ أم هناك سبل أخرى
- هل يحتاج الدارس للأدب الصوفي زادا معرفيا وعلميا خاصا ؟ أم هناك سبل أخرى
لبلوغ هذا الهدف ؟
- لماذا عد ابن عربي من أرباب العرفان الوجداني وهل تحتاج لغته الرامزة إلى طريقة
خاصة لفهم خطابه الروحي ؟
- هل استطاع الدارسون لتراث ابن عربي أن يفكّوا شفرة خطاباته الروحية ويفهموا
مقاصدها ؟
والهدف من هذه المعالجة الوصول إلى عقد مقاربات مفاهيمية لإدراك غايات الخطاب
الروحي عند الصوفية وتجنّب التّحامل عليهم دون مبرر علمي أو معرفي مؤسس، علما أن الكثير من الكثير من طريق سلوكهم وجداني ذوقي عرفاني؛ وغايتنا كذلك أن الضّوء على جانب مهم ممّا قدمه ابن عربي للتراث الانساني عند العرب وحتى عند الغرب، ولبلوغ هذه الهدف سنحاول الاحاطة ما أمكن بجملة الإشكالات التي تقدمت الإشارة إليها.
ومن أبرز البحوث والدراسات السابقة التي تناولت بعض جوانب هذا الموضوع وبعض إشكالاته وجدنا شيئا غير قليل في الموروث العربي وكذا الغربي نذكر أبرزها:
الرسالة القشيرية لأبي القاسم القشيري؛ التصوف الإسلامي في الأدب والأخلاق لزكي مبارك، اتجهاهات الأدب الصوفي بين الحلاج وابن عربي لعلي الخطيب، تأويل الشعر وفلسفته عند الصوفية لأمين يوسف عودة؛ الأبعاد الصوفية في الإسلام وتاريخ التصوف لآنا ماري شيمل؛ التصوف والتفكيك درس مقارن بين ابن عربي ودريدا لأيان ألموند وغير ذلك كثير.
وأما المنهج الذي حاولنا أن نقتفي أثره فلقد كان في الغالب يدور حول المنهج الوصفي
بآليات التحليل الذي يعطي الأهمية البالغة للمادة المعرفية وفق مدونتها المفاهيمية الصوفية التي نشأت في رحابها، ثم بعدها يتمّ ربط جوانب الموضوع بالتحليل الذي يختلف باختلف سياقات البحث.
وكان البحث قائما على خطة منهجية مشكلة من مدخل تمهيدي وثلثة فصول مذيلة بخاتمة تبرز نتائجه.
أما المدخل فانصبّ أساساً حول مفهوم الخطاب الروحي الصوفي، من حيث محاوره وأسسه التي يرتكز عليها. وإن كنا قد حاولنا أن نتوقف عند أهم المرجعيات المعرفية والدينية للعلاقة القائمة بين الخطاب الروحي كعالم مستقل في حد ذاته، والخطاب الروحي كحقيقة ملزمة للتصهوف، بحكم أنّ غالبية المتصوفة اهتموا بعالم الروح من عدة جهات.
وأما الفصل الأول فقد كان حول: الخطاب الروحي شمولية استغراقية، وفيه حاولنا ضبط العلاقة الكائنة بي النّص والخطاب في مجال الأدب الصوفي العرفاني محددين صورة شاملة للسياقات التركيبية مع مقاربة دقيقة بين الخطاب والنص في المنظور العربي القديم وكذا الحداثي والغربي.
ويأتي الفصل الثاني تحت عنوان: الأدب الصوفي وجمالية شعر الوجدان، وهنا حاولنا إبراز ما يميز الخطاب الصوفي عن غيره من الخطابات الأخرى كالفلسفية والأصولية والفقهية والأدبية وغير ذلك، للوقوف على الجانب الباطني اللمتناهي والمطلق للمعرفة الوجدانية.
ثم انتقلنا بعدها إلى الفصل الأخير المعنون: جمالية الرمز في شعر الوجدان عند محي الدين بن عربي، وهو الفصل التطبيقي من البحث، وتناولنا فيه مجموعة من القصائد الوجدانية من أشعار ابن عربي التي وردت في ديوانه ترجمان الأشواق مبرزين العلاقة التلازمية بين الله عز وجل والإنسان والكون، وذلك بتحليل مختلف المقامات العرفانية الذوقية التي عكستها دلالة ألفاظ ابن عربي. ويأتي بعد ذلك ذكر أهم نتائج هذا البحث وحصيلته.
وفي طريق البحث واجهتنا صعوبات كثيرة أبرزها ندرة الدراسات التطبيقية التي تناولت أشعار ابن عربي بالبحث والتدقيق، فضل عن تشابك مصطلحات الخطابات الصوفية وتداخلها ِدلاليا.كما أننا لمسنا لدى بعض الدارسين مبالغة وإفراطا في التحامل على ابن عربي وعدم فهم خطاباته العرفانية، وهذا وحده مدعاة للتحفظ والحيرة في تقرير الحقائق.
ولا يفوتني في هذا الصدد أن اتقدم بخالص الشكر وعظيم الامتنان للأستاذ الدكتور
"محمد طول" الذي أشرف على هذا البحث بالتوجيه والترشيد والرعاية حتى بلغ أشده واستوى على سوقه، لذلك أدعو الله العلي القدير أن يجعل ذلك في ميزان حسناته وأن يحفظه نبراسا وقدوة للأجيال في سبيل نشر العلم والمعرفة فهو من أصحاب الفضل والأهليّة لذلك.
والحمد لله على فضله وتوفيقه وبه المستعان والصلاة والسلام على خير البرية سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين.