آخر الأخبار

جاري التحميل ...

الشراب عند الصوفية: المعنى الروحي والتأويل العرفاني



مقدمة


عندما يتحدث الصوفية عن “الشراب”، فإنهم لا يقصدون به المشروبات العادية، بل يعبرون به عن معانٍ روحية وعرفانية مرتبطة بحالة القرب من الله، والانغماس في أنوار المعرفة الإلهية. فالشراب في السياق الصوفي هو رمزٌ للتجليات الروحية، ولذة القرب، والفيوضات الربانية التي تملأ القلوب بنشوة الحب الإلهي.


1. الشراب في القرآن والسنة


جاء ذكر “الشراب” في القرآن الكريم في مواضع عدة، منها ما هو مادي، كالماء والعسل واللبن، ومنها ما يحمل معنى روحياً عميقاً، مثل قول الله تعالى:


﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا﴾ (الإنسان: 5)

﴿وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا﴾ (الإنسان: 21)


هذه الآيات فسّرها الصوفية على أنها إشارة إلى شرابٍ معنوي يُسقى منه أولياء الله في الدنيا قبل الآخرة، وهو شراب المعرفة والمحبة الإلهية.


كما ورد في الحديث الشريف عن النبي ﷺ:


«مَنْ شَرِبَ مِنْهُ شُرْبَةً لَمْ يَظْمَأْ بَعْدَهَا أَبَدًا» (رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة)


فسّر الصوفية هذا الشراب بأنه شراب القرب من الله الذي يروي الأرواح، فلا تطلب شيئًا بعده سوى الله.


2. أنواع الشراب عند الصوفية


الصوفية يستخدمون “الشراب” كرمزٍ للمقامات والأحوال التي يمر بها السالك في طريق التصوف، ومن أنواعه:


أ) شراب المحبة


وهو الشراب الذي يملأ القلب بحب الله حتى يغيب العبد عن كل ما سواه. ومن أقوالهم في ذلك:


“شراب المحبة يُذهِب العقل عن الدنيا، فلا يرى السالك إلا الله في كل شيء.”


ب) شراب المعرفة


وهو شراب يكشف عن العبد الأسرار الربانية، ويملأ قلبه بالنور، فينتقل من الإيمان التقليدي إلى الإيمان العياني.


يقول ابن الفارض في تائيته الشهيرة:

شَرِبتُ الهَوى كأسًا ألَذُّ مِنَ المُنى وأسكَرَتِ الرُّوحَ الرَّحيقُ المُخَتَّمُ


ج) شراب الفناء في الله


وهذا هو أعلى درجات الشراب عند الصوفية، حيث يغيب العبد عن نفسه، فلا يرى إلا الله، ويشعر وكأنه غارقٌ في بحار النور الإلهي.


يقول أحد الصوفية:


“متى شرب العبد من كأس الفناء، لم يرَ في الوجود إلا الله، ولم يسمع إلا الله، ولم يعشق إلا الله.”


3. الكأس والسُّكر في المصطلحات الصوفية


الصوفية يستخدمون “الكأس” و”السكر” و”الخمرة” مجازًا للإشارة إلى الحالات الروحية التي تنتاب العارفين عند غلبة الحال عليهم.

“الكأس”: يرمز إلى التجليات الإلهية التي يتلقاها القلب.

“الخمر”: تشير إلى نشوة الحب الإلهي والمعرفة العميقة التي تجعل العبد في حالة “سكر روحي”.

“السكر”: لا يعني فقدان العقل الحسي، بل هو غياب عن الدنيا وبقاءٌ مع الله.


قال ابن الفارض في وصف السكر الروحي:

فَإنْ شِئْتَ أنْ تَحْيا سَعِيدًا فَمُتْ بِهِ شَهِيدًا، وإلَّا فالغَرامُ ذُعافُ


4. الفرق بين الشراب الصوفي والخمر الحسية


من المهم التمييز بين الشراب الصوفي الروحي والخمر الحسية المحرمة، لأن بعض الجهال يظنون أن الصوفية يدعون إلى شرب الخمر الحقيقية، وهذا غير صحيح.

الخمر الحسية: محرمة في الإسلام، لأنها تذهب بالعقل وتوقع الإنسان في المعاصي.

الشراب الصوفي: هو شراب المعرفة والمحبة الإلهية الذي يرقى بالروح إلى مقام القرب من الله.


قال الشيخ عبد القادر الجيلاني:


“خمر الدنيا تسكر الجسد، وخمر المعرفة تسكر الروح، فشتان بينهما.”


٥. هل كان الصوفية يستخدمون الخمر الحقيقية؟


لا، بل كانوا يتحدثون عن خمرٍ معنوية، وهي خمر الحب الإلهي التي تُذهب عنهم التعلق بالدنيا.


يقول الإمام جلال الدين الرومي:


“دع عنك خمر الحانات، وتعال إلى خمر العشق، فهذه تذهب عقلك عن الله، وتلك توصلك إليه.”


٦. كيف نحصل على هذا “الشراب”؟


لكي ينال العبد هذا الشراب الروحي، عليه أن يسير في طريق الله بصدق وإخلاص، من خلال:

✅ الذكر الدائم لله

✅ التقرب إلى الله بالعبادة والمحبة

✅ صحبة الصالحين وأهل المعرفة

✅ الابتعاد عن الذنوب والمعاصي


قال النبي ﷺ في الحديث القدسي:

«مَن ذَكَرَنِي في نَفْسِهِ، ذَكَرْتُهُ في نَفْسِي، وَمَن ذَكَرَنِي في مَلَإٍ، ذَكَرْتُهُ في مَلَإٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ» (رواه البخاري ومسلم).


خاتمة: الشراب الحق هو القرب من الله


الشراب عند الصوفية ليس ماءً أو خمراً حسية، بل هو حالة روحية من القرب والمحبة والمعرفة بالله.


✦ السعيد من شرب من كأس المعرفة، فذاق حلاوة القرب من الله.

✦ والشقي من انشغل بشراب الدنيا عن شراب الآخرة.


نسأل الله أن يسقينا من شراب محبته، ويروينا من كأس معرفته، حتى نشرب من يد المصطفى ﷺ يوم القيامة، شربةً لا نظمأ بعدها أبدًا. آمين!



التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق الصوفية