ولما كان الخمول من مضامن الإخلاص بل لا يتحقق في الغالب إلا به إذ لاحظ فيه للنفس ذكره بعده فقال:
{ ادفن وجودك في أرض الخمول، فما نَبَت مما لم يُدفَن لا يتم نتاجه }.
الدفن: هو التغطية والستر
الخمول: سقوط المنزلة عند الناس
ونتائج الشجرة: ثمرتها
قلت: استر نفسك أيها المريد وأدفنها في أرض الخمول حتى تستأنس به وتستحليه ويكون عندها أحلى من العسل ويصير الظهور عندها أمر من الحنظل فإذا دفنتها في أرض الخمول وأمتدت عروقها فيه فحينئذ تجني ثمرتها ويتم لك نتاجها وهو سر الإخلاص والتحقق بمقام خواص الخواص وأما إذا لم تدفنها في أرض الخمول وتركتها على ظهر الشهرة تجول ماتت شجرتها أو أسقطت ثمرتها، فإذا جنى العارفون ما غرسوه من جنات معارفهم من العلوم وما دفنوه من كنوز الحكم ومخازن الفهوم بقيت أنت فقيراً سائلاً.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"رب أشعث أغبر ذي طمرين، مدفوع بالأبواب، لو أقسم على الله لأبره"، وفي مدح الخمول أحاديث كثيرة وفضائل مشهورة ولو لم يكن فيه إلا الراحة وفراغ القلب لكان كافياً.
وقال بعض الحكماء: "الخمول نعمة والنفس تأباه والظهور نقمة والنفس تهواه"، فإن قلت هذا الخمول الذي ذكرت فيه شهرة أيضاً إذ الخمول هو الخفاء عن أعين الناس وهذا فيه ظهور كبير قلت الخمول هو إسقاط المنزلة عند الناس وكتمان سر الولاية وكل ما يسقط المنزلة عندهم وينفي تهمة الولاية فهو خمول وإن كان في الحس ظهوراً.
واعلم أن الخمول ليس هو ما يفهمه العوام من لزوم البيوت والفرار إلى الجبال فذلك هو عين الظهور عند المحققين وإنما الخمول هو كما قال الشيخ زروق رضي الله عنه:" تحقق النفس بوصفها الأدنى وشعورها به أبداً ووصفها الأدنى هو الذل وكل ما يثقل عليها فمرجعه للتحقق بوصف التواضع وفائدته تحصيل العمل وكمال الحقيقة".
تنبيه: هذه الأدوية التي ذكرنا إنما هي في حالة المرض وأما من تحقق شفاؤه وكمل فناؤه فهو عبد الله سواء أظهره أو أخفاه وفي هذا قال أبو العباس المرسي رضي الله عنه:" من أحب الظهور فهو عبد الظهور ومن أحب الخفاء فهو عبد الخفاء وعبد الله سواء عليه أظهره أم أخفاه".
ولما كان التخلص من دقائق الرياء ومخادع النفوس لا يكون في الغالب إلا بالفكرة ولا تتم الفكرة إلا بالعزلة ذكرها فقال:
{ ما نفع القلب شيء مثل عزلة يدخل بها ميدان فكرة }
النفع إيصال الفائدة والقلب القوة المستعدة لقبول العلم والعزلة أنفراد القلب بالله وقد يراد بها الخلوة التي هي أنفراد القالب عن الناس وهو المراد هنا إذ لا ينفرد القلب في الغالب إلا إذا إنفرد القالب والفكرة سير القلب إلى حضرة الرب وهي على قسمين: فكرة تصديق وإيمان وفكرة شهود وعيان.
قلت: لا شيء أنفع للقلب من عزلة مصحوبة بفكرة لأن العزلة كالحمية والفكرة كالدواء فلا ينفع الدواء من غير حمية ولا فائدة في الحمية من غير دواء فلا خير في عزلة
لا فكرة فيها ولا نهوض لفكرة لا عزلة معها إذ المقصود من العزلة هو تفرغ القلب والمقصود من التفرغ هو جولان القلب وإشتغال الفكرة والمقصود من إشتعال الفكرة تحصيل العلم وتمكنه من القلب وتمكن العلم بالله من القلب هو دواؤه وغاية صحته وهو الذي سماه الله القلب السليم قال الله تعالى في شأن القيامة:" يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم" أي صحيح. وقد قالوا إن القلب كالمعدة إذا قويت عليها الأخلاط مرضت ولا ينفعها إلا الحمية وهي قلة موادها ومنعها من كثرة الأخلاط وفي الحديث: "المعدة بيت الداء والحمية رأس الدواء" وكذلك القلب إذا قويت عليه الخواطر وأستحوذ عليه الحس مرض وربما مات ولا ينفعه إلا الحمية منها والفرار من مواطنها وهي الخلطة فإذا إعتزل عن الناس وإستعمل الفكرة نجح دواؤه وإسقام قلبه وإلا بقي سقيماً حتى يلقى الله بقلب سقيم بالشك والخواطر الرديئة نسأل الله العافية قال الجنيد رضي الله عنه:" أشرف المجالس الجلوس مع الفكرة في ميدان التوحيد" وقال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه:" ثمار العزلة الظفر بمواهب المنة وهي أربعة كشف الغطاء وتنزل الرحمة وتحقق المحبة ولسان الصدق في الكلمة قال الله تعالى:" فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ ..." الآية.
واعلم أن في الخلوة عشر فوائد:
الأولى: السلامة من آفات اللسان فإن من كان وحده لا يجد معه من يتكلم وقد قال عليه السلام:" رحم الله عبداً سكت فسلم أو تكلم فغنم" ولا يسلم في الغالب من آفاته إلا من آثر الخلوة على الإجتماع وقال في القوت: وفي كثرة الكلام قلة الورع وعدم التقوى وطول الحساب ونشر الكتاب وكثرة الطالبين وتعلق المظلومين بالظالمين وكثرة الإشهاد من الكرام الكاتبين ودوام الإعراض عن الملك الكريم لأن الكلام مفتاح كبائر اللسان وفيه الكذب وفيه الغيبة والنميمة والزور والبهتان.
الفائدة الثانية: حفظ البصر والسلامة من آفات النظر فإن من كان معتزلاً عن الناس سلم من النظر إليهم وإلى ما هم منكبون عليه من زهرة الدنيا وزخرفها قال تعالى:"وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ"، فتمنع بذلك النفس من التطلع إليها والإستشراف لها ومنافسة أهلها.
الفائدة الثالثة: حفظ القلب وصونه من الرياء والمداهنة وغيرهما من الأمراض قال بعض الحكماء:" من خالط الناس داراهم ومن داراهم راءاهم ومن راءاهم وقع فيما وقعوا فهلك كما هلكوا" وقال بعض الصوفية:" قلت لبعض الأبدال المنقطعين إلى الله كيف الطريق إلى التحقيق قال لا تنظر إلى الخلق فإن النظر إليهم ظلمة قلت لا بد لي قال فلا تسمع كلامهم فإن كلامهم قسوة قلت لا بد لي قال فلا تعاملهم فإن معاملتهم خسران وحسرة ووحشة قلت أنا بين أظهرهم لا بد لي من معاملتهم قال فلا تسكن إليهم فإن السكون إليهم هلكة قلت هذا لعله يكون قال يا هذا تنظر إلى الاعبين وتسمع كلام الجاهلين وتعامل البطالين وتسكن إلى الهالكين وتريد أن تجد حلاوة الطاعة وقلبك مع غير الله هيهات هذا لا يكون أبداً ثم غاب عني".
الفائدة الرابعة: حصول الزهد في الدنيا والقناعة منها وفي ذلك شرف العبد وكماله وسبب محبته عند مولاه لقوله صلى الله عليه وسلم:" ازهد في الدنيا يحبك الله عز وجل وازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس"ولا شك أن من انفرد عن الناس ولم ينظر إلى ما هم فيه من الرغبة في الدنيا والإنكباب عليها يسلم من متابعتهم في ذلك ويسلم من متابعة الطباع الرديئة والأخلاق الدنيئة.
الفائدة الخامسة: السلامة من صحبة الأشرار ومخالطة الأرذال وفي مخالطتهم فساد عظيم وخطر جسيم قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ ، كَمَثَلِ الْعَطَّارِ ، إِنْ لَمْ يَحْذِكَ مِنْ عِطْرِهِ عَلِقَ بِكَ مِنْ رِيحِهِ ، وَمَثَلُ الْجَلِيسِ السُّوءِ ، كَمَثَلِ الْقَيْنِ ، إِنْ لَمْ يَحْرِقَكَ بِشَرَرِهِ ، عَلِقَ بِكَ مِنَ رِيحِهِ".
فإن أردت الصحبة فعليك بصحبة الصوفية فإن صحبتهم كنز لا نفاد له قال الجنيد رضي الله عنه:" إذا أراد الله بعبد خيراً أوقعه إلى الصوفية ومنعه صحبة القراء"، وقال آخر:" والله ما أفلح من أفلح إلا بصحبة من أفلح".
الفائدة السادسة: التفرغ للعبادة والذكر والعزم على التقوى والبر ولا شك أن العبد إذا كان وحده تفرغ لعبادة ربه وأنجمع عليها بجوارحه وقلبه لقلة من يشغله عن ذلك.
الفائدة السابعة: وجدان حلاوة الطاعات وتمكن لذيذ المناجات لفراغ سره وهذا مجرب صحيح قال أبو طالب: ولا يكون المريد صادقاً حتى يجد في الخلوة من الحلاوة والنشاط والقوة ما لا يجده في العلانية وحتى يكون أنسه في الوحدة وروحه في الخلوة وأحسن أعماله في السر".
الفائدة الثامنة: راحة القلب والبدن فإن في مخالطة الناس ما يوجب تعب القلب بالإهتمام بأمرهم وتعب البدن بالسعي في أغراضهم وتكميل مرادهم وإن كان في ذلك الثواب فقد يفوته ما هو أعظم وأهم وهو جمع القلب في حضرة الرب.
الفائدة التاسعة: صيانة نفسه ودينه من التعرض لشرور والخصومات التي توجبها الخلطة فإن للنفس تولعاً وتسارعاً للخوض في مثل هذا إذا اجتمعت بأرباب الدنيا وزاحمتهم فيها.
الفائدة العاشرة: التمكن من عبادة التفكر والإعتبار وهو المقصود الأعظم من الخلوة وفي الخبر:" تفكر ساعة خير من عبادة سبعين سنة" قال الحسن رضي الله عنه:" الفكرة مرآة تريك حسنك من سيئك" ويطلع بها أيضاً على عظمة الله وجلاله إذا تفكر في آياته ومصنوعاته ويطلع بها أيضاً على آلائه ونعمائه الجلية والخفية فيستفيد بذلك أحوالاً سنية يزيل بها امراض قلبه ويستقيم بها على طاعة ربه، قاله الشيخ ابن عباد رضي الله عنه:" فهذه ثمرات عزلة أهل البداية وأما أهل النهاية فعزلتهم مصحوبة معهم ولو كانوا وسط الخلق لأنهم أقوياء رضي الله عنهم محجوبون بالجمع عن الفرق وبالمعنى عن الحس استوى عندهم الخلوة والخلطة لأنهم يأخذون النصيب من كل شيء ولا يأخذ النصيب منهم شيئاً"، وفي هذا المعنى قال شيخ شيوخنا المجذوب رضي الله عنه:
الخلق نوار وأنا أرعيت فيهم ... هم الحجب الأكبر والمدخل فيهم
فإن أضاف المريد إلى العزلة الصمت والجوع والسهر فقد كملت ولايته وظهرت عنايته وأشرقت عليه الأنوار وأنمحت من مرآة قلبه صور الأغيار.