نفحات الطريق

يعنى الموقع بالتأصيل الشرعي للتصوف المقتبس من مشكاة نور النبوة والتعريف بمقامات وأعلام الصوفية. إلى جانب نشر كتب ورسائل عن التصوف.

آخر الأخبار

random
جاري التحميل ...

إيقاظ الهمم في شرح الحكم( 9)

و لما كان الخمول من مضامن الإخلاص بل لا يتحقق في الغالب إلا به إذ لاحظ فيه للنفس ذكره بعده. فقال:

11- ادْفِنْ وُجودَكَ في أَرْضَ الخُمولِ ، فَما نَبَتَ مِمّا لََمْ يُدْفَنْ لاَ يَتِمُّ نِتَاجُهُ.


الدفن هو التغطية و الستر، و الخمول: سقوط المنزلة عند الناس، و نتائج الشجرة: ثمرتها استعير هنا للحكم و المواهب و العلوم التي يجتنيها العبد من المعرفة باللّه، و ذلك عند موت نفسه و حياة روحه. قلت : استر نفسك أيها المريد و ادفنها في أرض الخمول حتى تستأنس به و تستحليه، و يكون عندها أحلى من العسل و يصير الظهور عندها أمر من الحنظل، فإذا دفنتها في أرض الخمول و امتدت عروقها فيه، فحينئذ تجني ثمرتها، و يتم لك نتاجها و هو سر الإخلاص و التحقق بمقام خواص الخواص، و أما إذا لم تدفنها في أرض الخمول و تركتها على ظهر الشهرة تجول ماتت شجرتها أو أسقطت ثمرتها، فإذا جنى العارفون ما غرسوه من جنات معارفهم من العلوم، و ما دفنوه من كنوز الحكم و مخازن الفهوم بقيت أنت فقيرا سائلا أو سارقا صائلا. قال سيدنا عيسى عليه السلام لأصحابه: أين تنبت الحبة؟ قالوا: في الأرض. قال: كذلك الحكمة لا تنبت إلا في قلب كالأرض.انتهى. و قال بعض العارفين: كلما دفنت نفسك أرضا أرضا سما قلبك سماء سماء و قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلم: «ربّ أشعث أغبر ذي طمرين {لا يؤبه به‌}، تنبوا عنه أعين النّاس، لو أقسم على اللّه لأبرّه في قسمه‌». و كان عليه الصلاة و السلام جالسا مع الأقرع بن حابس كبير بني تميم فمر عليه رجل من فقراء المسلمين فقال عليه السلام للأقرع بن حابس ما تقول في هذا؟ فقال: هذا يا رسول اللّه من فقراء المسلمين حقيق إن خطب أن لا يزوج و إن استأذن أن لا يؤذن له و إن قال إن لا يسمع له ثم مر بهما رجل من المترفين فقال له عليه السلام : و ما تقول في هذا فقال هذا حقيق إن خطب أن يزوج و إن‌ استأذن أن يؤذن له، و إن قال إن يسمع له فقال له صلى اللّه عليه و آله و سلم: «هذا يعني الفقير خير من مل‌ء الأرض من هذا».

و في مدح الخمول أحاديث كثيرة و فضائل مشهورة، و لو لم يكن فيه إلا الراحة و فراغ القلب لكان كافيا و أنشد بعضهم و هو الحضرمي:

عش خامل الذكر بين الناس و ارض به‌ فذاك أسلم للدّنيا و للدّين‌
من عاشر النّاس لم تسلم ديانته‌ و لم يزل بين تحريك و تسكين‌

و قال بعض الحكماء: الخمول نعمة و النفس تأباه و الظهور نقمة و النفس تهواه.

و قال آخر: طريقتنا هذه لا تصلح إلا بقوم كنست بأرواحهم المزابل.

قلت: و يجب على من ابتلي بالجاه و الرياسة أن يستعمل من الخراب ما يسقط به جاهه و إن كان مكروها دون الحرام المتفق عليه بقصد الدواء، كالسؤال في الحوانيت أو الديار و كالأكل‌، في السوق، و حيث يراه الناس و كالرقاد فيه، و كالسقي بالقربة، و حمل الزبل على الرأس بوقاية، و كالمشي بالحفا و إظهار الحرص و البخل و الشح، و كلبس المرقعة و تعليق السبحة الكبيرة و كل ما يثقل على النفس من المباح أو المكروه دون الحرام. قال الشيخ زروق رضي اللّه تعالى عنه: و كما لا يصح دفن الزرع في أرض رديئة لا يجوز الخمول بحالة غير مرضيّة، و قياس ذلك بالغصّة لا يصح لأن فوت الحياة الحسية مانع من كل خير واجبا و مندوبا و تفويتها مع إمكان إبقائها محرم إجماعا لقوله تعالى: وَ لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة: 195] بخلاف الخمول لا يفوت به شي‌ء من ذلك إنما يفوت به الكمال، و هو نفي الجاه و المنزلة و أصله الإباحة انتهى.

و أجاب بعضهم بأنه إذا جاز لفوت الحياة الفانية فأولى أن يجوز لفوت الحياة الدائمة و هي المعرفة فتأمله، و قصة لص الحمّام تشهد له، و اللّه تعالى أعلم.

و لقد سمعت شيخنا رضي اللّه تعالى عنه يقول: الفقير الصديق: يقتل نفسه بأدنى شي‌ء من المباح. و الفقير الكذاب: يقع في المحرم و لا يقتلها و كان كثيرا ما ينهى عن الأحوال الظلمانية، و يقول: عندنا من المباح ما يغنينا عن المحرم و المكروه و أما السؤال فإنما هو مكروه أو حرام لقصد قوت الأشباح مع الكفاية أما لقصد قوت الأرواح فليس بحرام و قد ذكر القسطلاني في «شرح البخاري»، عن ابن العربي الفقيه أنه قال: واجب على الفقير في بدايته فانظره، و قد ذكره في «المباحث الأصلية» مستوفى فانظره. و سيأتي الكلام عليه إن شاء اللّه عند قوله: لا تمدن يدك إلى الأخذ من الخلائق الخ. فإن قلت: هذا الخراب الذي ذكرت فيه شهرة أيضا إذ الخمول هو الخفاء عن أعين الناس، و هذا فيه ظهور كبير. قلت: الخمول هو إسقاط المنزلة عند الناس، و كتمان سر الولاية و كل ما يسقط المنزلة عندهم و ينفي تهمة الولاية فهو خمول، و إن كان في الحس ظهورا و لذلك كان شيخنا رضي اللّه تعالى عنه يقول: طريقتنا منها الخمول في الظهور و الظهور في الخمول. و قال النجيبي في «الإنالة» ما نصه: و من يقل من الصوفية إن المرقعة شهرة فجوابه أن سلمان الفارسي سافر في زيارة أبي الدرداء من العراق إلى الشام راجلا و عليه كساء غليظ غير مضموم فقيل له: أشهرت نفسك فقال: الخير خير الآخرة و إنما أنا عبد ألبس كما يلبس العبد فإذا أعتقت لبست حلة لا تبلى حواشيها انتهى. و من ذلك قصة الغزالي رضي اللّه تعالى عنه من حمله جلد الثور على ظهره عند ملاقاة شيخه الخراز و كنسه السوق و استعماله القربة ليسقي الناس كذا سمعتها من الشيخ مرارا و لم أقف عليها عند أحد ممن عرف به، و انظر ما جرى له مع ابن العربي عند قوله: رب عمر اتسعت آماده و قلّت أمداده، و كذلك قصة الششتري رضي اللّه تعالى عنه مع شيخه ابن سبعين لأن الششتري كان وزيرا و عالما و أبوه كان أميرا فلما أراد الدخول في طريق القوم قال له شيخه: لا تنال منها شيئا حتى تبيع متاعك و تلبس قشابة و تأخذ بنديرا و تدخل السوق ففعل جميع ذلك فقال له: ما نقول في السوق؟ فقال قل: بدأت بذكر الحبيب، فدخل السوق يضرب بنديره و يقول: بدأت بذكر الحبيب فبقي ثلاثة أيام و خرقت له الحجب، فجعل يغني في الأسواق بعلوم الأذواق و من كلامه رضي اللّه تعالى عنه:

شويخ من أرض مكناس‌
في وسط الأسواق يغني‌
آش عليّ من الناس‌
و آش على الناس منّي‌

ثم قال:

آش حد من حد
افهموا ذي الإشاره‌
و انظروا كبر سنّي‌
و العصا و الغراره‌
هكذا عشت بفاس‌
و كدهان هوني‌
إش عليّ من الناس‌
و إش على الناس مني‌
و ما أحسن كلامه‌
إذا يخطر في الأسواق‌
و ترى أهل الحوانيت‌
تلتفت لو بالأعناق‌
بالغرارة في عنقو
بعكيكز و بغراف‌
شيخ يبني على ساس‌
كإنشاء الله يبني‌
آش عليّ من الناس‌
و آش على الناس مني‌

و كذاك‌ قصة الرجل الذي كان مع أبي يزيد البسطامي بقي معه ثلاثين سنة فكان لا ينقطع عن مجلسه و لا يفارقه فقال له يوما: يا أستاذ أنا منذ ثلاثين سنة أصوم النهار و أقوم الليل و قد تركت الشهوات، و لست أجد في قلبي شيئا من هذا الذي تذكر البتة و أنا أؤمن بكل ما تقول و أصدقه فقال له أبو يزيد رضي اللّه تعالى عنه: لو صليت ثلاثمائة سنة و أنت على ما أراك عليه لا تجد منه ذرة قال فلم يا أستاذ؟ قال: لأنك محجوب بنفسك. قال: أفلهذا دواء حتى ينكشف هذا الحجاب. قال: نعم و لكنك لا تقبل و لا تعمل. قال: بل أقبل و أعمل ما تقول. قال له أبو يزيد: اذهب الساعة إلى الحجام و احلق رأسك و لحيتك و انزع هذا اللباس و أتزر بعباءة و علق في عنقك مخلاة و املأها جوزا و اجمع حولك صبيانا و قل بأعلى صوتك: يا صبيان من يصفعني صفعة أعطه جوزة و ادخل سوقك الذي تعظّم فيه و أنت على هذه الحالة حتى ينظر إليك كل من عرفك فقال يا أبا يزيد: سبحان اللّه أيقال لمثلي هذا و تحسب أني أفعله، فقال له: قولك سبحان اللّه شرك فقال له و كيف؟ فقال أبو يزيد: لأنك عظمت نفسك فسبحتها. قال يا أبا يزيد:لست أقدر على هذا و لا أفعله و لكن دلني على غير هذا حتى أفعله. فقال له أبو يزيد: ابدأ بهذا قبل كل شي‌ء حتى تسقط جاهك و تذل نفسك ثم بعد ذلك أعرفك بما يصلح لك. قال: لا أطيق هذا. قال: إنك قد قلت إنك تقبل و تعمل و أنا أعلم أن لا مطمع لعبد فيما حجب عن العامة من أسرار الغيب حتى تموت نفسه و يخرق عوائد العامة فحينئذ تخرق له العوائد و تظهر له الفوائد انتهى. و كذلك قصة أبي عمران البردعي مع شيخه أبي عبد اللّه التاودي بفاس من حلق رأسه و لبسه جلابية، و أخذه خبزة ينادي عليها من يخلصها ففعل جميع ذلك، و كذلك قصة شيخ شيوخنا سيدي عبد الرحمن المجذوب من أكله التين عند أشجار الناس و غنائه بالأسواق و خرابه بالقصر مشهور حتى‌ طوفوه‌ بها مرارا، و كذلك قصة سيدي علي العمراني، فخرابه بفاس مشهور كنار على علم سكن السفليات حتى مات رضي اللّه تعالى عنه، و كذلك قصة شيخ شيخنا مولاي العربي من لبسه الغرارة و سقيه بالقربة و غير ذلك مما هو معلوم فهذه الحكايات تدل على أن الخمول ليس هو ما يفهمه العوام من لزوم البيوت و الفرار إلى الجبال، فذلك هو عين الظهور عند المحققين و إنما الخمول هو كما قال الشيخ زروق رضي اللّه تعالى عنه: تحقيق النفس بوصفها الأدنى و شعورها به أبدا، و وصفها الأدنى هو الذل و كل ما يثقل عليها فمرجعه للتحقيق بوصف التواضع، و فائدته: تحصيل العمل و كمال الحقيقة انتهى.

فإن قلت في فعل هذه الأحوال التعرض لكلام الناس، و إيقاعهم في الغيبة.

قلت: هذا مبني على القصد و النية و كل من فعل شيئا من ذلك فإنما قصده قتل نفسه و تحقيق إخلاصه و دواء قلبه و هم مسامحون لمن قال فيهم عاذرون له قال سيدي علي في كتابه: نحن نعذر من عذرنا و نعذر من لم يعذرنا. و قال الشيخ زروق رضي اللّه تعالى عنه: في قواعده قاعدة حكم الفقه عام في العموم لأن مقصوده إقامة رسم الدين و رفع مناره و إظهار كلماته، و حكم التصوف خاص في الخصوص لأنه معاملة بين العبد و ربه من غير زائد على ذلك فمن ثمّ صح إنكار الفقيه على الصوفي و لم يصح إنكار الصوفي على الفقيه و لزم الرجوع من التصوف إلى الفقه في الأحكام لا في الحقائق انتهى.

تنبيه: هذه الأدوية التي ذكرنا إنما هي في حالة المرض و أما من تحقق شفاؤه و كمل فناؤه فهو عبد اللّه سواء أظهره أو أخفاه.

و في هذا قال الشيخ أبو العباس المرسي رضي اللّه تعالى عنه: من أحب الظهور فهو عبد الظهور و من أحب الخفاء فهو عبد الخفاء، و عبد اللّه سواء عليه أظهره أم أخفاه انتهى.

و لما كان التخلص من دقائق الرياء و مخادع النفوس لا يكون في الغالب إلا بالفكرة و لا تتم الفكرة إلا بالعزلة، ذكرها فقال:

12- مَا نَفَعَ القَلْبَ شَيْءٌ مِثْلُ عُزْلَةٍ يَدْخُلُ بِهَا مَيْدَانَ فِكْرَةٍ.


النفع: إيصال الفائدة، و القلب: القوة المستعدة لقبول العلم، و العزلة:

انفراد القلب باللّه، و قد يراد بها الخلوة التي هي انفراد القالب عن الناس و هو المراد هنا إذ لا ينفرد القلب في الغالب إلا إذا انفرد القالب. و ميدان بالفتح و الكسر في الميم مجال الخيل، استعير هنا للأفكار، إذ تردّدها في مواقعها كتردد الخيل في مجالها و الفكرة: سير القلب إلى حضرة الرب، و هي على قسمين:

- فكرة تصديق و إيمان.

- و فكرة شهود و عيان، على ما يأتي.

قلت: لا شي‌ء أنفع للقلب من عزلة مصحوبة بفكرة لأن العزلة كالحمية و الفكرة كالدواء، فلا ينفع الدواء من غير حمية، و لا فائدة في الحمية من غير دواء، فلا خير في عزلة لا فكرة فيها و لا نهوض لفكرة لا عزلة معها؛ إذ المقصود من العزلة هو تفرغ القلب، و المقصود من التفرغ هو جولان القلب و اشتغال الفكرة و المقصود من اشتغال الفكرة تحصيل العلم و تمكنه من القلب، و تمكين‌ العلم باللّه من القلب هو دواؤه و غاية صحته، و هو الذي سماه اللّه القلب السليم قال اللّه تعالى في شأن القيامة: يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَ لا بَنُونَ* إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ‌ [الشعراء 88: 89]، أي صحيح و قد قالوا: إن القلب كالمعدة إذا قويت عليها الأخلاط مرضت، و لا ينفعها إلا الحمية، و هي قلة موادّها و منعها من كثرة الأخلاط.

و في الحديث: «المعدة بيت الدّاء، و الحمية رأس الدّواء»، و كذلك القلب إذا قويت عليه الخواطر و استحوذ عليه الحس مرض، و ربما مات و لا ينفعه إلا الحمية منها، و الفرار من مواطنها و هي الخلطة فإذا اعتزل عن الناس و استعمل الفكرة نجح دواؤه، و استقام قلبه و إلا بقي سقيما حتى يلقى اللّه بقلب سقيم بالشك و الخواطر الرديئة نسأل اللّه العافية. قال الجنيد رضي اللّه تعالى عنه: أشرف المجالس الجلوس مع الفكرة في ميدان التوحيد. و قال الشيخ أبو الحسن رضي اللّه تعالى عنه: ثمار العزلة الظّفر بمواهب المنة، و هي أربعة:

كشف الغطاء و تنزل الرحمة و تحقق المحبة و لسان الصدق في الكلمة قال اللّه تعالى: فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَ ما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ كُلًّا جَعَلْنا نَبِيًّا [مريم: 49] انتهى. و اعلم أن في الخلوة عشر فوائد: الأولى السلامة من آفات اللسان فإن من كان وحده لا يجد معه من يتكلم و قد قال عليه السلام : «رحم اللّه عبدا سكت فسلم، أو تكلّم فغنم‌» و لا يسلم في الغالب من آفاته إلا من آثر الخلوة على الاجتماع. و قال شيخ شيوخنا سيدي علي رضي اللّه تعالى عنه: إذا رأيت الفقير يؤثر الخلوة على الاجتماع، و الصمت على الكلام، و الصيام على الشبع فاعلم أن حبجه قد عسل و إذا رأيته يؤثر الخلطة و الكلام و الشبع على ضدها فاعلم أن حبجه خاوي. و قال في القوت: و في كثرة الكلام قلة الورع، و عدم التقوى، و طول الحساب، و نشر الكتاب و كثرة الطالبين، و تعلق المظلومين بالظالمين، و كثرة الأشهاد من الكرام الكاتبين، و دوام الإعراض عن الملك الكريم، لأن الكلام مفتاح كبائر اللسان و فيه الكذب و فيه الغيبة و النميمة و الزور و البهتان ثم قال: و في الخبر: «أكثر خطايا ابن آدم في لسانه، و أكثر الناس ذنوبا يوم القيامة أكثرهم خوضا في ما لا يعني» انتهى.

الفائدة الثانية: حفظ البصر و السلامة من آفات النظر فإن من كان معتزلا عن الناس سلم من النظر إليهم و إلى ما هم منكبون عليه من زهرة الدنيا و زخرفها قال تعالى: وَ لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى‌ ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ‌ [طه: 131]، فتمنع بذلك النفس من التطلع إليها و الاستشراف لها و منافسة أهلها. و قال محمد بن سيرين رضي اللّه تعالى عنه: إياك و فضول النظر فإنها تؤدي إلى فضول الشهوة. و قال بعض الأدباء: من كثرت لحظاته‌ دامت حسراته. و قالوا: إن العين سبب الحين أي الهلاك، و من أرسل طرفه اقتنص حتفه، و إن النظر بالبصر إلى الأشياء يوجب تفرقة القلب انتهى.

الفائدة الثالثة: حفظ القلب و صونه عن الرياء و المداهنة و غيرهما من الأمراض. قال بعض الحكماء: من خالط الناس داراهم، و من داراهم راءاهم، و من راءاهم وقع فيما وقعوا، فهلك كما هلكوا. و قال بعض الصوفية: قلت لبعض الأبدال المنقطعين إلى اللّه: كيف الطريق إلى التحقيق. قال: لا تنظر إلى الخلق فإن النظر إليهم ظلمة. قلت: لا بد لي. قال: فلا تسمع كلامهم فإن كلامهم قسوة. قلت: لا بد لي. قال: فلا تعاملهم فإن معاملتهم خسران و حسرة و وحشة. قلت: أنا بين أظهرهم لا بد لي من معاملتهم. قال: فلا تسكن إليهم فإن السكون إليهم هلكة. قلت: هذا لعله يكون. قال: يا هذا تنظر إلى اللاعبين و تسمع كلام الجاهلين و تعامل البطالين و تسكن إلى الهالكين و تريد أن تجد حلاوة الطاعة و قلبك مع غير اللّه هيهات هذا لا يكون أبدا ثم غاب عني. و قال القشيري رضي اللّه تعالى عنه: فأرباب المجاهدة إذا أرادوا صون قلوبهم عن الخواطر الرديئة لم ينظروا إلى المستحسنات أي من الدنيا. قال: و هذا أصل كبير لهم في المجاهدات في أحوال الرياضة.

الفائدة الرابعة: حصول الزهد في الدنيا و القناعة منها و في ذلك شرف‌ العبد و كماله و سبب محبته عند مولاه لقوله صلى اللّه عليه و آله و سلم: «ازهد في الدنيا يحبّك اللّه، و ازهد فيما في أيدي الناس يحبّك الناس‌» انتهى.

و لا شك أن من انفرد عن الناس و لم ينظر إلى ما هم فيه من الرغبة في الدنيا و الانكباب عليها يسلم من متابعتهم في ذلك و يسلم من متابعة الطباع الرديئة و الأخلاق الدنيئة، و قلّ من يخالطهم أن يسلم من ما هم فيه و قد روي عن عيسى عليه السلام: لا تجالسوا الموتى فتموت قلوبكم. قالوا من الموتى يا روح اللّه؟ قال المحبون في الدنيا الراغبون فيها.

الفائدة الخامسة: السلامة من صحبة الأشرار و مخالطة الأرذال و في مخالطتهم فساد عظيم و خطر جسيم، ففي بعض الأخبار: «مثل الجليس السّوء كمثل الكير إذا لم يحرقك بشرره علق بك من ريحه‌». و قال سيدي عبد الرحمن المجذوب رضي اللّه تعالى عنه: الجلسة مع غير الأخيار ترذل و لو تكون صافيا أوحى اللّه تعالى إلى داود عليه السلام: «يا داود مالي أراك منتبذا و حدانيّا، فقال:

إلهي فليت الخلق من أجلك. فقال يا داود: كن يقظان، و ارتد لنفسك إخوانا، و كلّ أخ لا يوافقك على مسرتي فلا تصحبه فإنه لك عدو يقسّي قلبك و يباعدك منّي» انتهى. فإن أردت الصحبة فعليك بصحبة الصوفية، فإن صحبتهم كنز، لا نفاد له. قال الجنيد رضي اللّه تعالى عنه: إذا أراد اللّه بعبد خيرا أوقعه إلى الصوفية و منعه صحبة القراء. و قال آخر: و اللّه ما أفلح من أفلح إلا بصحبة من أفلح.

الفائدة السادسة: التفرغ للعبادة و الذكر و العزم على التقوى و البر، و لا شك أن العبد إذا كان وحده تفرغ لعبادة ربه و انجمع عليها بجوارحه و قلبه، لقلة من يشغله عن ذلك.

قال في القوت: و أما الخلوة فإنها تفرّغ القلب من الخلق و تجمّع الهمم بالخالق و تقوّي العزم على الثبات إلخ كلامه.

الفائدة السابعة: وجدان حلاوة الطاعات و تمكن لذيذ المناجاة لفراغ سره و هذا مجرب صحيح. قال أبو طالب: و لا يكون المريد صادقا حتى يجد في الخلوة من الحلاوة و النشاط و القوة ما لا يجده في العلانية و حتى يكون أنسه في الوحدة و روحه في الخلوة و أحسن أعماله في السر انتهى.

الفائدة الثامنة: راحة القلب و البدن فإن في مخالطة الناس ما يوجب تعب القلب بالاهتمام بأمرهم و تعب البدن بالسعي في أغراضهم و تكميل مرادهم و إن كان في ذلك الثواب فقد يفوته ما هو أعظم و أهم و هو جمع القلب في حضرة الرب.

الفائدة التاسعة: صيانة نفسه و دينه من التعرض للشرور و الخصومات التي توجبها الخلطة فإن للنفس تولعا و تسارعا للخوض في مثل هذا إذا اجتمعت بأرباب الدنيا و زاحمتهم فيها و للشافعي رضي اللّه تعالى عنه:
ذو من يذق الدّنيا فإني طعمتها
و سيق إليّ عذبها و عذابها
فلم أرها إلا غرورا و باطلا
كما لاح في ظهر الفلاة سرابها
و ما هي إلا جيفة مستحيلة
عليها كلاب همّهنّ اجتذابها
فإن تجتنبها عشت سلما لأهلها
و إن تجتذبها ناهشتك كلابها
فطوبى لنفس أوطأت قعر بيتها
مغلّقة الأبواب مرخى حجابها

الفائدة العاشرة: التمكن من عبادة التفكر و الاعتبار و هو المقصود الأعظم من الخلوة و في الخبر: «تفكّر ساعة خير من عبادة سبعين سنة»، و كان عيسى عليه السلام يقول: «طوبى لمن كان كلامه ذكرا و صمته تفكّرا و نظره عبرة،و إن أكيس الناس من دان نفسه و عمل لما بعد الموت» و قال كعب: من أراد شرف الآخرة فليكثر من التفكر. و كان أفضل عبادة أبي الدرداء التفكر و ذلك لأنه يصل به إلى حقائق الأشياء و يتبين الحق من الباطل و يطّلع بها أيضا على خفايا آفات النفوس و مكائدها و غرور الدنيا و يتعرف بها وجوه الحيل في التحرز عنها و الطهارة منها. قال الحسن رضي اللّه تعالى عنه: الفكرة مرآة تريك حسنك من سيّئك و يطلع بها أيضا على عظمة اللّه و جلاله إذا تفكر في آياته و مصنوعاته و يطلع بها أيضا على آلائه و نعمائه الجلية و الخفية، فيستفيد بذلك أحوالا سنية يزول بها مرض قلبه، و يستقيم بها على طاعة ربه قاله الشيخ ابن عباد رضي اللّه تعالى عنه فهذه ثمرات عزلة أهل البداية.

و أما أهل النهاية: فعزلتهم مصحوبة معهم و لو كانوا وسط الخلق لأنهم أقوياء رضي اللّه عنهم محجوبون بالجمع عن الفرق و بالمعنى عن الحس استوي عندهم الخلوة و الخلطة لأنهم يأخذون النصيب من كل شي‌ء و لا يأخذ النصيب منهم شيئا و في هذا المعنى: قال شيخ شيوخنا المجذوب رضي اللّه تعالى عنه:

الخلق نوار و أنا أرعيت فيهم‌
هم الحجب الأكبر و المدخل فيهم‌

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق