آخِرُ البَابِ الحادِي وَالعِشْرِينَ.
وَحَاصِلُهَا: ذِكْرُ مِيزَانِ الأَعْمَالِ وَالأَحْوَالِ الصَّحِيحَةِ وَالسَّقِيمَةِ.
وَحَاصِلُ هٰذَا المِيزَانِ: كُلُّ مَا يَثْقُلُ عَلَى النَّفْسِ فَهُوَ صَحِيحٌ، وَكُلُّ مَا يَخِفُّ عَلَيْهَا فَهُوَ سَقِيمٌ. وَمِنْ جُمْلَةِ مَا يَثْقُلُ عَلَيْهَا القِيَامُ بِالفَرْضِ الوَاجِبِ دُونَ النَّوَافِلِ، فَإِنَّهَا تَخِفُّ عَلَيْهَا. فَلَمَّا عَلِمَ الحَقُّ سُبْحَانَهُ ذٰلِكَ مِنْهَا قَيَّدَ الفَرَائِضَ بِأَوْقَاتٍ مَعْلُومَةٍ كَيْ لَا يَمْنَعَهَا التَّسْوِيفُ، لِأَنَّ جُلَّ النُّفُوسِ يَقِلُّ نُهُوضُهَا إِلَى حَضْرَةِ القُدُّوسِ. وَلَيْسَ لِلْحَقِّ سُبْحَانَهُ غَرَضٌ فِيمَا فَرَضَ، وَإِنَّمَا سَاقَهُمْ إِلَى جَنَّتِهِ بِسَلَاسِلِ امْتِحَانِهِ. فَمَنْ غَلَبَتْهُ نَفْسُهُ عَلَى النُّهُوضِ إِلَى الطَّاعَةِ، وَأَسَرَتْهُ شَهْوَتُهُ عَنِ اللُّحُوقِ بِالسِّبَاقِ، فَلَا يَسْتَغْرِبْ أَنْ يُنْقِذَهُ اللهُ مِنْهَا، فَإِنَّ قُدْرَةَ القَادِرِ كَلَمْحِ البَصَرِ أَوْ أَقْرَبَ. وَرُبَّمَا تَكُونُ تِلْكَ الشَّهْوَةُ أَوِ الغَفْلَةُ فِي حَقِّكَ نِعْمَةً، وَذٰلِكَ لِتَعْرِفَ مِنَّةَ اللهِ عَلَيْكَ حِينَ يُنْقِذُكَ مِنْهَا. فَإِنَّ كَثِيرًا مِمَّنْ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ لَمْ يَعْرِفُوا قَدْرَهَا فَسُلِبُوا مِنْهَا. فَإِذَا أَنْعَمَ عَلَيْكَ بِإِنْقَاذِكَ مِنْ نَفْسِكَ وَإِلْحَاقِكَ بِخَوَاصِّ جِنْسِكَ، فَانْغَمِسْتَ فِي النِّعَمِ فَلَا تَنْدَهِشْ عَنْ شُكْرِهَا، فَإِقْرَارُكَ بِالمُنْعِمِ قِيَامٌ بِشُكْرِهَا. فَإِذَا رَأَيْتَ مَنْ حَبَسَتْهُ نَفْسُهُ، وَتَمَكَّنَ دَاءُ الهَوَى مِنْ قَلْبِهِ، فَاعْلَمْ أَنَّ ذَاكَ هُوَ الدَّاءُ العُضَالُ، فَلَا يُخْرِجُهُ مِنْهُ إِلَّا خَوْفٌ مُزْعِجٌ أَوْ شَوْقٌ مُقْلِقٌ. فَإِذَا أَزْعَجَهُ الخَوْفُ أَوِ الشَّوْقُ تَفَرَّغَ قَلْبُهُ، وَخَلُصَ عَمَلُهُ، فَيَقْبَلُ اللهُ عَلَيْهِ. فَإِذَا أَقْبَلَ عَلَيْهِ مَلَأَهُ بِالأَنْوَارِ؛ فَمِنْهَا مَا يَصِلُ إِلَى سُوَيْدَاءِ قَلْبِهِ، وَمِنْهَا مَا يَقِفُ عَلَى ظَاهِرِ قَلْبِهِ، كَمَا أَبَانَ ذٰلِكَ بِقَوْلِهِ فِي أَوَّلِ البَابِ الثَّانِي وَالعِشْرِينَ، رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ.
البَابُ الثَّانِي وَالعِشْرُونَ
٢٠٤ – أَنْوَارٌ أُذِنَ لَهَا فِي الوُصُولِ، وَأَنْوَارٌ أُذِنَ لَهَا فِي الدُّخُولِ.
قُلْتُ: أَمَّا الأَنْوَارُ الَّتِي أُذِنَ لَهَا فِي الوُصُولِ فَهِيَ أَنْوَارُ الإِيمَانِ، وَهِيَ لِأَهْلِ الدَّلِيلِ وَالبُرْهَانِ، لِأَنَّ قُلُوبَهُمْ لَمْ تَتَفَرَّغْ مِنَ الأَغْيَارِ وَلَمْ تُمْحَ مِنْهَا صُوَرُ الآثَارِ. فَلَمَّا جَاءَتْ وَجَدَتْ دَاخِلَ القَلْبِ مَمْلُوءَا بِصُوَرِ الآثَارِ فَوَقَفَتْ فِي ظَاهِرِ القَلْبِ.
وَأَمَّا الأَنْوَارُ الَّتِي أُذِنَ لَهَا فِي الدُّخُولِ فَهِيَ أَنْوَارُ الإِحْسَانِ، مِنَ الشُّهُودِ وَالعِيَانِ، وَذٰلِكَ لِأَنَّهُمْ لَمَّا فَرَّغُوا قُلُوبَهُمْ مِمَّا سِوَى رَبِّهِمْ دَخَلَتْهَا الأَنْوَارُ، فَوَجَدَتْ مُتَّسَعًا فَسَكَنَتْ سُوَيْدَاءَ قُلُوبِهِمْ.
وَعَلَامَةُ النُّورِ الوَاصِلِ وَالدَّاخِلِ: أَنَّ صَاحِبَ النُّورِ الوَاصِلِ لِلظَّاهِرِ فَقَطْ تَرَاهُ تَارَةً مَعَ الدُّنْيَا، وَتَارَةً مَعَ الآخِرَةِ؛ تَارَةً مَعَ حَظِّ نَفْسِهِ، وَتَارَةً فِي حَقِّ رَبِّهِ؛ تَارَةً مَعَ الغَفْلَةِ، وَتَارَةً مَعَ اليَقَظَةِ.
وَصَاحِبُ النُّورِ الدَّاخِلِ لِسُوَيْدَاءِ القُلُوبِ لَا تَرَاهُ إِلَّا مَعَ رَبِّهِ؛ لَا يُشْغِلُهُ عَنْهُ حُظُوظُ الدُّنْيَا، وَلَا حُظُوظُ الآخِرَةِ، غَائِبًا عَنْ نَفْسِهِ، حَاضِرًا مَعَ رَبِّهِ.
قَالَ بَعْضُ الحُكَمَاءِ: إِنَّ الإِيمَانَ إِذَا كَانَ فِي ظَاهِرِ القَلْبِ كَانَ العَبْدُ مُحِبًّا لِآخِرَتِهِ وَدُنْيَاهُ، فَيَكُونُ صَاحِبُهُ تَارَةً مَعَ رَبِّهِ، وَتَارَةً مَعَ نَفْسِهِ. وَبِقَدْرِ تَمَكُّنِ النُّورِ فِي القَلْبِ وَدُخُولِهِ إِلَيْهِ يَكُونُ بُغْضُ العَبْدِ لِلدُّنْيَا وَتَرْكُهُ لِهَوَاهُ. انتهى.
وَفِي هٰذَا المَعْنَى قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ:
«النُّورُ إِذَا دَخَلَ القَلْبَ انْفَسَحَ وَانْشَرَحَ».
قِيلَ: فَهَلْ لَهُ مِنْ عَلَامَةٍ، يَا رَسُولَ اللهِ؟
قَالَ: «نَعَمْ: التَّجَافِي عَنْ دَارِ الغُرُورِ، وَالإِنَابَةُ إِلَى دَارِ الخُلُودِ، وَالتَّزَوُّدُ لِسُكْنَى القُبُورِ، وَالتَّأَهُّبُ لِيَوْمِ النُّشُورِ». انتهى.
ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الأَنْوَارَ الَّتِي أُذِنَ لَهَا فِي الوُصُولِ عَامَّةٌ لِجَمِيعِ المُؤْمِنِينَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُ أَبِي الحَسَنِ:
«لَوْ كُشِفَ عَنْ نُورِ المُؤْمِنِ العَاصِي لَطَبَقَ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ».
وَأَمَّا الأَنْوَارُ الَّتِي أُذِنَ لَهَا فِي الدُّخُولِ فَهِيَ خَاصَّةٌ بِالخَوَاصِّ، أَهْلِ التَّفَرُّغِ مِنَ الأَغْيَارِ، وَلَوْثِ الأَنْوَارِ.
فَأَمَّا مَنْ كَانَ قَلْبُهُ مَحْشُوًّا بِصُوَرِ آثَارِهَا، فَلَا يَطْمَعْ فِي نَيْلِ أَسْرَارِهَا، كَمَا أَبَانَ ذٰلِكَ بِقَوْلِهِ:
٢٠٥ – رُبَّمَا وَرَدَتْ عَلَيْكَ الأَنْوَارُ فَوَجَدَتِ القَلْبَ مَحْشُوًّا بِصُوَرِ الآثَارِ، فَارْتَحَلَتْ مِنْ حَيْثُ جَاءَتْ.
قُلْتُ: «رُبَّ» هُنَا لِلتَّكْثِيرِ: أَي كَثِيرًا مَا تَرِدُ عَلَيْكَ أَنْوَارُ عَالَمِ الغَيْبِ لِتُغَيِّبَكَ عَنْ عَالَمِ الشَّهَادَةِ، فَتَجِدَ قَلْبَكَ مَحْشُوًّا بِصُوَرِ عَالَمِ الشَّهَادَةِ، فَتَرْحَلَ عَنْكَ وَتَتْرُكَكَ مَحْبُوسًا فِي يَدِهَا.
أَوْ تَقُولُ: كَثِيرًا مَا تَرِدُ عَلَيْكَ أَنْوَارُ المَعَانِي لِتُخْرِجَكَ مِنْ سِجْنِ الأَوَانِي، فَتَجِدَ قَلْبَكَ مَمْلُوءَا بِهَا، فَتَتْرُكَكَ فِي وَسْطِهَا مَحْجُوبًا بِهَا.
أَوْ تَقُولُ: كَثِيرًا مَا تَرِدُ عَلَيْكَ أَنْوَارُ المَلَكُوتِ، فَتَجِدَ قَلْبَكَ مَحْشُوًّا بِظُلْمَةِ المُلْكِ، فَتَتْرُكَكَ فِي ظُلْمَةِ الكَوْنِ.
أَوْ تَقُولُ: قَدْ تَرِدُ عَلَيْكَ أَنْوَارُ الجَبَرُوتِ، فَتَجِدَ قَلْبَكَ مَحْشُوًّا بِأَنْوَارِ المَلَكُوتِ، فَرِحًا بِهَا، قَانِعًا بِبَهْجَتِهَا، فَتَتْرُكَكَ وَاقِفًا مَعَهَا، وَتُنَادِي عَلَيْكَ: «القَنَاعَةُ مِنَ اللهِ حِرْمَانٌ، الَّذِي تَطْلُبُ أَمَامَكَ».
وَلَوْ كَانَ العِلْمُ يَنْتَهِي إِلَى حَدٍّ مَحْدُودٍ لَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى لِسَيِّدِ العَارِفِينَ:
﴿وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾ [طه: ١١٤].
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ:
«كُلُّ يَوْمٍ لَا أَزْدَادُ فِيهِ عِلْمًا لَا بُورِكَ لِي فِي طُلُوعِ شَمْسِ ذٰلِكَ اليَوْمِ».
أَوْ كَمَا قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَالمَانِعُ لِلْقَلْبِ مِنْ دُخُولِ الأَنْوَارِ هُوَ وُجُودُ الأَغْيَارِ، كَمَا أَشَارَ إِلَى ذٰلِكَ بِقَوْلِهِ:
