ليس في هذا العلم في أصوله بحث في قضايا الروح أو ماهيتها فهذا شيء محكوم بالنصوص، والنصوص لم تتحدث عن هذه الماهية {ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً} [الإسراء: 85]... فالبحث عن ماهية الروح تكلف، وأهل هذا العلم بعيدون عن التكلف، وإنما كلامهم في الروح يدور حول قضيتين هما:
إرجاع الروح إلى أصل معرفتها وإرجاعها إلى كمال عبوديتها. فالله عز وجل قال: {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى} [الأعراف: 172]... قال: أبي بن كعب جمعهم فجعلهم أرواحاً ثم صورهم فاستنطقهم فتكلموا ثم أخذ عليهم العهد والميثاق وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى... فالروح في أصل الخلقة عارفة بالله مقرة له بالعبودية معترفة أنه ربها ولكن هذه الروح بمخالطتها الجسد تبدأ تطرأ عليها الطوارئ فتفقد من معرفتها وعبوديتها نتيجة لذلك ونتيجة لسماعها وتلقيها وأخذاً من بيئتها كما قال عليه السلام "يولد الإنسان على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه" رواه البخاري وغيره.
فالروح تبدأ تتأثر بمجموعة العوامل التي تحيط بها من جسد وبيئة ويترتب على ذلك ما يترتب من بعد كثير أو قليل عن معرفتها الخالصة بالله وعبوديتها له وهذا يقتضي ارجاعاً لها إلى أصلها وإلى كمالها... وكثيراً ما يقع الناس في غلو يبعدهم عن الفطرة أو في تقصير يبعدهم عن العبودية، قال تعالى {يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق} [النساء: 172]، وقال تعالى عن أهل الكتاب {وكثير منهم فاسقون} [الحديد: 26].
إن إرجاع الروح إلى وضعها الأصيل الكامل ليس عملية سهلة وكذلك لا يتقنها كل إنسان وعلى كل حال تبقى قضية مطلوبة من الإنسان، وهذا العلم يبحث فيما يبحث في هذا الشأن. فالروح ينبغي أن تعود إلى معرفتها الكاملة بالله وهذا يقتضي فيما يقتضي أن نتحقق بأسماء الله مع العبودية الكاملة لله. وهذا طريقه علم صحيح ومجالسة مع أهل ذلك وذكر الله عز وجل، قال تعالى: {وتوكل على الحي الذي لا يموت وسبح بحمده وكفى بربك بذنوب عباده خبيراً. الذي خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش الرحمن فاسأل به خبيراً} [الفرقان: 58]. لاحظ قوله تعالى {فاسأل به خبيراً} إن هذا النص يحتمل أكثر من معنى أحدها أن تسأل العارفين في الله عن الله. وفي وصية لقمان لابنه يقول تعالى: {وابتع سبيل من أناب إليّ} [لقمان: 16] فالرجاعون إلى الله طريقهم مسلوكة، فالعلم بالله وصفاته والعلم بالعبودية الخالصة لله وطريقها والأخذ عن أهل ذلك والاقتداء بهم مع الذكر الكثير معه وتذكر الآخرة طريق الروح إلى العودة.
ونلح على قضية الذكر لأنه بالذكر يتم التحقق الكامل بأسماء الله وبمعرفته، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في ما يرويه عن ربه "وأنا معه إذا ذكرني" (متفق عليه). فالله عز وجل مع العبد إذا ذكره العبد ومعية الله للعبد آثارها كثيرة من جملتها رعاية الله للعبد فلا يخطئ ولا يزل ومن جملتها أن يحققه الله عز وجل بأسمائه فمعية الله لروح الإنسان تجعل هذه الروح تأخذ عن أسماء الله وصفاته بقدر ما تذكر هذه الروح وتتقرب إلى الله بذكر أسمائه. فهذا أول مجال من مجالات علم التصوف.