آخر الأخبار

random
جاري التحميل ...

في الحوارالعالي السؤال السلفي الصوفي

يتناول هذا الحوار جملة من القضايا و رأي العلماء والمفكرين المسلمين في التصوف، دون اعتبار لحدود الزمان والمكان، لا يلتزم إلا بالبحث عن الحكمة أنى كانت، دون النظر إلى قائلها، لذلك ينتقل بين الآراء المبثوثة في ثنايا الفكر الإسلامي ساعيا للكشف عن الرؤية السليمة للتصوف ومنهجه .

سؤال: كيف يعرف التصوف الحقيقي؟·

جواب: الوصول إلى الحد الحقيقي بصفة عامة أمر عسير، فكيف إذا تعلق الأمر بتجربة روحية لعل من أبرز خصائصها استعصاؤها على اللغة الطبيعية، واعتماد أهلها على الإشارة في تبليغها لعدم قدرة العبارة على ذلك ؟ لذلك كان من الطبيعي أن لا ننتظر من الصوفية أن يأتونا بتعريف للتصوف يستجيب للمقاييس المنطقية أو يندرج تحت نوع من أنواع الحدود، كما كان من الطبيعي أن ننتظر تنوعا في هذه التعاريف وتعددا فيها، بل وانفتاحا على إغناء هذا الجانب مع كل داخل في التجربة الصوفية ومتحقق بها، ولهذا نجد أن حصر تعريف التصوف في عدد معين هو مما لم يتفق عليه الصوفية، فمنهم من رأى أنها تزيد على الألف ومنهم من رأى أنها تزيد على الألفين، ومنهم من رأى أنها لا تنحصر، وسعى إلى إيجاد ما تتفق فيه ·

سؤال: فهل يمكن ذكر بعض التعاريف التي تركز على ما اتفق عليه ؟ 

جواب: من هذه التعاريف:
- التصوف أوله علم، ووسطه عمل، وآخره موهبة من الله
- التصوف ذكر مع اجتماع، ووجد مع استماع وعمل مع اتباع
- التصوف إنما هو زبدة عمل العبد بأحكام الشريعة إذا خلا عمله من العلل وحظوظ النفس
- التصوف تعظيم أمر الله، وشفقته على عباد الله.
التصوف هو الخلق والمحبة سمة الطائفة وعنوان الطريقة.
الصوفي من إذا استقبله حالان أو خلقان كلاهما حسن، كان مع الأحسن·

سؤال: هل يمكن توضيح هذا التعريف الأخير؟

جواب: لقد اعتبر الخلق ميزانا للتنافس في مجال التصوف، فالتمكن في الأخلاق الفاضلة يعلو بمرتبة صاحبه في المراتب والمقامات الصوفية، وقد وقع التركيز على أن هذه الأخلاق تكون ملابسة لصاحبها ملابسة ذوق وفعل، لا ملابسة علم فقط (المقصود الثقافة العقلية التي لا تتجسد في الفعل) ورسم فحسب، أي أنها أخلاق ترقي وشهود، فهي نصيب الصوفي من التحقق بالأخلاق الإلهية في حدود ما تسمح به الطاقة البشرية (من أخلاق الرحمة والمغفرة وغير ذلك)، ومن هنا كان التخلق في المستوى الصوفي تعاملا مع الحق قبل أن يكون تعاملا مع الخلق، فهو يستلزم الصدق مع الحق، ولذلك كانت الأخلاق الصوفية خالية من التصنع الذي هو أول الأكدار التي يصفي منها الصوفي قلبه، كما أن هذا الصدق يجعل الصوفي يعامل كل الخليقة بنفس الأخلاق، فالتعامل في الحقيقة مستمد من الخلاق لا من الخلق، وهو منظور يختلف تماما عن منظور من يؤسس تعامله الأخلاقي على رؤية الخلق وهو ما نلمسه في التعاريف السابقة.·

سؤال: ولكن هل ينحصر التصوف في البعد الأخلاقي بمفهوم التعامل مع الخلق؟

جواب: ''إن الكثير من الكتاب الحديثين -متابعين في ذلك الكثير من الصوفية - قد حددوا التصوف نفسه لا تزكية النفس وحسب- بأنه الخلق الطيب.·يقول أبو بكر الكتاني (المتوفى سنة 322 هج): ''التصوف خلق، فمن زاد عليك في الخلق فقد زاد عليك في التصوف''، ويقول أبو محمد الجريري (المتوفى سنة 311 هج)، وقد سئل عن التصوف: ''الدخول في كل خلق سني، والخروج من كل خلق دني''، أما أبو الحسن النوري فإنه ينفي عن التصوف أن يكون رسما منهجيا تخطيطيا، أو أن يكون علما كسبيا، ويجزم بأنه خلق، ويعلل النفي والإثبات فيقول: ''ليس التصوف رسما و لا علما، ولكنه خلق، لأنه لو كان رسما لحصل بالمجاهدة ولو كان علما لحصل بالتعليم، ولكنه تخلق بأخلاق الله، ولن تستطيع أن تقبل على الأخلاق الإلهية بعلم ورسم''·
على أن أبا الحسن النوري نفسه يحدد الأخلاق التي يرى أنها التصوف، فيقول في موضع آخر معرفا التصوف: ''التصوف الحرية والكرم وترك التكلف والسخاء''·
على أن هؤلاء الذين ذكروا هذه التعاريف الأخلاقية للتصوف، ذكروا هم أنفسهم تعاريف أخرى وذلك -على الأقل- يدل دلالة لا لبس فيها على أنهم لم يروا كفاية الجانب الأخلاقي في تحديد التصوف، وتعريفه.·ومن الطبيعي أيضا أن تكون الأخلاق الكريمة شعار الصوفي فيما بين الأساس والثمرة، فهي إذن ملازمة للتصوف وللصوفي ملازمة تامة، لا تتخلى عنه ولا يتخلى عنها، ويعبر ابن سينا عن بعض ما يتحلى به الصوفي من أخلاق، معللا ذلك فيقول: ''العارف شجاع، وكيف لا و هو بمعزل عن تقية الموت؟ وجواد، وكيف لا وهو بمعزل عن محبة الباطل؟ وصفاح، وكيف لا ونفسه أكبر من أن تجرحها زلة بشر؟ ونساء للأحقاد، وكيف لا وفكره مشغول بالحق ؟''.

سؤال: إذن فالصوفي عابد، وهو على خلق كريم، ولكنه يتجاوز ذلك كله إلى شئ آخر؟ فما هو هذا الشئ الآخر؟

جواب: هذا الشئ هو ''الإرادة المصممة التي لا تلين، الإرادة التي تزيـل -لقوتها وتصميمها- كل ما يقف أمامها من عقبات في سبيل الوصول إلى الله سبحانه"·إن الله سبحانه وتعالى يأمرنا -على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم- بالفرار إليه: (ففروا إلى الله، إني لكم منه نذير مبين)·
والإنسان يفر إلى الله من الكفر إلى الإيمان، ويفر إلى الله من المعاصي إلى الطاعات، ويفر من الكون إلى المكون، ومن النعمة إلى المنعم، ومن الخلق إلى الخالق، ومن نفسه إلى ربه. ·
إن الفرار لانهاية له لأن الترقي لانهاية له، وكما أن الفرار إلى الله مستمر دائم، فإن الهجرة إليه سبحانه وتعالى مستمرة دائمة.· والهجرة إلى الله والفرار إليه بمعنى واحد، وهو بمعنى مستغرق شامل يشرحه في عمومه وشموله قول المصطفى صلى الله عليه وسلم ممتثلا أمر الله سبحانه وتعالى وتوجيهه في قوله تعالى: ''قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له، وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين ''·
وصلاة الإنسان إذن نسكه، و محياه وممـاتـه إنما تكـون في الوضـع الإسلامــي لله سبحانه وحده، حيث لا شريك له: من حب ومدح، أو ثناء وزلفى، أو جنة، أو بعد عن النار: (واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغذاة والعشي يريدون وجهه، و لا تعد عيناك عنهم تريد زينة الدنيا، ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه، وكان أمره فرطا)·
والتصوف: ذكر دائم، أي تذكر له سبحانه وتعالى في كل لمحة ونفس، وهي اتجاه بكل الأعمال إلى الله، وهو هجرة لا تنقطع إليه سبحانه، وقد تتعذر في المبدأ وتشق في أول الطريق، فكان لابد من تهيئة الجو المناسب للمران والتعبد فترة من الزمن.

سؤال: هل يمكن بيان موضوع التصوف ومن أين استمد، و ما حكمه ؟

جواب: أما موضوعه (أي التصوف) فهو الذات (الإلهية) العلية لأنه يبحث عنها باعتبار معرفتها، إما بالبرهان أو بالشهود والعيان، وقيل موضوعه النفوس والقلوب والأرواح، لأنه يبحث عن تصفيتها وتهذيبها، وواضعه هو النبي صلى الله عليه وسلم، وأما استمداده فمن الكتاب والسنة وإلهامات الصالحين وفتوحات العارفين، وأما حكم الشارع فيه فقال الغزالي إنه فرض عين،··· وحيث كان فرض عين يجب السفر إلى من يأخذه عنه إذا عرف بالتربية واشتهر الدواء على يده، وأما تصور مسائله فمعرفة اصطلاحاته والكلمات التي تتداول بين القوم كالإخلاص والصدق والتوكل والزهد والورع والرضا والتسليم والمحبة والفناء والبقاء وكالذات والصفات والحكمة والروحانية والبشرية وكمعرفة حقيقة الحال والوارد والمقام وغير ذلك، وأما نسبته من العلوم فهو كلي لها وشرط فيها، إذ لا علم ولا عمل إلا بصدق التوجه إلى الله، وأما فائدته، فتهذيب القلوب ومعرفة علام الغيوب ''

سؤال : كيف يمكن تصور موقع التصوف في النسق الديني الإسلامي؟

 جواب: ''...التصوف في جوهره هو الفهم الواعي للدين، والعمل به على شكل عبادات وسلوك يمارسه المسلم مع نفسه و مع غيره ومن ثم تتجلى الحياة الروحية المتزنة التي قوامها الإيمان والعمل. كما أن التصوف علم فقه المعرفة، وأساسه إصلاح القلوب، وقمته المعرفة في محيط ما وراء الطبيعة، فوظيفة العقل معرفة الطبيعة ووظيفة القلب معرفة ما وراءها من غيبيات، فالقلب شطر الإيمان الأعظم وبه تحل المشاكل التي لا طاقة للعقل أو العلم المادي بحلها كالقضاء والقدر وحقائق ما بعد الموت، فنطاق هذه المعرفة ليس العقل أو الحس، بل هو نور يقذفه الله في قلب عبده الذي طهر قلبه وزكاه، فيتم له الكشف والشهود والإلهام الصادق محكوما بالكتاب والسنة.

سؤال : هل يسلم ما يقال من حدوث اسم التصوف وما يستنتج منه البعض من حدوث مضمونه ؟

جواب: إن التصوف باعتباره سلوكا متمثلا في الإنحياش إلى الله مع العكوف على العبادة·ليس بالأمر الغريب عن الإسلام، فقد كانت هذه النزعة العملية فاشية بين الصحابة والتابعين وإنما استحدث الاسم نفسه، ويبدو أنه كان معروفا في القرن الهجري الأول (السابع الميلادي) بحسب الرواية التي وردت عن الحسن البصري.

سؤال: هل المنهج الصوفي هو فقط المواظبة على فعل العبادات؟ أو هل هو فقط الإكثار من النوافل :قياما بالليل وصوما بالنهار ونحو ذلك ؟ أم ماذا ؟

جواب: إن للعبادة أثرا لا ينكره أحد في تصفية النفس وتزكية الروح، ولكنها إذا كانت تهدف من وراء ذلك إلى دخول الجنة ونيل الأجر والثواب بقيت عبادة مشكورة مأجورا صاحبها، مثابا عند الله سبحانه وتعالى، و لا يتجاوز للقائم بها -على هذا الوضع وبهذه الصورة- وصف العابد إلى وصف الصوفي. ·
ووصف العابد من غير شك منزلة عظمى ولكن العبادة على هذا النمط كأنها ''معاملة ما" والعابد على هذا الوضع، كأنه يعمل في الدنيا لأجرة يأخذها في الآخرة هي الأجر والثواب
أما الصوفي، لإنه يريد الحق الأول، لا شئ غيره، و لا يؤثر شيئا على عرفانه وتعبده له فقط، ولأنه مستحق للعبادة، ولأنه نسبة شريفة إليه، لا لرغبة أو رهبة، وتعبر السيدة رابعة العدوية عن هذا المعنى، فتقول: ''إلهي :إذا كنت عبدتك رهبة من النار، فاحرقني بنار جهنم، وإذا كنت أعبدك رغبة في الجنة فاحرمنيها، وأما إذا كنت أعبدك من أجل محبتك ·فلا تحرمني يا إلهي من جمالك الأزلي''، وتقول رضوان الله عليها: ''ما عبدته خوفا من ناره، وحبا لجنته، فأكون كالجير السوء، بل عبدته حبا وشوقا إليه''. والواقع أن الله سبحانه وتعالى إذا عبد رغبة في الجنة، أو عبد رهبة من النار، فإنه سبحانه وتعالى لا يكون المطلوب الأول ولا يكون الغاية التي يسعى إليها العابد، وإنما يكون سبحانه كأنه واسطة بين العابد و ما رغبه وهو الجنة، أو رهبة وهو النار. ···

سؤال: فكيف يمكن أن نفهم وحدة المنهج الصوفي مع تعدد الممارسات والطرق الصوفية ؟

جواب: القدماء والمحدثون -سواء أكانوا من الصوفية أم من مؤرخي التصوف- يتجهون إلى أن التصوف منهج وغاية، إنه طريقة وحقيقة، إنه سلوك ونتيجة·
والصوفية يشبهون الوحدة التي تجمع بين المنهج والغاية بالدائرة ومركزها، ويقول الشيخ عبد الواحد يحيى: ''إن الطريقة هي الخط، الذاهب من الدائرة إلى المركز·وكل نقطة على الدائرة هي مبدأ الخط، وهذه الخطوط لا تحصى -كلها- إلى المركز، إنها ''طرق''، وهي طرق تختلف تبعا لاختلاف الطبائع البشرية،ولهذا يقال: "الطرق إلى الله كنفوس بني آدم" ومهما اختلفت فالهدف واحد، لأنه لا يوجد إلا مركز واحد، وإلا حقيقة واحدة، على أن هذه الاختلافات الموجودة في المبدأ، تزول شيئا فشيئا، وذلك حينما يصل السالك إلى درجات عليا. والطريقة والحقيقة مجتمعتان يطلق عليهما: التصوف، وهو ليس مذهبا خاصا، لأنه الحقيقة المطلقة، وليست الطرق مدارس مختلفة، لأنها طرق أي سبل موصلة جميعها إلى الحقيقة المطلقة : لتوحيد الواحد·

سؤال: هل يمكن بيان أساس النهج الصوفي في تربية الأجيال؟

جواب: '' تأثيرات النفوس بعضها في بعض أمر لا ينكره حس سليم ولا عقل مستقيم، فإن قواها تتضاعف وتتزايد بحسب ذلك، وسيما عند تجردها نوع تجرد عن العلائق والعوائق البدنية، فإن قواها تتضاعف وتتزايد بحسب ذلك وسيما عند مخالفة هواها وحملها على الأخلاق رذائلها وسافلها''.
''والمقصود أن درجة الصديقية والربانية ووراثة النبوة وخلافة الرسالة هي أفضل درجات الأمة، ولو لم يكن من فضلها وشرفها إلا أن كل عمل بتعليمهم وإرشادهم، أو علم غيره شيئا من ذلك كان له مثل أجره ما دام ذلك جاريا في الأمة على آباد الدهور، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لعلي بن أبي طالب : ''والله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم''، وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ''من سن سنة حسنة فعمل بها بعده كان له مثل أجر من عمل بها لا ينقص من أجورهم شيئا'' .

سؤال: ولكن ألا يكفينا في مجال التربية الروحية الإصلاحية الاقتصار على النظر في النصوص الشرعية، دون الالتجاء إلى اتباع شيخ مربي؟

جواب: إن الرجوع إلى النصوص الشرعية واجب على كل مسلم، خصوصا فيما يتعلق بمقام الإسلام والإيمان، ولكن عندما يتعلق الأمر بمقام الإحسان فإننا نحتاج إلى منهج سلوكي وتربوي لا يكفي فيه إعمال الفكر في النصوص الشرعية، وإن كان لا شيء من أمر المكلف يخرج عن هذه النصوص، ولكن الفكر وحده لا يستطيع الوصول إلى ما يتعلق بالتربية الروحية، فأمرها يتعلق بتحقيق مناط خاص، ''وصاحب هذا التحقيق الخاص هو الذي رزق نورا يعرف به النفوس ومراميها، وتفاوت إدراكها، وقوة تحملها للتكاليف وصبرها على أعبائها أو ضعفها، ويعرف التفاتها إلى الحظوظ العاجلة أو عدم التفاتها'' -الشاطبي-

سؤال: ولماذا لا نعتمد المنهج المتبع في العلوم الكسبية دون الالتجاء إلى الكتب المؤلفة في التصوف والأخذ عنها؟

جواب: إن الكتب المشار إليها محشوة بالحكايات عن أرباب الأحوال الذين ملكتهم الأحوال، وأرباب الأحوال الذين ملكوا أحوالهم، وأكثر ما تحتوي الكتب على القسم الأول، والمملوكون للأحوال لا يقتدى بهم ما داموا كذلك، ومن اقتدى بهم خرج عن الطريقة المثلى وخيف عليه الانقطاع، وهو الغالب فيمن اتبعهم، إذ هناك صار الناس حين اتبعوهم فرقا، فمنهم من اختل جسمه حتى تلف أو كاد، ومنهم من تلف عقله أو كاد، ومن من شاذ الدين بما لم يأذن الله فغلبه ومنهم من يأس من روح الله في السلوك أو كاد ومنهم من كان على طريقة خير من علم أو عمل فانقطع عنه لعارض رياء أو عجبا أو حب دنيا أو جاه ولم يتحقق ومنهم من أساء ظنه بالطريقة وأهلها وكذب بها، إلى غير ذلك من الأمور العارضة التي لايزيلها النقل عن كتب التصوف بل يثيرها، وهذه الأمور لا يدرك كنهها إلا أربابها ولم نر فيمن تقدم أو تأخر من ثبت تحت إبالة شيخ سني محقق اتفق له شيء من هذا -ابن خلدون-

سؤال: هل يمكن توضيح الأمر أكثر؟

جواب: ''إن الطرق إلى الله تعالى بعدد أنفاس الخلائق أجمعين وإن كان واحدا في نفسه، فكل سالك يليق به من التربية ما لا يليق بغيره، والأحوال والمواجد والواردات والمواهب والعلوم واللقاءات، والعوارض في السلوك تختلف بحسب الأشخاص والأحوال، والبداية والنهاية، والقوة والضعف، وسبيل سلوكهم غير متفق، فقد يكون الرجلان على وزن واحد في العلم والعمل، وترتيب الرياضة، ويعرض لهما عارضان مختلفان، فيحتاجان إلى دواء مختلف، إن جعل واحدا لم يصلح، أو متحدان، إن جعل مختلفا لم يصلح، ويعرض لهما عارضا مختلفا، فيحتاجان إلى دواء مختلف، إن جعل واحدا لم يصلح، أو متحدان، إن جعل مختلفا لم يصلح، ويعرض لهما العارض المتحد، فيصلح لأحدهما من العلاج ما لا يصلح لآخر، وترد على كل واحد منهما الأحوال والمواجد والإلقاءات متفقة ومختلفة، فيفرق الشيخ بين مؤتلفها، ويجمع بين مختلفها بحسب ما أراه الله، هذا فيما يعرض له في التخلق والتحقق معا، التحقق بالتوحيد أشد وأحرى و لا يكتسب الدخول فيه من كتاب، بل تحت شيخ خاض بحر التوحيد ثم وقف على ساحله يدعو إليه، وشأن هذا السلوك أعظم والتحرز فيه أتم، والعوارض الطارئة على سالكه أقوى وأدهى وسائر ما يذكر من الفرق في هذا النمط، إنما أصل هلاكهم السلوك في هذا الطريق من غير شيخ محقق عارف، أو الخروج عن نظره فيه فالاحتياج فيه إليه كاحتياج الجسد إلى الغذاء، ابن خلدون

سؤال: إذن كيف يمكننا أن نميز بين دورشيخ التربية ودور شيخ الفتوى العلمية؟

جواب:إن شيوخ الطريقة شيوخ تربية وارتياض ودلالة على أحوال معاينة، خارجة عن الاختيار، ليست من قبيل المحسوسات ولا العلوم المتعارفة، وشيوخ الفتيا وحملة الشريعة شيوخ نقل وإبانة إخبار عن كيفية عمل داخل تحت القدرة (واللازم على المكلف بالنسبة للفريقين اعتقادا) '' وجوب الحق لهم وتعظيمهم واتباع هديهم'' ابن خلدون.جواب: ''إن الطرق إلى الله تعالى بعدد أنفاس الخلائق أجمعين وإن كان واحدا في نفسه، فكل سالك يليق به من التربية ما لا يليق بغيره، والأحوال والمواجد والواردات والمواهب والعلوم واللقاءات، والعوارض في السلوك تختلف بحسب الأشخاص والأحوال، والبداية والنهاية، والقوة والضعف، وسبيل سلوكهم غير متفق، فقد يكون الرجلان على وزن واحد في العلم والعمل، وترتيب الرياضة، ويعرض لهما عارضان مختلفان، فيحتاجان إلى دواء مختلف، إن جعل واحدا لم يصلح، أو متحدان، إن جعل مختلفا لم يصلح، ويعرض لهما عارضا مختلفا، فيحتاجان إلى دواء مختلف، إن جعل واحدا لم يصلح، أو متحدان، إن جعل مختلفا لم يصلح، ويعرض لهما العارض المتحد، فيصلح لأحدهما من العلاج ما لا يصلح لآخر، وترد على كل واحد منهما الأحوال والمواجد والإلقاءات متفقة ومختلفة، فيفرق الشيخ بين مؤتلفها، ويجمع بين مختلفها بحسب ما أراه الله، هذا فيما يعرض له في التخلق والتحقق معا، التحقق بالتوحيد أشد وأحرى و لا يكتسب الدخول فيه من كتاب، بل تحت شيخ خاض بحر التوحيد ثم وقف على ساحله يدعو إليه، وشأن هذا السلوك أعظم والتحرز فيه أتم، والعوارض الطارئة على سالكه أقوى وأدهى وسائر ما يذكر من الفرق في هذا النمط، إنما أصل هلاكهم السلوك في هذا الطريق من غير شيخ محقق عارف، أو الخروج عن نظره فيه فالاحتياج فيه إليه كاحتياج الجسد إلى الغذاء، ابن خلدون. 

سؤال: إذن كيف يمكننا أن نميز بين دورشيخ التربية ودور شيخ الفتوى العلمية؟

جواب: إن شيوخ الطريقة شيوخ تربية وارتياض ودلالة على أحوال معاينة، خارجة عن الاختيار، ليست من قبيل المحسوسات ولا العلوم المتعارفة، وشيوخ الفتيا وحملة الشريعة شيوخ نقل وإبانة إخبار عن كيفية عمل داخل تحت القدرة (واللازم على المكلف بالنسبة للفريقين اعتقادا) '' وجوب الحق لهم وتعظيمهم واتباع هديهم'' ابن خلدون.

سؤال:هل التصوف شريعة ثانية ؟

جواب: ''أما القول بأنها ''شريعة ثانية فتشنيع من القول إنها طريقة خاصة مغايرة لطريقة الشرع العامة، عثر عليها الصديقون واقتفوها حرصا على الدرجات العلى، وعلموا بعد ذوق معانيها ووجدان مداركها كيف تتعلق بها الأحكام الخمسة، وألقوا فهم ذلك لمن خاض لججهم، وعبر بحار ذوقهم فهي مندرجة تحت الأحكام الخمسة اندراج الخاص تحت العام، لكن لتعذر العبارة عن متعلق الأحكام الخمسة، وعدم عموم البلوى، خفي ذلك إلا على أهله المختصين بتعارفها، ومعرفة حكم الله فيها ابن خلدون.

سؤال: فكيف نميز على مستوى الأهداف بين الفقهاء في التعامل مع المكلف ومنهج الصوفية؟

جواب: '' إنما عني الفقهاء بتحرير الحدود والأحكام الجزئية التي هي مظان التنازع والمشاحة، والأخذ بالحظوظ الخاصة، والعمل بمقتضى الطوارئ العارضة، وكأنهم واقفون للناس في اجتهادهم على خط الفصل بين ما أحل الله وما حرم، حتى لا يتجاوزوا ما أحل إلى ما حرم الله فهم يحققون للناس مناط هذه الأحكام بحسب الوقائع الخاصة حين صار التشاح ربما أدى إلى مقاربة الحد الفاصل، فهم يزعونهم عن مداخلة الحمى، وإذا زل أحدهم يبين له الطريق الموصل إلى الخروج عن ذلك في كل جزئية آخذين بحجزهم، تارة بالشدة، وتارة باللين فهذا النمط هو كان مجال الفقهاء، وإياه تحروا، وأما ما سوى ذلك مما هو من مكارم الأخلاق فعلا وتركا فلم يفصلوا القول فيه، لأنه غير محتاج إلى تفصيل، بل الإنسان في أكثر الأمر يستقل بإدراك العمل فيه فوكلوه إلى اختيار المكلف واجتهاده، إذ كيف ما فعل فهو جار على موافقة أمر الشارع ونهيه، وقد تشتبه فيه أمور، ولكن بحسب قربها من الحد الفاصل، فتكلم الفقهاء عليها من تلك الجهة، فهو من القسم الأول، فعلى هذا كل من كان بعده من ذلك الحد أكثر كان أعراقه في مقتصى الأصول الكلية أكثر، وإذا نظرت إلى أوصافه صلى الله عليه وسلم تبين لك الفرق ما بين القسمين، وبون ما بين المنزلتين، وكذلك ما يؤثر من شيم الصحابة واتصافهم بمقتضى تلك الأصول وعلى هذا القسم عول من شهر من أهل التصوف، وبذلك سادوا غيرهم ممن لم يبلغ مبالغهم في الاتصاف بأوصاف الرسول وأصحابه، وأما غيرهم ممن حاز من الدنيا نصيبا فافتقر إلى النظر في هذه الجزئيات والوقائع الدائرة بين الناس في المعاملات والمناكحات فأجروها بالأصول الأولى على حساب ما استطاعوا، وأجروها بالفروع الثواني حين اضطروا إلى ذلك، فعاملوا ربهم في الجميع، ولا يقدر على هذا إلا الموفق الفذ، وهو كان شأن معاملات الصحابة كما نص عليه أصحاب السير - الشاطبي-

سؤال: ولكن ألا ترون أن في منهج الصوفية مجانبة لليسر وتضييقا على المكلف؟

جواب: '' لم تزل الأصول يندرس العمل بمقتضاها لكثرة الاشتغال بالدنيا والتفريع فيها حتى صارت كالنسي المنسي، وصار طالب العمل بها كالغريب المقصي عن أهله، وهو داخل تحت معنى قوله عليه الصلاة السلام: ''بدأ هذا الدين غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء''.
ومن ها هنا يفهم شأن المنقطعين إلى الله فيما امتازوا به من حلتهم المعروفة، فإن الذي يظهر لبادئ الرأي منهم أنهم التزموا أمورا لا توجد عند العامة، ولا هي مما يلزمهم شرعا، فيظن الظان أنهم شددوا على أنفسهم، وتكلفوا ما لم يكلفوا، ودخلوا على غير مدخل أهل الشريعة، وحاشا الله ما كانوا ليفعلوا ذلك، وقد بنوا نحلتهم على اتباع السنة، وهم باتفاق أهل السنة صفوة الله من الخليقة، لكن إذا فهمت حالة المسلمين في التكليف أول الإسلام، ونصوص التنزيل المكي الذي لم ينسخ، وتنزيل أعمالهم عليه تبين لك أن تلك الطريق سلك هؤلاء وباتباعها عنوا على وجه لا يضاد المدني المفسر، فإذا سمعت مثلا أن بعضهم سئل عما يجب من الزكاة في مائتي درهم، فقال أما على مذهبنا فالكل لله، وأما على مذهبكم فخمسة دراهم، وماأشبه ذلك، علمت أن هذا يستمد مما تقدم، فإن التنزيل المكي أمر فيه بمطلق إنفاق المال في طاعة الله ولم يبين فيه الواجب من غيره، بل وكل إلى اجتهاد المنفق ،لا شك أن منه ما هو واجب، ومنه ما ليس بواجب، والاحتياط في مثل هذا مبالغة في الإنفاق في سد الخلات وضروب الحاجات، إلى غاية تسكن إليها نفس المنفق، فأخذ هذا المسؤول في خاصة نفسه بما أفتى به، والتزمه مذهبا في تعبده، وفاء بحق الخدمة وشكر النعمة، وإسقاطا لحظوظ نفسه، وقياما على قدم العبودية المحضة، حتى لم يبق لنفسه حظا، وإن أثبته له الشارع اعتمادا على أن لله خزائن السماوات والأرض، وأنه قال: ''لا نسألك رزقا نحن نرزقك''، وقال: ''ما أريد أن يطمعون'' وقال: ''وفي السماء رزقكم وما توعدون''، ونحو ذلك، فهذا نوع من التعبد لمن قدر على الوفاء به ومثله لا يقال في ملتزمه'' إنه خارج عن الطريقة، ولا متكلف في التعبد، لكن لما كان هذا الميدان لا يسرح فيه كل الناس قيد في التنزيل المدني حين فرضت الزكوات فصارت هي واجبة انحتاما، لا تتعدى إلى ما دونها، ويبقي ما سواها على حكم الخيرة، فاتسع على المكلف مجال الإبقاء جوازا، والإنفاق ندبا، فمن مقل في إنفاقه ومن ومكثر، والجميع محمودون، لأنهم لم يتعدوا حدود الله ومنهم من لاينتهي في الإنفاق إلى إنفاذ الجميع، بل يبقي بيده منه شيء، متحملا منه أمانة لا ينفك عنها إلا بنفاذه أو كالوكيل فيه لخلق الله، سواء عليه أمد نفسه منه أم لا، وهذا كان غالب أحوال الصحابة، ولم يمن إمساكهم مضادا لاعتمادهم على مسبب الأسباب سبحانه وتعالى وأما من أبقى لنفسه حظا فلا حرج عليه، وقد أثبت له حظه من التوسع في المباهات على شرط عدم الإخلال بالواجبات -''الشاطبي-''

سؤال: هل يمكن أن نستند بالنسبة لمنهج الصوفية إلى شرعية تاريخية، فنقول بوجود هذا المنهج السلوكي التربوي في عهد الصحابة والسلف؟

جواب: إن الصحابة رضوان الله عليهم لما شرح الله صدورهم للإسلام، وقبلوا من الهداية ما كانوا فيه على بينة من ربهم، صرفوا الاهتمام إلى أعمال الباطن فكانوا يراعون أنفساهم، ويراقبون خطراتهم، ويحذرون غوائل قلوبهم، وفي هذا كانت أكثر مفاوضاتهم وفزع بعضهم إلى بعض واعتبر ذلك في سؤال عمر بن الخطاب حذيفة رضي الله عنهما، وقد ذكر حذيفة المنافقين وأشار إلى ما سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأنهم، فقال له عمر ناشدتك الله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض هل تعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سماني فيهم قال: لا ولست أبرئ بعدك أحدا، فانظر إلى حذر عمر رضي الله عنه من هذا النفاق إذ لو كان مراد عمر وحذيفة بهذا النفاق مدلوله المشهور: هو إظهار الإسلام وإضمار الكفر كما كان في منافقي المدينة وغيرهم لما حذر عمر من ذلك وفزع فيه إلى علم حذيفة، إذ هو يعلم من نفسه أنه مبرأ منه وكيف يخفى هذا على عمر، وكل واحد يعلم من نفسه ما أكن وما أبدى، فالذي حذره عمر صنف آخر من النفاق وهو ما يكون في أعمال الباطن من خفايا المهلكات، تقع فلتة ولا يعلمها الإنسان من نفسه، ويعلمها النبي باطلاعه على القلوب ومعاينته لأعمالها وأسرارها وبما خصهم الله به من ذلك، وساغ إطلاق النفاق على هذا الصنف من الأعمال لما فيه من مخالفة مضمر الباطن لظاهر الدعوى ثم لما درج الصحابة رضوان الله عليهم وجاء العصر التالي لعصرهم، تلقى أهله هدي الصحابة مباشرة وتلقينا وتعليما، وقيل لهم التابعون، ثم اختلف الناس وتباينت المراتب وفشا الميل عن الجادة والخروج عن الاستقامة، ونسي الناس أعمال القلوب وأغفلوها، وأقبل الجم الغفير على صلاح الأعمال البدنية والعناية بالمراسم الدينية من غير التفات إلى الباطن ولا اهتمام بصلاحه، وشغل الفقهاء بما تعم به البلوى من أحكام المعاملات والعبادات الظاهرة، حسبما طالبهم بذلك منصب الفتيا وهداية الجمهور، فاختص أرباب القلوب باسم الزهاد والعباد، وطلاب الآخرة منقطعين إلى الله، قابضين على دينهم كالقابض على الجمر حسبما ورد، ثم طرقت آفة البدع في المعتقدات فهذا معتزلي أو رافضي أو خارجي، لا تنفعه أعماله الظاهرة ولا الباطنة مع فساد المعتقد الذي هو رأس الأمر، فانفرد خواص السنة المحافظون على أعمال القلوب، المقتدرون بالسلف الصالح في أعمالهم الباطنة والظاهرة، وسموا بالصوفية -ابن خلدون-جواب: ''أما القول بأنها ''شريعة ثانية فتشنيع من القول إنها طريقة خاصة مغايرة لطريقة الشرع العامة، عثر عليها الصديقون واقتفوها حرصا على الدرجات العلى، وعلموا بعد ذوق معانيها ووجدان مداركها كيف تتعلق بها الأحكام الخمسة، وألقوا فهم ذلك لمن خاض لججهم، وعبر بحار ذوقهم فهي مندرجة تحت الأحكام الخمسة اندراج الخاص تحت العام، لكن لتعذر العبارة عن متعلق الأحكام الخمسة، وعدم عموم البلوى، خفي ذلك إلا على أهله المختصين بتعارفها، ومعرفة حكم الله فيها ابن خلدون.

سؤال: فكيف نميز على مستوى الأهداف بين الفقهاء في التعامل مع المكلف ومنهج الصوفية؟

جواب: '' إنما عني الفقهاء بتحرير الحدود والأحكام الجزئية التي هي مظان التنازع والمشاحة، والأخذ بالحظوظ الخاصة، والعمل بمقتضى الطوارئ العارضة، وكأنهم واقفون للناس في اجتهادهم على خط الفصل بين ما أحل الله وما حرم، حتى لا يتجاوزوا ما أحل إلى ما حرم الله فهم يحققون للناس مناط هذه الأحكام بحسب الوقائع الخاصة حين صار التشاح ربما أدى إلى مقاربة الحد الفاصل، فهم يزعونهم عن مداخلة الحمى، وإذا زل أحدهم يبين له الطريق الموصل إلى الخروج عن ذلك في كل جزئية آخذين بحجزهم، تارة بالشدة، وتارة باللين فهذا النمط هو كان مجال الفقهاء، وإياه تحروا، وأما ما سوى ذلك مما هو من مكارم الأخلاق فعلا وتركا فلم يفصلوا القول فيه، لأنه غير محتاج إلى تفصيل، بل الإنسان في أكثر الأمر يستقل بإدراك العمل فيه فوكلوه إلى اختيار المكلف واجتهاده، إذ كيف ما فعل فهو جار على موافقة أمر الشارع ونهيه، وقد تشتبه فيه أمور، ولكن بحسب قربها من الحد الفاصل، فتكلم الفقهاء عليها من تلك الجهة، فهو من القسم الأول، فعلى هذا كل من كان بعده من ذلك الحد أكثر كان أعراقه في مقتصى الأصول الكلية أكثر، وإذا نظرت إلى أوصافه صلى الله عليه وسلم تبين لك الفرق ما بين القسمين، وبون ما بين المنزلتين، وكذلك ما يؤثر من شيم الصحابة واتصافهم بمقتضى تلك الأصول وعلى هذا القسم عول من شهر من أهل التصوف، وبذلك سادوا غيرهم ممن لم يبلغ مبالغهم في الاتصاف بأوصاف الرسول وأصحابه، وأما غيرهم ممن حاز من الدنيا نصيبا فافتقر إلى النظر في هذه الجزئيات والوقائع الدائرة بين الناس في المعاملات والمناكحات فأجروها بالأصول الأولى على حساب ما استطاعوا، وأجروها بالفروع الثواني حين اضطروا إلى ذلك، فعاملوا ربهم في الجميع، ولا يقدر على هذا إلا الموفق الفذ، وهو كان شأن معاملات الصحابة كما نص عليه أصحاب السير - الشاطبي-

سؤال: ولكن ألا ترون أن في منهج الصوفية مجانبة لليسر وتضييقا على المكلف؟

جواب: '' لم تزل الأصول يندرس العمل بمقتضاها لكثرة الاشتغال بالدنيا والتفريع فيها حتى صارت كالنسي المنسي، وصار طالب العمل بها كالغريب المقصي عن أهله، وهو داخل تحت معنى قوله عليه الصلاة السلام: ''بدأ هذا الدين غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء''.
ومن ها هنا يفهم شأن المنقطعين إلى الله فيما امتازوا به من حلتهم المعروفة، فإن الذي يظهر لبادئ الرأي منهم أنهم التزموا أمورا لا توجد عند العامة، ولا هي مما يلزمهم شرعا، فيظن الظان أنهم شددوا على أنفسهم، وتكلفوا ما لم يكلفوا، ودخلوا على غير مدخل أهل الشريعة، وحاشا الله ما كانوا ليفعلوا ذلك، وقد بنوا نحلتهم على اتباع السنة، وهم باتفاق أهل السنة صفوة الله من الخليقة، لكن إذا فهمت حالة المسلمين في التكليف أول الإسلام، ونصوص التنزيل المكي الذي لم ينسخ، وتنزيل أعمالهم عليه تبين لك أن تلك الطريق سلك هؤلاء وباتباعها عنوا على وجه لا يضاد المدني المفسر، فإذا سمعت مثلا أن بعضهم سئل عما يجب من الزكاة في مائتي درهم، فقال أما على مذهبنا فالكل لله، وأما على مذهبكم فخمسة دراهم، وماأشبه ذلك، علمت أن هذا يستمد مما تقدم، فإن التنزيل المكي أمر فيه بمطلق إنفاق المال في طاعة الله ولم يبين فيه الواجب من غيره، بل وكل إلى اجتهاد المنفق ،لا شك أن منه ما هو واجب، ومنه ما ليس بواجب، والاحتياط في مثل هذا مبالغة في الإنفاق في سد الخلات وضروب الحاجات، إلى غاية تسكن إليها نفس المنفق، فأخذ هذا المسؤول في خاصة نفسه بما أفتى به، والتزمه مذهبا في تعبده، وفاء بحق الخدمة وشكر النعمة، وإسقاطا لحظوظ نفسه، وقياما على قدم العبودية المحضة، حتى لم يبق لنفسه حظا، وإن أثبته له الشارع اعتمادا على أن لله خزائن السماوات والأرض، وأنه قال: ''لا نسألك رزقا نحن نرزقك''، وقال: ''ما أريد أن يطمعون'' وقال: ''وفي السماء رزقكم وما توعدون''، ونحو ذلك، فهذا نوع من التعبد لمن قدر على الوفاء به ومثله لا يقال في ملتزمه'' إنه خارج عن الطريقة، ولا متكلف في التعبد، لكن لما كان هذا الميدان لا يسرح فيه كل الناس قيد في التنزيل المدني حين فرضت الزكوات فصارت هي واجبة انحتاما، لا تتعدى إلى ما دونها، ويبقي ما سواها على حكم الخيرة، فاتسع على المكلف مجال الإبقاء جوازا، والإنفاق ندبا، فمن مقل في إنفاقه ومن ومكثر، والجميع محمودون، لأنهم لم يتعدوا حدود الله ومنهم من لاينتهي في الإنفاق إلى إنفاذ الجميع، بل يبقي بيده منه شيء، متحملا منه أمانة لا ينفك عنها إلا بنفاذه أو كالوكيل فيه لخلق الله، سواء عليه أمد نفسه منه أم لا، وهذا كان غالب أحوال الصحابة، ولم يمن إمساكهم مضادا لاعتمادهم على مسبب الأسباب سبحانه وتعالى وأما من أبقى لنفسه حظا فلا حرج عليه، وقد أثبت له حظه من التوسع في المباهات على شرط عدم الإخلال بالواجبات -''الشاطبي-''

سؤال: هل يمكن أن نستند بالنسبة لمنهج الصوفية إلى شرعية تاريخية، فنقول بوجود هذا المنهج السلوكي التربوي في عهد الصحابة والسلف؟

جواب: إن الصحابة رضوان الله عليهم لما شرح الله صدورهم للإسلام، وقبلوا من الهداية ما كانوا فيه على بينة من ربهم، صرفوا الاهتمام إلى أعمال الباطن فكانوا يراعون أنفساهم، ويراقبون خطراتهم، ويحذرون غوائل قلوبهم، وفي هذا كانت أكثر مفاوضاتهم وفزع بعضهم إلى بعض واعتبر ذلك في سؤال عمر بن الخطاب حذيفة رضي الله عنهما، وقد ذكر حذيفة المنافقين وأشار إلى ما سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأنهم، فقال له عمر ناشدتك الله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض هل تعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سماني فيهم قال: لا ولست أبرئ بعدك أحدا، فانظر إلى حذر عمر رضي الله عنه من هذا النفاق إذ لو كان مراد عمر وحذيفة بهذا النفاق مدلوله المشهور: هو إظهار الإسلام وإضمار الكفر كما كان في منافقي المدينة وغيرهم لما حذر عمر من ذلك وفزع فيه إلى علم حذيفة، إذ هو يعلم من نفسه أنه مبرأ منه وكيف يخفى هذا على عمر، وكل واحد يعلم من نفسه ما أكن وما أبدى، فالذي حذره عمر صنف آخر من النفاق وهو ما يكون في أعمال الباطن من خفايا المهلكات، تقع فلتة ولا يعلمها الإنسان من نفسه، ويعلمها النبي باطلاعه على القلوب ومعاينته لأعمالها وأسرارها وبما خصهم الله به من ذلك، وساغ إطلاق النفاق على هذا الصنف من الأعمال لما فيه من مخالفة مضمر الباطن لظاهر الدعوى ثم لما درج الصحابة رضوان الله عليهم وجاء العصر التالي لعصرهم، تلقى أهله هدي الصحابة مباشرة وتلقينا وتعليما، وقيل لهم التابعون، ثم اختلف الناس وتباينت المراتب وفشا الميل عن الجادة والخروج عن الاستقامة، ونسي الناس أعمال القلوب وأغفلوها، وأقبل الجم الغفير على صلاح الأعمال البدنية والعناية بالمراسم الدينية من غير التفات إلى الباطن ولا اهتمام بصلاحه، وشغل الفقهاء بما تعم به البلوى من أحكام المعاملات والعبادات الظاهرة، حسبما طالبهم بذلك منصب الفتيا وهداية الجمهور، فاختص أرباب القلوب باسم الزهاد والعباد، وطلاب الآخرة منقطعين إلى الله، قابضين على دينهم كالقابض على الجمر حسبما ورد، ثم طرقت آفة البدع في المعتقدات فهذا معتزلي أو رافضي أو خارجي، لا تنفعه أعماله الظاهرة ولا الباطنة مع فساد المعتقد الذي هو رأس الأمر، فانفرد خواص السنة المحافظون على أعمال القلوب، المقتدرون بالسلف الصالح في أعمالهم الباطنة والظاهرة، وسموا بالصوفية -ابن خلدون-
...........
د أحمد غاني
أستاذ باحث في علم أصول الفقه

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق