نفحات الطريق

يعنى الموقع بالتأصيل الشرعي للتصوف المقتبس من مشكاة نور النبوة والتعريف بمقامات وأعلام الصوفية. إلى جانب نشر كتب ورسائل عن التصوف.

آخر الأخبار

random
جاري التحميل ...

التوكل تفويض الأمر إلى الله سبحانه


التوكل : تفويض الأمر إلى الله سبحانه ، وأصله : علم العبد بأن الحادثات كلها حاصلة من الله ، ولا يقدر أحد على إيجاد شيء أو دفعه ، فإذا عرف العبد هذا ، وعلم أن مراد الله لا يرتفع ولا يدفع ، حصل له التوكل .

وهذا القدر فرض ، وهو من شرائط الإيمان ، قال الله تعالى : { وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين } [ المائدة : 23 ] ، وما زاد على هذا القدر؛ من سكون القلب ، وطمأنينته ، وزوال الانزعاج والاضطراب ، فهو من أحوال التوكل ومقاماته
فالناس في الاكتفاء والسكون على أقسام ودرجات ، فأول رتبة فيه : أن يكتفي بما في يده ، ولا يطلب الزيادة عليه ، ويستريح قلبه من طلب الزيادة . وتسمى هذه الحالة : القناعة ، فيقنع بالحاصل ، ولا يستزيد ما ليس بحاصل - يعني : مع وجود الأسباب - ثم بعد هذا سكون القلب في حال عدم الأسباب ، وهو مقام التجريد ، وهم متباينون في الرتبة : واحد يكتفي بوعده ، لأنه صدقه في ضمانه ، فسكن قلبه عند فقد الأسباب؛ ثقة منه بوعد ربه ، وقد قيل : إن التوكل : سكون القلب بضمان الرب ، ويقال : سكون الجأش في طلب المعاش ، ويقال : الاكتفاء بوعده عند عدم نقده .

وألطف من هذا أن يكتفي بعلم الله ، فيشتغل بمولاه ، ولا يلتفت إلى إنجاز وعد ولا ضمان ، فيكل أمره إلى الله ، وهذه حالة التسليم . وفوق هذه : التفويض ، وهو أن يكل أمره إليه ، ولا يختار حالا على حال ، فيشتغل بمولاه ويغيب عن نفسه وعن كل ما سواه ، يعلم أنه مملوك لسيده ، والسيد أولى من العبد بنفسه . فإذا ارتقى عن هذه الحالة وجد الراحة في المنع ، ويستعذب ما يستقبله من الرد ، فهي رتبة الرضا ، ويحصل له في هذه الحالة ، من فوائد الرضا ومطالعته ، ما لا يحصل لمن دونه من الحلاوة في وجود المقصود .

وبعد هذا : الموافقة؛ وهو ألا يجد الراحة في المنع ولا في العطاء ، وإنما يجد حلاوة نسيم القرب ، وزوائد الأنس بنسيان كل أرب . فكما أن حلاوة الطاعات تتصاغر عند برد الرضا - ويعدون ذلك حجابا - كذلك أهل الأنس بالله يعدون الوقوف مع حلاوة الرضا والاشتغال بلطائفه نقصانا وحجابا . ثم بعد هذا استيلاء سلطان الحقيقة ، بما يأخذ العبد عن جملته بالكلية ، فيعبر عن هذه الحالة بالخمود ، والاستهلاك ، والوجود ، والاصطلام ، والفناء - وهذا هو عين التوحيد الخاص - فعند ذلك لا أنس ، ولا هيبة ، ولا لذة ، ولا راحة ، ولا وحشة ، ولا آفة . يعني : غيب المقامات بلذاتها وراحتها ، عند تحقق الفناء ، ثم قال : هذا بيان ترتيبهم ، فأما ما دون ذلك؛ فالإخبار عن أحوال المتوكلين ، على تباين شرفهم ، يختلف على حسب اختلاف حالهم . انتهى بالمعنى .

ويقال : التوكل في الأسباب الدنيوية ينتهي إلى حد ، وأما التوكل على الله في إصلاح آخرته : فهو أشد غموضا وأكثر خفاء ، فالواجب ، في الأسباب الدنيوية ، أن يكون السكون عند طلبها غالبا ، والحركة تكون ضرورة ، وأما في أمر الآخرة وما يتعلق بالطاعة ، فالواجب البدار والجد والانكماش ، والخروج عن أوطان الكسل ، وترك الجنوح إلى الفشل .

والذي يوصف بالتواني في العبادات والتباطؤ في تلافي ما ضيعه من إرضاء الخصوم ، والقيام بحق الواجبات ، ثم يعتقد في نفسه أنه متوكل على الله ، فهو متمن معلول الحال ، ممكور مستدرج ، بل يجب أن يبذل جهده ، ويستفرغ وسعه ، ثم بعد ذلك لا يعتمد على طاعته ، ولا يستند إلى سكونه وحركته ، ويتبرأ من حوله وقوته ، ثم يحسن الظن بربه . ومع حسن ظنه بربه لا ينبغي أن يخلو من مخافته ، اللهم إلا أن يغلب على قلبه ما يشغله في الحال؛ من كشوفات الحقائق عن الفكرة في العواقب؛ فإن ذلك - إذا حصل - فالوقت غالب ، وهو أحد ما قيل في قولهم : الوقت سيف .

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق