آخر الأخبار

جاري التحميل ...

إيقاظ الهمم في شرح الحكم -73


202 - لا يُخْرِجُ الشَّهْوَةِ مِنَ القَلْبِ إِلاَّ خَوفٌ مُزْعِجٌ أَوْ شَوْقٌ مُقْلِقٌ .


قلت: الشهوة إذا تمكنت من القلب صعب علاجها، فلا يمكن خروجها في العادة، إلا بوارد قهري جلالي أو جمالي. فالوارد الجلالي: هو خوف مزعج، فيزعجك عن شهوتك، و يخرجك عن وطنك و أهلك. و الوارد الجمالي: هو شوق مقلق، فيقلقك عن مراداتك و حظوظك، فينسيك نفسك، و يؤنسك بربك، و لأجل صعوبة هذا المرض كان أشد حجابا عن اللّه العلماء، ثم العباد، ثم الزهاد، لأن هذه الشهوة خفية، لأن صاحبها {أَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى‌ عِلْمٍ‌} الآية {وَ هُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [الكهف: 104]، أي أضلهم عن طريق الخصوص، و بقوا في طريق العموم. أما العلماء الظاهريون: فهم يعتقدون أنه لا فضيلة فوق علمهم، حتى أني سمعت من بعضهم يقول: إن مقام الإحسان هو مقامهم الذي هم فيه من العمل بظاهر الكتاب و السنة، و لا مقام فوق ذلك، فكيف يمكن إخراج هذا إلا بعناية سابقة؟.


و أما العباد و الزهاد: فهم يقولون أيضا: هذه غاية المحبة و الطاعة، و يزيدهم بعدا ما يرونه من الكرامات الحسية، فيزدادون حجابا و تمكنا في حالهم. و أما العوام و أهل الغفلة: فهم أقرب الناس إلى الانقياد و النفوذ إلى ربهم، و في الحديث عنه صلى اللّه عليه و آله و سلم قال: «أكثر أهل الجنة البله‌»، أي المغفلون، و مما يدلك على أن الشهوة القلبية أصعب من الشهوة النفسية قصة آدم و الشيطان، فإن آدم عليه السلام كانت شهوته في بطنه فتداركه اللّه بعنايته، و الشيطان كانت شهوته في قلبه، {قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ‌} [ص: 76]، فطرد إلى يوم القيامة، ثم اعلم أن الخوف على قسمين: خوف العوام، و خوف الخواص، خوف العوام من العقاب و العذاب، و خوف الخواص من القطيعة و الحجاب. و الشوق أيضا على قسمين: شوق العوام للحور و القصور، و شوق الخواص للشهود و الحضور، شوق العوام لنعيم الأشباح، و شوق الخواص لنعيم الأرواح، شوق العوام ناشئ عن قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ مَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ‌} [التوبة: 72]، و شوق الخواص ناشئ عن قوله تعالى: وَ رِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ‌ [التوبة: 72]، جعلنا اللّه من أعظمهم قدرا و أكملهم محلا و فضلا آمين بمنه و كرمه، فإذا دخل الخوف أو الشوق إلى القلب أخرج كل ما فيه من الأغيار، و ملئ بالمعارف و الأنوار، فحينئذ تخلص الأعمال، و تزكو الأحوال، و يقبل عليه ذوو العظمة و الجلال، كما أبان ذلك بقوله:


203- كَمَا لا يُحِبُّ العَمَلَ المُشْتَرَكَ ، لا يُحِبُّ القَلْبَ المُشْتَرَكَ ، العَمَلُ المُشْتَرَكُ لا يَقْبَلُهُ ، وَالْقَلْبُ المُشْتَرَكُ لا يُقْبِلُ عَلَيْهِ .


قلت: العمل المشترك: هو الذي تصحبه الحظوظ النفسانية دنيوية أو أخروية، و القلب المشترك: هو الذي يكون فيه حب السوى، فالعمل الذي تصحبه الحظوظ مدخول، و المدخول غير مقبول، يقول اللّه تعالى: «أنا أغني الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته و شريكه‌»، و القلب الذي فيه حب شي‌ء من السوى ملطخ بالهوى، لا يليق لحضرة المولى، قال تعالى: {وَ طَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ‌} [الحج: 26]، يا داود طهر لي بيتا أسكنه، و للّه در الششتري حيث يقول:

لي حبيب إنّما هو غيور

يظلّ في القلب كطير حذور

إذا رأى شيئا امتنع أن يزور 



فمن حصن أعماله بالإخلاص استحق القبول و كان من الخواص، و من حصن قلبه من الأغيار امتلأ بالعلوم و الأنوار، و نبعت منه المعارف و الأسرار. و اعلم أن العمل المشترك هو الذي يدخله ثلاث علل: إما رياء، أو عجب، أو طلب عوض. أما الرياء: فهو الشرك الأصغر، و قد تقدم الحديث: «من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته و شريكه»، و في حديث مسلم: «ثلاثة أول من تسعر بهم جهنم يوم القيامة، فذكر القارئ لغير اللّه، و الشجاع الذي يقاتل لغير اللّه، و الغني الذي يتصدق لغير اللّه»، و أما العجب: فهو رؤية النفس و إسناد العمل إليها، و رؤية المزية لها على الناس قال تعالى: فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى‌ [النجم: 32]، قيل معناه: إذا عملت عملا فلا تقل: عملت و لا تظهره عند من يعظمك لأجل علمه بذلك، لأن رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلم يقول: «ثلاث مهلكات: شحّ مطاع، و هوى متّبع، و إعجاب المرء بنفسه‌». و قال زيد بن أسلم: معنى لا تزكوا أنفسكم لا تعتقدوا أنها بارة، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلم: «لو لم تذنبوا لخشيت عليكم ما هو أكبر من الذنوب: العجب‌». قال بعض السلف: لأن أبيت نائما و أصبح نادما أحب إلي من أن أبيت قائما و أصبح معجبا، و قيل لعائشة رضي اللّه عنها: متى يكون الرجل مسيئا؟ قالت: إذا ظن أنه محسن. قيل: و المعجب أعمى عن آفات نفسه و عمله، و العمل إذا لم يتفقد ضاع، و إنما يتفقد عمله من غلب عليه خوف اللّه و خوف ذنوبه، و لا يريد الثناء على نفسه و حمدها و تزكيتها، و ربما أعجب برأيه و عقله، فيستنكف عن سؤال غيره و لا يسمع نصح ناصح لنظره من سواه بنظر الاستحقار، نسأل اللّه السلامة و العافية. و أما طلب العوض و الجزاء فقد تقدم مرارا الزجر عنه، و إنك إن طالبته بالجزاء طالبك بسر الإخلاص، و يكفي المريب وجدان السلامة، فكل عمل فيه بعض هذه الآفات فإن اللّه لا يقبله قبول الخواص. و أما القلب المشترك: فهو الذي‌ يدخله ثلاث أيضا: حب الدنيا، أو حب الخصوصية، أو النعم الأخروية، و كلها قادحة في الإخلاص مخرجة عن درجة التوحيد الخاص، و باللّه التوفيق.


البداية  السابق   التالي


التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق الصوفية