آخر الأخبار

جاري التحميل ...

التصوف المغربي بين الأصالة واختراقات النموذج الهجين: الكركرية والبودشيشية نموذجًا

التصوف المغربي بين الأصالة واختراقات النموذج الهجين: الكركرية والبودشيشية نموذجًا

   في خضمّ التحوّلات الكبرى التي يشهدها العالم الإسلامي، لم يعد المشهد الديني بمنأى عن محاولات إعادة التشكيل وفق رؤى وأجندات متعدّدة المصادر. وتأتي الطرق الصوفية، بوصفها مكوّنًا روحيًّا واجتماعيًّا عميق الجذور في بلادٍ مثل المغرب، على رأس قائمة الأهداف لهذه المشاريع. وتبرز تساؤلات محورية حول مدى تعرّض هذه الطرق لعمليات "احتواء" و"اختراق" ممنهجة، تهدف إلى تفريغها من مضمونها التاريخي، وتحويلها إلى أداة لنشر نموذج ديني هجين يخدم في النهاية رؤية عالمية بعينها.


جوهر التهديد: تفريغ المضمون تحت شعارات التحديث


تزداد خطورة هذه المحاولات حين ترتدي ثوب "الإصلاح" و"التحديث"، بينما حقيقتها هي تطويع التصوّف ليصبح منصّة لتمرير أفكار دخيلة تُعيد هندسة التدين التقليدي، وتفكّك مقوماته الراسخة. فالمشروع في جوهره لا يستهدف الطرق الصوفية باعتبارها إرثًا روحيًا فحسب، بل باعتبارها آخر الحصون التي ما تزال تجمع بين الإسناد الشرعي، والسلوك التربوي، والولاء الروحي، والامتداد الاجتماعي المؤثر. وهكذا تتحوّل هذه الطرق إلى ساحة صراع ناعم بين من يحافظ على جوهرها المحمدي الأصيل، وبين من يسعى إلى توجيهها لتصبح مجرّد "فضاء رمزي" بلا جذور ولا رسالة، تُرفع فيه شعارات التسامح الكوني بينما يُسحب منه سرّ التربية وميزان الإذن وروح السلوك.


دراسة الحالة: الكركرية والمنيرية... أدوات في مشروع أكبر


ضمن هذا السياق، برزت محاولات واضحة لاستعمال بعض الطرق الصوفية كجسور لتمرير هذا النموذج الديني الهجين. وقد شكّلت الكركرية والمنيرية (المسماة لاحقًا) مثالين بارزين على ذلك؛ إذ وجد القائمون على هذه المشاريع في الكركرية، تحديدًا، أرضًا خصبة لخطابٍ صوفيٍّ مُفرَّغ من ضوابطه العلمية والتربوية، يسمح بإعادة تشكيل الهوية الروحية وفق تصوّر جديد يسهل توظيفه. وما لبثت التجربة أن تحوّلت إلى منصة تُخدَم فيها أهداف تتجاوز المجال الروحي إلى هندسة الوعي الديني العام.

أما المنيرية، فقد كانت محطّ اتفاق مبكر بين بعض الهيئات الساعية إلى تشكيل فضاء ديني عالمي جديد، وقد ظهر ذلك في الملتقى العالمي للصوفية ما قبل الأخير، عندما طُرح مشروع إنشاء محفل عالمي للأديان وأصحاب الأخلاق تحت غطاء "التسامح الكوني". وكان تنفيذ هذا المخطط مرهونًا بمرحلة ما بعد الشيخ سيدي جمال، توطئةً لتغيير اسم الطريقة من "البودشيشية" إلى "المنيرية"، في إطار إعادة إنتاج الهوية الروحية للمغرب بما يخدم رؤية خارجية معروفة المسار.


الصمود والانهيار: أسباب فشل المخطط مع الطريقة البودشيشية


غير أنّ هذا المشروع، الذي نجح إلى حدٍّ كبير مع الكركرية، انهار أمام الطريقة القادرية البودشيشية لثلاثة أسباب جوهرية:

1. القوة الذاتية: فهي طريقة حيّة نابضة، تحمل سندها التربوي بقوة وثبات، ولها رجالها المتمكنون وجندها الواعون بحقيقة رسالتها.

2. يقظة الدولة المغربية: وعي المؤسسات الوطنية بخطورة هذا المسار الناعم لاختراق المرجعية الدينية الوطنية، وما تمتلكه من آليات للحفاظ على السيادة الروحية للبلاد.

3. الرعاية العليا: العطف والرعاية الخاصّة لأمير المؤمنين لشيوخ الطريقة، باعتبارها امتدادًا روحيًا أصيلاً ومنارة منهجية في خدمة ثوابت الأمة والوسطية، مما منحها حصانة وحماية عليا.


الخاتمة والتوصيات:


يتبيّن أن المشاريع الهادفة إلى إعادة تشكيل المشهد الديني لم تكن اجتهادات معزولة، بل مساراتٌ مدروسة حاولت استثمار بعض الفضاءات الروحية. وقد شكّلت البودشيشية نموذجًا للصمود بفضل قوة سندها التربوي، ويقظة الدولة، والرعاية المولوية. يبقى الدرس الأهم هو أن حصانة أي نموذج ديني أصيل تكمن في ثلاثية: التمسك بالجذور العلمية والتربوية، والاندماج الواعي في مشروع الدولة الوطنية، والتشبث بشرعية الولاء لأمير المؤمنين كحامي حمى الدين والوطن. وهكذا يبقى التصوف المغربي الأصيل ركيزةً للهوية وقوة ناعمة في مواجهة كل محاولات التفريغ والاحتواء.

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق الصوفية