آخر الأخبار

random
جاري التحميل ...

المنح القدوسيّة في شرح المرشد المعين بطريق الصوفيّة -3

قال بعد تقديمه لاسم الله طيب الله ثراه :

يقول عبد الواحد بن عاشرِ 
مبتدئا بإسم الإلاه القادرِ

هذا شأن العارفين بالله الابتداء به والانتهاء به ، ولا يتمكن لأحدهم أن يبتدئ بغيره قولا وفعلا . ولهذا قال مخبراً عن نفسه ابتدأت القول حالة كوني متلبساً باسم الله ، أي فانياً فيه ومتلاشياً حتى صار هو المبتدأ في القول لا أنا ، ورجزت النظم باسم الله لا بنفسي ، خشية على القارئ أن يتوهم أو يفهم مني أنني المتكلم ، فيحتجب عن الله ويطرد بسبب مراعاته لي . وهذا المقام هو مقام أهل الفناء في الاسم الأعظم ، فالغالب على الذاكر أن يرى نفسه آلة كالقلم . كما صرح بذلك بعض العارفين من أهل هذا العلم : 
ترانيَ كالآلاتِ وهْو محرِّكي  
أنا قلمٌ والاقتدارُ أصابعُ   
لإنّ المريد إذا حصل له الفناء والاستغراق في الاسم يخرج به عن نفسه ، وعن دائرة حسّه ولم يبق له إلاّ الاسم ممتزجا بدمه ولحمه ، فإذا قام فبه وإذا تكلّم ففيه .
قال الشبلي رضي الله عنه: (كنت سائحا في بريّة فإذا بجارية مصفرة اللون مغبرة الثياب وهي ناهضة بأسرع مشي ، فقلت: رفقا على نفسك يا أمة الله ، فقالت: هو ، هو، فقلت لها: من أين أتيت؟ فقالت: من هو ، فقلت لها: ما اسمك؟ فقالت: هو ، فقلت: ماذا تريدين بقولك هو؟ الله تريدين ، فصعقت صعقة حين سمعت اسم الله ، ففاضت منها نفسها رحمة الله عليها ، وعلى أمثالها ، والله أرجو أن ينظّمنا في سلك الذاكرين بمنّه وكرمه. ثم قال رضي الله عنه :

 الحمد لله الذي علَّمنَــــــــــا 
 من العلُومِ ما بهِ كلّفَنـــــا 

الحمد لله راجع للاسم المستعان به أول البيت ، لأن الاسم عند القوم هو عين المسمى ، ولهذا لما حصل الاستغراق لهذا القائل في الاسم حتى غابت أوصافه في أوصاف ربّه ، واضمحلت مساويه في محامد سيده ، وصار عالما بعد أن كان مكبولاً في قيد جهله قال : الحمد لله الذي علَّمنَــــــــــا . وأما قبل ذلك فلم يكن عالماً بنفسه . ولما صار قوله بربه ،  فلا بأس حيث تغطّت اوصافه بأوصافه ، وصار وجوده منطويا في وجوده ، فأخبر عن نفسه بالعلم ، ولو أخبر قبل ذلك لكان علمه جهلا ، لأن من قال أنا عالم فهو جاهل ، والعلماء بالله لا يخبرون عن أنفسهم بالعلم حتى يصلوا لهذا المقام المذكور . ثم اعلم أن العلم ينقسم إلى قسمين : مكسوب وموهوب . فالمكسوب متعلق بالأحكام ، والموهوب متعلق بمنزل الأحكام . وقد تقدّم أنّ العلم يشرف بشرف المعلوم . ثمّ قال رضي الله عنه:

صلّى وسلّم على محمد 
وآله وصحبه والمقتدى

الصلاة عند القوم معناها التجلّي الإلهيّ . وذلك إذا تجلى الله تبارك وتعالى على عبد من عباده واجتباه إليه وأدخله في حضرته ، وصار يظهر له أحيانا ويغيب عنه أحيانا ، يتشوق العبد لذلك التجلي . وكلما ظهر إليه إلا وتسكن روعته ويطمئن قلبه .  وذلك لا يقع إلاّ لأنبيائه وخواص أوليائه . ولهذا لا يجوز لأحدنا أن يسأل من الله أن يصلّي على غير أنبيائه ، كخواص أوليائه ، اللّهم إلاّ بالتبعية لكونه مقاما شريفا لا يناله إلاّ خواص أهل التعريف . والصلاة بمعنى التجلّي إن كانت من الله ، وإلاّ فهي بمعنى الدعاء ، فإذا قلت : اللّهم صلّ على محمد وعلى آله ، كأنّك تقول اللّهم تجلّ على محمد وعلى آله .
ولو لم تكن بمعنى التجلي لما رغب فيها عليه الصلاة والسلام ، وأمرنا أن نصلي عليه في كل وقت وحال إذ المراد منه تجلي الذات الجامعة للأسماء والصفات حتى يخرج بذلك التجلي عن رؤيته للمكونات وتكون هذه حالته في غالب الأوقات ، ويصير لا يكاد أن يسعه ما سوى الله . وفي هذا المقام قال عليه الصلاة والسلام : "لي وقت لا يسعني فيه غير ربي" . وهذا الوقت هو وقت صلاة الله عليه ، أي تجليه عليه . ولا زال يسأل في ذلك التجلي والأمة تسأل فيه له إلى يوم الدين . ولو كانت الصلاة بمعنى الرحمة لاكتفى بها عند قوله تعالى :(وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) (الأنبياء107) .وزيادة فطالب الذات لا يقف مع الصفات . وحاصل الأمر أنّ الصلاة من الله على عباده هي غاية عطفه عليهم ، وغاية قربهم منه . فإذا حصلت لأحدهم حصل له الكلّ ، وبها يخرج الله أولياءه من قيد أنفسهم إلى مشاهدة ربّهم ، وذلك بقوله تعالى: (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ)( / الأحزاب آية / 43), أي يخرجكم من ظلمات الكون إلى نور المكوّن ، أو من قيد الأغيار إلى فضاء الأسرار . ولهذا لم يكتف أحد من الصلاة بل كلهم طالبون ترادفها ولهذا يقال أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ينتفع بالصلاة عليه . نعم ينتفع بها ، ولم يحل له الجنان والزخارف بدونها (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ )(القيامة آية / 22, 23) ، هذا معنى الصلاة والله أعلم .
 وأمّا السلام من الله على عباده فبمعنى الأمان والثبات في ذلك التجلي الواقع عليهم ، ولهذا ينبغي للإنسان أن لا يسأل من الله مفرد الصلاة ، لأن السلام كناية عن الثبات والتمكن في ذلك التجلي . وقد يصلي الله تبارك وتعالى على جماعة من عباده ويتأخر بالسلام عليهم ، فيعود ذلك التجلي عليهم بالتهتك والارتعاب والاهتزاز والاضطراب ، فيزداد قلقهم ويكثر صياحهم ويفشون بعض الكلام عند غير أهل المقام ، فيرمونهم بالزور ، ويحكمون عليهم بالجور ، وسبب ذلك انفراد الصلاة من الله عليهم . 
 فإذا أراد الله تبارك وتعالى صيانتهم وصيانة غيرهم بسببهم ، أعقب الصلاة بالسلام عليهم ، فعند ذلك تسكن روعتهم ويستقيم سيرهم ويصير ظاهرهم مع الخلق وباطنهم مع الحق ، جامعين بين الضدين ، عالمين بأحكام المقامين . وهؤلاء ورثة الأنبياء وعلى هذا المقام الشريف يعبّرون بالسكر والصحو والفناء والبقاء  وغير ذلك من اصطلاحاتهم . فالسكر كناية عن الصلاة من الله عليهم ، والسلام كناية عن الصحو بعد استغراقهم في مشاهدة ربّهم . ثم اعلم أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام اختصوا بمقارنة الصلاة مع السلام من الله عليهم دفعة أو على الترتيب ، وأما الأولياء رضي الله عنهم قد يخص بعضهم بالصلاة دون السلام . وهذا المقام هو المسمى بالكسر ، كما بيناه ، فمنهم من يموت على هذه الحالة ، ومنهم من يرجع لحسه من رسوخ الباطن في السكر :(كُلًّا نُّمِدُّ هَٰؤُلَاءِ وَهَٰؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ ۚ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا)(الإسراء:20)

وحاصل الأمر أنّ الصلاة من الله على أحبابه كناية عن الوصول والاجتماع ، كما أنّ اللعنة على أعدائه كناية عن البعد والانقطاع أجارنا الله والمسلمين من ذلك آمين.


التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق