نفحات الطريق

يعنى الموقع بالتأصيل الشرعي للتصوف المقتبس من مشكاة نور النبوة والتعريف بمقامات وأعلام الصوفية. إلى جانب نشر كتب ورسائل عن التصوف.

آخر الأخبار

random
جاري التحميل ...

تفسير قوله تعالى :ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا.


(ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير)


الإشارة : قال الورتجبي : الاصطفائية تقدمت الوراثة؛ لمحبته ومشاهدته ، ثم خاطبهم بما له عندهم وما لهم عنده . وهذا الميراث الذي أورثهم من جهة نسب معرفتهم به ، واصطفائيته إياهم ، وهو محل القرب والانبساط ، لذلك قال : { ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا } ثم قسمهم على ثلاثة أقسام : ظالم ، ومقتصد ، وسابق . والحمد لله الذي جعل الظالم من أهل الاصطفائية . 

ثم قال : فالظالم عندي والله أعلم الذي وازى القدم بشرط إرادة حمل وارد جميع الذات والصفات ، وطلب كنه الأزلية بنعت إدراكه ، فأي ظالم أعظم منه؟ إذ طلب شيئا مستحيلا ، ألا ترى كيف وصف سبحانه آدم بهذا الظلم بقوله : { وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا } [ الأحزاب : 72 ] ، وهذا من كمال شوقه إلى حقيقة الحق ، وكمال عشقه ، ومحبة جلاله . ه .قلت : وهذا النوع من المتوجهين غلب عليه سكر المحبة ، ودهش العشق ، فادعى قوة الربوبية ، وطلب إدراك الألوهية ، ونسي ضعف عبوديته ، فكان ظالما لنفسه ، من هذا المعنى؛ إذ العبودية لا تطيق إدراك كنه الربوبية . ولو أنه طلب الوصول إليه من جهة فقره ، وضعفه ، لكان مقتصدا ، ولو أنه طلب الوصول إلى الله بالله لكان سابقا . 

فالأقسام الثلاثة تجري في المتوجهين؛ فالظالم لنفسه : من غلب سكره على صحوه في بدايته ، والمقتصد من غلب صحوه على سكره في بداية سيره ، والسابق من اعتدل سكره مع صحوه في نهايته أو سيره .أو الظالم : السالك المحض ، والمقتصد : المجذوب المحض ، والسابق : الجامع بينهما؛ إذ هو الذي يصلح للتربية . أو الظالم : الذي ظاهره خير من باطنه ، والمقتصد : الذي استوى ظاهره وباطنه ، والسابق : هو الذي باطنه خير من ظاهره .وعن علي كرم الله وجهه : الظالم : الآخذ بأقوال النبي صلى الله عليه وسلم ، والمقتصد : الآخذ بأقواله وأفعاله ، والسابق : الآخذ بأقواله وأفعاله وأخلاقه . وقال القشيري : "ويقال الظالم : من غلبت زلاته ، والمقتصد : من استوت حالاته ، والسابق : من زادت حسناته" . أو : الظالم : من زهد في دنياه ، والمقتصد : من رغب في عقباه ، والسابق : من آثر على الدارين مولاه . أو : الظالم من نجم كوكب عقله ، والمقتصد : من طلع بدر علمه ، والسابق : من ذرت شمس معرفته . أو : الظالم : من طلبه ، والمقتصد : من وجده ، والسابق : من بقي معه . أو : الظالم : من ترك الزلة ، والمقتصد : من ترك الغفلة ، والسابق : من ترك العلاقة .أو : الظالم : من جاد بنفسه ، والمقتصد : من لم يبخل بقلبه ، والسابق : من جاد بروحه . أو : الظالم : من له علم اليقين ، والمقتصد : من له عين اليقين ، والسابق : من له حق اليقين . أو : الظالم : بترك الحرام ، والمقتصد : بترك الشبهة ، والسابق : بترك الفضل في الجملة .أو : الظالم : صاحب سخاء ، والمقتصد : صاحب جود ، والسابق : صاحب إيثار . أو : الظالم : صاحب رجاء ، والمقتصد : صاحب بسط ، والسابق : صاحب أنس . أو : الظالم : صاحب خوف ، والمقتصد : صاحب خشية ، والسابق : صاحب هيبة . أو : الظالم له المغفرة ، والمقتصد : له الرحمة ، والسابق : له القربة ، أو : الظالم : طالب النجاة ، والمقتصد : طالب الدرجات ، والسابق : طالب المناجاة . أو : الظالم : أمن من العقوبة ، والمقتصد : طالب المثوبة ، والسابق : متحقق بالقربة . أو : الظالم : صاحب التوكل ، والمقتصد : صاحب التسليم ، والسابق : صاحب التفويض ، أو : الظالم : صاحب تواجد ، والمقتصد : صاحب وجد ، والسابق : صاحب وجود غير محجوب عنه البتة . أو : الظالم : مجذوب إلى فعله ، والمقصد مكاشف بوصفه ، والسابق : مستهلك في حقه ، الذي هو وجوده . أو : الظالم : صاحب المحاضرة ، والمقتصد : صاحب المكاشفة ، والسابق : صاحب المشاهدة . وبعضهم قال : يراه الظالم في الآخرة في كل جمعة ، والمقتصد : في كل يوم مرة ، والسابق : غير محجوب عنه ألبتة . ه باختصار .والتحقيق : أن الأقسام الثلاثة تجري في كل من العارفين ، والسائرين ، والعلماء ، والعباد ، والزهاد ، والصالحين؛ إذ كل فن له بداية ووسط ونهاية . ذلك السبق إلى الله هو الفضل الكبير ، جنات المعارف يدخلونها ، يحلون فيها من أساور من ذهب ، وهي الأحوال ، ولؤلؤا ، وهي المقامات ، ولباسهم فيها حرير ، وهي خالص أعمال الشريعة ولبها . وقالوا : الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن؛ إذ لا حزن مع العيان ، ولا أغيار مع الأنوار ، ولا أكدار مع الأسرار ، ما تجده القلوب من الأحزان فلما منعت من العيان . ولابن الفارض رضي الله عنه في وصف الخمرة : 
وإن خطرت يوما على خاطر امرىء
أقامت بها الأفراح وارتحل الهم
ربنا لغفور بتغطية العيوب ، شكور بكشف الغيوب ، الذي أحلنا دار المقامة ، هي التمكين في الحضرة ، بفضله ، لا بحول منا ولا قوة ، لا يمسنا فيها نصب .

قال القشيري : إذا أرادوا أن يروا مولاهم لا يحتاجون إلى قطع مسافة ، بل هم في غرفهم يشاهدون مولاهم ، ويلقون فيها تحية وسلاما ، وإذا رأوه لا يحتاجون إلى تحديق مقلة من جهة ، كما هم يرونه بلا كيفية. 

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق